"التّفَرعُن" الإسرائيلي، هل يُطيح بالمسجد الأقصى!

التمرُّدَ على صفاء الفطرة البشرية، والسعي للسطو على آدمية الآخرين عبر الأفكار الاستعلائية، أو من خلال السلوك الذي ينتقص من قَدْرهم ويجرح كرامتهم، هما ما يحكم علاقة "إسرائيل" بمحيطها العربي أصلاً.

0:00
  • هل ساهم العرب في تعزيز
    هل ساهم العرب في تعزيز "النرجسية" الإسرائيلية المقيتة وتضخيمها؟

من حُسن "حظ" المسلمين والعرب أنّ بن غفير وسموتيريتش لا يتقنان العربية، وعلى الأرجح أنهما يزدريانها كما يزدريان الناطقين بها. ومع ذلك لا تبدو العلة في أنّ الأمّة العربية لا تفهم العبرية، أو أنّ بن غفير وسمتيرتش لا يتقنان العربية، بل في كون لسانهما العبري الأرعن، المُفهوم عربياً، وأفعالهما الأكثر رعونة، ما عادت تَقُضّ للأمّة العربية "الميتة أصلاً" مضجعاً، أو تُحرّك فيها ساكناً! 

والمؤكّد أنّ "ثنائي التوحّش"، ومن لفّ لفيفهما في المجتمع الإسرائيلي، أدركوا هذا الأمر مبكراً، مع بداية حربهم التدميرية على القطاع والضفة وغيرهما، فلم يعودوا يخشون المجاهرة بنيّاتهم أو يستترون من فظاعة أفعالهم، فظاهرهم سبق باطانهم في فضح سواد قلوبهم وسوء نيّاتهم.

 وليت الأمة العربية وقفت عند حدّ "الموت السريري" لضميرها ونخوتها وعروبتها، بل إنّ بعض العرب "تَصهين" ضميره و"تَعَبرَن" قوله وفعله، فصار لسان حالٍ لبن غفير وسموتريتش، يقول بما يقولان ويطالب بما يطالبان من دون خجل أو وجل، ما فتح شهية اليمين الصهيوني على مزيد من التغوّل والتوحّش تجاه الأمة العربية والإسلامية ورموزها ومقدّساتها. 

وليس مستغرباً، والحال هذه، أن وصل الأمر بأحد الصهاينة القول، ساخراً من العرب،: "قالوا لنا بأنّ صلاة يهـودي واحد في المسجد الأقصى ستُغضب العرب وستُشعل الشرق الأوسط، واليوم الآلاف من اليهـود صلّوا، رقصوا، غنّوا، ورفعوا الأعلام الإسرائيلية هناك، ولم يحدث شيء". وهو نفسه الذي قال قبل أيام، متبجّحاً أيضاً: "بتنا نَقتُل في غزة 100 فلسطيني في اليوم ولا أحد يبالي".

في أيلول/سبتمبر 2000، أقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "أرييل شارون" على اقتحام المسجد الأقصى، فقامت الدنيا ولم تقعد، واندلعت انتفاضة الأقصى وضجّت الأمة بالتظاهرات والمواقف السياسية المُندّدة.

أما اليوم، فهذا هو ثامن اقتحام استعراضي استفزازي لبن غفير للأقصى، ثاني أقدس مقدّسات المسلمين، منذ تولّيه وزارة "الأمن القومي الإسرائيلي"، يمرّ هادئاً سَلِساً كأنّ شيئاً لم يحدث، إذ يبدو أنّ العرب اعتادوا المشهد الذي درج بن غفير على فعله في المسجد الأقصى، الذي يسمّيه "جبل الهيكل"، أهم الأماكن بالنسبة إلى "شعب إسرائيل"؛ والتدرّج تعويد والتعويد مصمّمٌ للوصول إلى حيث تصبو "إسرائيل" وتحيك لهذا المكان الإسلامي المُقدّس. 

وما "تفرعن فرعون إلّا بمَن فرعنوه"، حتى قال سموتريتش في كلمته أمام حائط البراق غربي المسجد الأقصى المبارك قبل أيام فيما يُدعى "احتفال إسرائيل بتوحيد القدس": "نحن نحرّر غزة، نستوطن غزة، وننتصر على العدو، وسنعمل على توسيع حدود إسرائيل وسنبني الهيكل مكان المسجد الأقصى وفي أيامنا، وبتمويلٍ من وزارتي".

ولو أنّ هذا الأرعن، بناء على طبائع الأشياء، ونواميس الكون، وجد أمّة حيّةً تعرف مصلحتها وتدافع عن أبنائها ومقدّساتها وتحميها، لوقف عند حدوده ولما تمادى في غيّه حتى فاخر علانيةً في نيّته هدم المسجد الأقصى، ولذلك قال بلسان الحال: "تفرعنت لأني لم أجد من يردعني ويقف في وجهي"، فقد فعل ما لم يفعله سابقوه من الصهاينة المجرمين، فجاوز الحدّ في القتل والدعوة إلى استمرار الإبادة والاحتلال وهدم المقدّسات.

