"إسرائيل"... وهم التفاوض من موقع القوة

نجاح القيادة السورية الجديدة في بناء الثقة بينها وبين الولايات المتحدة، أعطى انطباعاً بأنها راغبة في الانفتاح على المجتمع الدولي، والانتقال بسورية من ضفة إلى أخرى.

  • الكيان الإسرائيلي والواقع السوري الجديد..
    الكيان الإسرائيلي والواقع السوري الجديد..

تشهد العلاقات السورية الأميركية تطوراً يمكن عده "تاريخياً"، خاصة وأنه يسعى لنقل سوريا من الضفة المعادية للولايات المتحدة إلى ضفة المظلة الأميركية الغربية، وهو ما يعني تغيراً ليس فقط في السلوك السياسي السوري، بل انقلاباً على "المبادئ السياسية"التي تربى عليها الشعب السوري، ولعقود مضت. 

المشكلة أن التعاطي السوري مع السياسة الأميركية كان ينطلق من فكرة الانحياز الأميركي لـ "إسرائيل"، والدور التاريخي للولايات المتحدة الأميركية في ضياع الحقوق العربية، وخاصة الجولان والقضية الفلسطينية.

الإدارة السورية الجديدة لديها رغبة في محاولة فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة الأميركية، انطلاقاً من فكرة عدم العداء لـ "إسرائيل"، وتفهم الطبيعة الخاصة للعلاقات الأميركية الإسرائيلية، ومحاولة الاستثمار في التوجهات الجديدة لإدارة ترامب الساعية إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، للتفرغ لمعركته الأساسية (مواجهة الصين)، أو السعي للحد من نموها على أقل تقدير. 

الدور العربي الداعم لسوريا، والعلاقات الجيدة بين ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أسهمت في تشجيع ترامب على اتخاذ قراره التاريخي برفع العقوبات عن سورية.

عندما تحدث الرئيس ترامب في مايو/ أيار الماضي عن قضية رفع العقوبات عن سوريا، شكك الكثيرون بذلك، خاصة وأن تلك العقوبات كانت قد فرضت خلال 46 عاماً، وعبر إدارات أميركية متعاقبة.

كثيرون قالوا أن ذلك سيحتاج إلى ستة أشهر، وربما سنة أو أكثر، لكن ذلك تحقق خلال ستة أسابيع فقط، حيث ألغى ترامب خمسة مراسيم كانت قد تضمنت فرض عقوبات على أكثر من خمسة آلاف شخص وجهة سورية.

المشكلة أن الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى الإدارة الأميركية لصياغته لن يكون إلا على حساب العرب، فتركيا قوية، وإيران فشلت كل محاولات استهدافها، وكل المؤشرات تشير إلى مواجهة قادمة بينها وبين تحالف قد تقوده هذه المرة الولايات المتحدة وإسرائيل، ولن يكون للعرب القدرة على رفض المشاركة فيه.

لماذا أسرع ترامب في رفع العقوبات عن سوريا...

سوريا ثالث أكثر دولة تعرضت للعقوبات بعد كل من روسيا وإيران. فما استطاع ترامب فعله خلال أسابيع في مجال رفع العقوبات عنها، كان سيحتاج لأشهر وربما أعوام، فيما لو كان في عهد رئيس جديد غيره.

يسعى ترامب إلى انتهاج سياسة اغلاق الملفات وتصفيتها، بعقلية التاجر الذي يريد التفرغ لعقد صفقات جديدة، وهذا شيء إيجابي يمكن للدول العربية الاستفادة منه، خاصة وأنهم يستطيعون تقديم ما عجز عنه الآخرون.

اسراع ترامب في رفع العقوبات عن سوريا ناتج من عدة اعتبارات، أولها موقع سوريا الجيواستراتيجي في قلب منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي يسعى ترامب لجعلها هادئة، وفقاً لتصوراته.

رغبة ترامب في ارضاء أصدقائه في المنطقة، وخاصة المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر والامارات، حيث كان لهذه الدول دوراً كبيراً في اقناعه بضرورة رفع العقوبات عن سوريا، تمهيداً لتأهيلها وإعادة انخراطها في المجتمع الدولي.

نجاح القيادة السورية الجديدة في بناء الثقة بينها وبين الولايات المتحدة، عبر تطبيقها للمطالب الأميركية التي كانت قد تعهدت بتنفيذها، أعطى انطباعاً بأنها راغبة في الانفتاح على المجتمع الدولي، والانتقال بسوريا من ضفة إلى أخرى، وهو حدث تاريخي يجب دعمه، وفقاً للتصورات الأميركية.

