السلطة الفلسطينية والمصير المجهول

نتيجة تقدير السلطة المبنيّ على الموقف تجاهها، دولياً وإسرائيلياً وإقليمياً، ارتكبت قيادتها أربعة أخطاء جسيمة ساهمت في القضم من شرعيتها ومكانتها.

  • الأصوات التي تنفجر الآن في وجه السلطة وترفع شعار
    الأصوات التي تنفجر الآن في وجه السلطة وترفع شعار "ارحل أبا مازن" ربما تنجح، ولو بعد حين.

تواجه السلطة الفلسطينية تحديات غير مسبوقة، منذ نشأتها قبل نحو 27 عاماً. وعلى الرغم من أن السلطة، ككيان نشأ نتيجة "اتفاقية أوسلو" عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة "فتح" و"إسرائيل"، كان يُفترض بها أن تتحوّل إلى دولة وفق حدود عام 1967، بعد خمسة أعوام على الاتفاقية. 

لقد مرّ أكثر من ربع قرن من دون تنفيذ ذلك الاستحقاق، لكنّ السلطة، بقيادة رئيسها أبي مازن، ما زالت تتمسك بمسارها السياسي، وتحاول المحافظة على السلطة المجرَّدة من الأرض والسيادة. ويعكس تصريح أبي مازن الشهير "نحن نعيش تحت بساطير الاحتلال"، الواقعَ على مرارته في الضفة الغربية المحتلة، وواقع السلطة في رام الله.

رئيس السلطة أبو مازن راهن على المجتمع الدولي وعلى الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولاسيما إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. وعلى الرّغم من أن السلطة واجهت تحدياً وجودياً في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، فإنّ أبا مازن لم يغيّر سياساته وأدواته، ولم يُراجع خياراته.

جددت السلطة الرهان على رئاسة جو بايدن الديمقراطي، والذي شغل منصب نائب الرئيس الأميركي الأسبق أوباما، ولم تستفد من رهانات الماضي.

مع مرور الزمن، تحوّل وجود السلطة من مجرّد وسيلة للوصول إلى الدولة ذات السيادة، وفق حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، والتخلّص من الاحتلال، إلى غاية تتطلّب المحافظة عليها التعاونَ والتنسيقَ مع الاحتلال، الذي يسعى الشعب الفلسطيني للتخلص منه!!

وبالتالي، تحوّلت السلطة إلى كيان وظيفي، وأداة لتحقيق الأمن والاستقرار للاحتلال ومستوطنيه، في مقابل سماح الاحتلال لها بالوجود والبقاء!!

وهناك مئات الشواهد التي تدلّل على صحة هذا الاستنتاج، وباتت تؤكده قيادات فتحاوية بارزة، شاركت في تأسيس السلطة وإنشائها.

بتحوّل جسم السلطة، كأداة تكتيكية، إلى هدف استراتيجي، تحوّل معها سلوكها سياسياً ووطنياً. وبدلاً من قيامها بمراجعة شاملة لسياساتها وأدواتها والبناء على ما أفرزته معركة "سيف القدس" عسكرياً وشعبياً، واستثماره سياسياً، عبر التقدُّم خطوات نحو مواجهة الاحتلال، فإنّ رئيس السلطة وحكومته وفريقه المتنفّذ، على العكس من ذلك تماماً، لم يعبّروا عن أيّ موقف يساند المقاومة وحاضنتها الشعبية في أثناء المعركة وبعدها، وهي المعركة التي أحيت الأمل في نفوس الفلسطينيّين والشعب العربي في التحرير والعودة. بل أكثر من ذلك، تعزَّز التعاون الأمني بين الشاباك الصهيوني وجهازي المخابرات والأمن الوقائي للسلطة، بتوجيهات مباشرة من أبي مازن، لمنع تنفيذ عمليات للمقاومة، وتحييد المواجهات الشعبية الخشنة مع الاحتلال في الضفة. 

والمعلومات من مصادرنا المؤكّدة، تتحدّث عمّا هو أخطر من مجرد تنسيق وتعاون، وربما سيأتي الوقت للكشف عن حقائق صادمة للرأي العام، فلسطينياً وعربياً.

بمجرد انتهاء معركة "سيف القدس" أقدمت السلطة على عدد من الخطوات الكارثية، التي عكست تمسُّكها بالسلطة ككيان وظيفي، والتشبّث ببقائها المجرد من المواصفات الوطنية، كأنها تنتقم من الحالة الوطنية المتفاعلة مع معركة "سيف القدس"، وأداء المقاومة البطولي وغير المسبوق في الأرض الفلسطينية.