والاستبداد كما يُخبر علماء النفس، يمثّل جنون العظمة والنرجسية، ولذلك وصَفَ القرآن فرعون بأنه "علا في الأرض" وهو تعبيرٌ عن تكبّره واعتقاده بأنه فوق الجميع.

مثل هذا السلوك ينشأ من إحساس داخلي بالأمان والاطمئنان وعدم الخوف من العواقب فيتجرّأ "الطاغية" على طلب المزيد، ولا يَلزَمُه إلا شعورٌ بضعف من حوله من العرب ممن يجعلونه قدراً وينفخون فيه الشعور بالعظمة، فيتماهى مع هذا الدور وتمتلئ نفسه غروراً وتفوّقاً وعلوّاً عليهم وعلى كلّ ما يمثّلهم مهما كانت درجة قداسته، فيراهم أذلة حُقراء وتافهين، فلا يقيم وزناً لحياتهم ولا لمقدّساتهم.

زد على ذلك، أنّ التمرُّدَ على صفاء الفطرة البشرية، والسعي للسطو على آدمية الآخرين عبر الأفكار الاستعلائية، أو من خلال السلوك الذي ينتقص من قَدْرهم ويجرح كرامتهم ومشاعرهم، هما ما يحكم علاقة "إسرائيل" بمحيطها العربي أصلاً.

لكنّ مجاراة هذا السلوك والنسج على منواله، من جانب العرب، رسميين وشعبيين، هما مؤشّرٌ ينذر بالسوء وبمزيد من إشاعة التغوّل الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية المحتلة، وخارج حدودها، كما بتنا نشهد اليوم.

إنّ ما يهمّنا هنا هو أن نفهم خطورة تعاطي العرب والمسلمين إيجاباً في تعزيز هذه "النرجسية" الإسرائيلية المقيتة وتضخيمها، إذ إنّ استمرار شعور الإسرائيلي بهذا الاستعلاء "السيادي" مبنيّ، بالإضافة إلى منابع التربية الدينية الاستعلائية، على مدى تساوق العرب مع تلك النظرة.

ولعل شواهد التصريحات والسلوك الإسرائيلي الحالي المُنفلت من كلّ ضابط، هي خير دليلٍ على أنه ما كان للإسرائيلي أن يتفوّه بهذه الخُزعبلات، فضلاً عن الانحدار إلى مستوى التنظير لها وطرحها علانيةً، لولا أنه اختبر العرب فاعتدى وبطش وقتل وحرق، ووجد ساحةً فارغةً إلّا من بعض الجعجعة والشجب والاستنكار، ولم يجد من العرب والمسلمين، على السواء، من يُعيدُه إلى سياق مكانته المُفترضة.   

لم يكتفِ بن غفير، على وقع صيحات "الموت للعرب" و"محمد مات"، بالمشاركة في رفع أعلام الاحتلال وأداء طقوس تلمودية عند المنطقة الشرقية من المسجد الأقصى المبارك في مسيرة الأعلام التي جرت قبل أيام، بل ألقى خطبة سياسية بامتياز تتجاوز المناسبة والشعائر الدينية اليهودية، فحَرّضَ على احتلال قطاع غزة أسوة بالقدس، واستنكر السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، مذكّراً رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأنّ "أعداءنا لا يستحقون سوى طلقة في الرأس". 

فيما ألقى زميله في الحكومة وشريكه في التطرّف والفاشية، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش خطبة استفزازية أمام حائط البراق كرّر خلالها أحلامه الإجرامية ببناء الهيكل مكان المسجد الأقصى في حياته وبتمويل من وزارته، وذكّر بأنّ الكيان الصهيوني لا يخاف من كلمة احتلال وسوف يحرّر غزة ويستوطن فيها. 

هذه التصريحات الهستيرية ليست غريبة عن سموتريتش، الذي اعتبر في السابق أنّ حدود القدس يجب أن تمتد حتى العاصمة السورية دمشق، وأنّ واجب "دولة" الاحتلال بسط سيطرتها على شرق الأردن. فهل بقي لدى العرب شكّ في نيّات هؤلاء وحدود ما يمكن أن يقودهم شعور الغطرسة والاستعلاء إلى قوله وفعله!

إنّ كلّ تَحَدٍ جديد تمارسه وتفرضه "إسرائيل" ويمينها المتطرّف الذي يحكمها اليوم، يُقابل عربياً بالامتثال لمطالبها بمواقف مُستجيبة ضعيفة، تكون نتيجته مَنحَها ومستوطنيها مكافأةً مجانية للمضي في سحق ما تبقّى من لحمنا وعظمنا ومقدّساتنا، فهل يصمد الأقصى للعام المقبل أمام معاول الهدم الإسرائيلية التلمودية التي تُهدّد صراحة بإزالته وبناء "الهيكل" مكانه، فيما تكتفي أمة المليار، في كناية فاضحة عن العجز المُستفحل، بالدعاء على نتنياهو وبن غفير وسموتريتش بأن يجعل الله تدميرهم في تدبيرهم!