عزل سوريا في الماضي دفعها إلى الاقتراب من إيران وروسيا، وبالتالي يجب انتهاج سياسة جديدة حيالها، خاصة وأن القيادة السورية الجديدة قطعت جميع علاقاتها مع طهران، وابتعدت عن روسيا والصين، وتسعى لتطوير علاقاتها مع أوكرانيا والمغرب، وغيرها من الدول التي تدور في الفلك الأميركي.

التعاون السوري في مجال مكافحة الإرهاب، والتعاطي الايجابي حول ملف الأسلحة الكيماوية، والتعاون في مجال البحث عن الصحفي الأميركي اوستن تايس المختطف من قبل نظام الأسد، كلها أسهمت في تعزيز الثقة بين الجانبين السوري والأميركي.

رغبة سوريا في السلام مع "إسرائيل" تلقى ارتياحاً من قبل ترامب، خاصة وأن "إسرائيل" تشكل محدداً رئيسياً للسياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وتجاه سوريا بشكل خاص.

قيام سوريا بالحد من نشاط الفصائل الفلسطينية التي كانت تاريخياً متواجدة في دمشق، يعزز من القناعة بأن القيادة الجديدة في سوريا ليست معنية بما يحدث خارج حدود بلدها، وبالتالي فلا "جهاد عابر للحدود"، ولا تبني للمواقف القومية، في المرحلة الحالية على أقل تقدير.

لهذه الأسباب وغيرها، يسعى ترامب لإنجاح سوريا، ولكن ليس على حساب المصالح الأميركية بكل تأكيد، ودون المساس بمصالح "إسرائيل"، ومراعاة لرغباتها قدر المستطاع.

"إسرائيل"... وهم التفاوض من موقع القوة

ترى "إسرائيل" أن ما تمر به سوريا يشكل لحظة تاريخية يجب العمل على استغلالها، حيث نفذت أكثر من 700 غارة جوية منذ سقوط النظام، كان الهدف منها تدمير ما تبقى من أسلحة كان الجيش السوري قد تركها في ثكناته.

التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري في محاولة منها لفرض واقع جديد يسهم في تعزيز أوراق التفاوض التي بين يديها، حيث احتلت ما يزيد عن 600 كم2، أي ما يقارب مساحة دولة البحرين.

سيطرة "إسرائيل" على مصادر المياه في المنطقة يزيد من تعقيدات المشهد، خاصة وأن سوريا تعاني من أكبر موجة جفاف تتعرض لها البلاد منذ ستة عقود.

زيارة رئيس الأركان الاسرائيلي للجولان السوري المحتل تعطي رسائل سياسية بعدم رغبة إسرائيل في التنازل عنها، خاصة وأن ترامب كان هو من اعترف بضم إسرائيل للجولان، بموجب مرسوم رئاسي وقعه بتاريخ 25 آذار 2019، خلال ولايته الأولى.

مساعي "إسرائيل" للعب على ورقة الأقليات تبدو مكشوفة، ولكن لا يمكن الاستهانة بها، في ظل وجود أطراف سورية تدعي تمثيلها لتلك الأقليات، وتجاهر برغبتها بالاستقواء بإسرائيل عند الضرورة.

علاقة "إسرائيل" مع قوات سوريا الديمقراطية تزيد من تعقيدات المشهد، والحديث عن ما يسمى بممر داود يعطي انطباعاً بأن هناك مشروعاً إسرائيلياً يستهدف وحدة وسلامة الأراضي السورية.

محاولة نتنياهو تقديم أي انجاز سياسي للداخل الصهيوني لا تقل عن رغبة ترامب وحاجته إلى أية انتصارات قد تسهم في حرف أنضار الرأي العام عن الفشل الذريع في استهداف إيران وعدم القدرة على تدمير برنامجها النووي.

تدرك "إسرائيل" جيداً أهمية سوريا ومكانتها ودورها في معادلة الصراع العربي الصهيوني، ولعل مقولة: "لا حرب بلا مصر، ولا سلام دون سوريا"، حاضرة وراسخة ومتجذرة في ذهن صانع القرار الصهيوني.

التعاطي السوري مع الاستهدافات الصهيونية...

تتعاطى الإدارة السورية بواقعية مع ما يحدث في المنطقة بشكل عام، وسوريا بوجه خاص، وتنطلق من رغبتها في "تصفير المشاكل" مع الجميع، سعياً للتفرغ لإعادة اعمار سوريا. 

المرونة التي تبديها سوريا يجب أن لا تفهم على أنها ليونة، فالتفريط بالحقوق يفقد الحكومة السورية شرعيتها، وبالتالي فلا مجال للحديث عن فكرة التنازل عن الجولان مقابل تحقيق السلام فقط.

المزاج العام في سوريا غير متقبل لفكرة التطبيع مع "إسرائيل"، خاصة وأن التجارب أثبتت أن الدول العربية التي طبعت مع "إسرائيل" لم تصبح أحوالها أفضل.

الإسرائيليون أنفسهم ليس لديهم قناعة ورغبة حقيقية في السلام مع العرب، لذا نرى استهدافات إسرائيلية لسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، ودور إسرائيلي خفي وعدائي للعديد من الدول العربية.

"الأرض مقابل السلام" هو المبدأ المقبول، على مضض، من قبل الشعب السوري، الذي أجهدته الحرب وبات مكرهاً على التنازل عن بعض المبادئ التي تربى عليها. أما المساعي الإسرائيلية لتكريس مبدأ "السلام مقابل السلام"، فلا مجال حتى لمناقشتها، وفقاً للتصورات السورية.

الحديث عن التطبيع بين البلدين أمر مستبعد في المرحلة الحالية، خاصة وأن التطبيع يكون ما بعد السلام، باعتباره خياراً شعبياً لا رسمياً.

كل ما يمكن العمل عليه في المرحلة الحالية هو السعي لعقد اتفاقية أمنية بين البلدين، الهدف منها القيام ببعض التعديلات على اتفاقية فصل القوات الموقعة بين البلدين في العام 1974، والتي خرقتها إسرائيل بعد سقوط النظام في سوريا، وأعلنت انسحابها منها.

تعديل اتفاق فض الاشتباك بين الجانبين قد ينص أيضاً على تعاون وتنسيق أمني بين سوريا وإسرائيل ضد إيران وحزب الله، وهو ما كان قد تحدث عنه الرئيس الشرع بالقول: "نحن وإسرائيل لدينا عدو مشترك".

اعلان "إسرائيل" اعتقال أفراد خلية تجسس تعمل لصالح إيران في مدينة القنيطرة السورية يصب في هذا الإطار، وقد يشكل البداية لاعلانات قادمة حول التنسيق الأمني بين البلدين.

من الممكن أيضاً أن يجري الاتفاق على وجود قوات أميركية بين البلدين، ضمن قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة والمعنية بمراقبة تطبيق اتفاقية فصل القوات، والتي صوت مجلس الأمن الدولي مؤخراً على تمديد مهمتها لمدة ستة أشهر.

اعتراف "إسرائيل" بالسيادة السورية على مزارع شبعا هو أحد الخيارات المطروحة، وكذلك مناقشة قضايا المياه ونهر اليرموك بالتعاون مع الجانب الأردني.

المشكلة تكمن في غياب الثقة بين الجانبين السوري والإسرائيلي، وعدم وجود راع نزيه قادر على رعاية المفاوضات بين الطرفين، خاصة وأن أميريكا ليست وسيطاً نزيهاً بكل تأكيد.

الحديث عن انضمام سوريا إلى اتفاقيات السلام الابراهيمي أمر مستغرب، فالحالة السورية مختلفة عن باقي الدول العربية التي انضمت لهذا المسار والتي لا تربطها حدود مع "إسرائيل"، وبالتالي ليس لها أراض محتلة.

الصور التي نشرتها "إسرائيل" حول السلام الابراهيمي كانت بغياب كل من قطر وتركيا، فما موقف تلك الدولتين من هذا المسار، وهل ستقفان ضد انضمام سوريا إليه، خاصة وأنهما الدولتين الأقرب للقيادة السورية الجديدة. 

التوهم الإسرائيلي بأن سوريا باتت اليوم ضعيفة، وبالتالي فإن فرض شروط السلام عليها باتت ممكنة أكثر من قبل، قد لا تبدو صحيحة بالضرورة.

صحيح أن سوريا ضعيفة لكنها ليست عاجزة بكل تأكيد، والقيادة السورية ورغم دعوتها إلى السلام ورغبتها فيه، إلا أنها قادرة على إثارة الفوضى ونشر الصراعات في المنطقة، إذا ما شعرت أن وجودها بات مهدداً بالخطر.