عملت قيادة السلطة على تحويل معركة "سيف القدس" ونتائجها، من تهديد لوجودها وشرعيتها إلى فرصة لمصلحتها، من خلال السعي لتحقيق هدفين رئيسيين بعد المعركة: 

الأول، هو كيفية السيطرة والاستحواذ على الأموال والمشاريع والمنح الدولية المخصَّصة لإعادة إعمار قطاع غزة، والتي تُخرجها من أزمتها الاقتصادية الخانقة، بحسب معلوماتنا. 

وسببها الرئيسي تفشّي ظاهرة الفساد داخلها إدارياً ومالياً. وجال رئيس وزراء السلطة، محمد اشتية، في الدول شرقاً وغرباً، بهدف توجيه الأموال والمشاريع إلى السلطة، وهو ما لم ينجح فيه مطلقاً، بحسب المعلومات المؤكَّدة لدينا، الأمر الذي يعكس فقدان الثقة بالسلطة، مالياً واقتصادياً، والشكّ في نزاهتها، وهو ما يعزّز شبهات الفساد التي تُتَّهَم بها.

الهدف الآخر هو تحسين مكانتها وشرعيتها، دولياً وإقليمياً، بعد نجاحها في منع التوتر في الضفة في أثناء المعركة وبعدها، وتعزيز أهليتها، بالتالي، نجاحها في البقاء من أجل المحافظة على الأمن والاستقرار في المنطقة، أي "أمن "إسرائيل" واستقرارها"، الأمر الذي يفرض على المجتمع الدولي والإدارة الأميركية، المعنية بخفض التوتر في الشرق الأوسط، تجاوزَ عدم شرعية السلطة، انتخابياً وديمقراطياً وقانونياً، والتغاضي عن سلوكها تجاه المعارضة.  

قيادة السلطة تستخدم نجاحها في محاربة "المقاومة" كورقة وأداة لإثبات أهليتها في البقاء. والفزّاعة الأكبر هي تحذيرها من سيطرة المقاومة وحركة "حماس" على الضفة الغربية، في حال أُجريت انتخابات، أو تمّ التراجع عن الدعم الدولي للسلطة، وما لذلك من تبعات على أمن "إسرائيل" وحلفائها في المنطقة.

مع ذلك، فإن المقاومة العسكرية التي تُدينها قيادة السلطة وتتعاون أمنياً مع الاحتلال لملاحقتها في الضفة، هي التي رفعت مكانة السلطة السياسية، وأجبرت الرئيس الأميركي بايدن على إجراء الاتصال الأول منذ توليه الرئاسة برئيس السلطة أبي مازن.

وبناءً على تقديرات السلطة ورئيسها، ومفادها أن بقاء السلطة والمحافظة عليها أضحيا حاجة، أميركياً ودولياً وإسرائيلياً وإقليمياً، فإنها أقدمت على اتخاذ خطوات وسياسات كارثية تجاه قطاعات واسعة شعبية وتنظيمية في الضفة الغربية، عبّرت عن معارضتها سياسة السلطة تجاه عدد من القضايا، وانتهت باختطاف المعارض السياسي نزار بنات وقتله بطريقة بشعة، وأعقبتها احتجاحات شعبية واسعة واجهتها السلطة بالقمع والاعتقال والسحل. وما زالت الاحتجاجات مستمرة، ورفعت سقف مطالبها، من خلال تبنّي شعار "ارحل يا عباس".

نتيجة تقدير السلطة المبنيّ على الموقف تجاهها، دولياً وإسرائيلياً وإقليمياً، من دون أيّ اعتبار للمحدِّد، وطنياً وشعبياً، ارتكبت قيادتها أربعة أخطاء جسيمة، خلال الأشهر القليلة الماضية ساهمت في القضم من شرعيتها ومكانتها، شعبياً وسياسياً، وطنياً وقانونياً، الأمر الذي قد يُفضي إلى احتجاجات شعبية عارمة تهدّد وجودها. 

الخطأ الأول هو قرار أبي مازن إلغاء الانتخابات التشريعية بحجج لم يصدّقها أحد. والسبب المؤكَّد هو الخشية من خسارة "فتح أبي مازن" لها، والانقسامات داخلها. 

أمّا الخطأ الثاني فهو مواقفها السلبية في أثناء معركة "سيف القدس" وبعدها، وهي المعركة التي قوبلت بانتقادات واسعة حتى داخل كوادر حركة "فتح". 

الخطأ الثالث هو عقد صفقة تبادل اللقاحات الفاسدة مع "إسرائيل"، الأمر الذي اعتُبر صفقة فساد كبرى، من دون اعتبار لصحة المواطن الفلسطيني. 

أمّا الخطأ الرابع، فهو أن أجهزتها الأمنية قامت مؤخَّراً بخطف المعارض السياسي نزار بنات وقتله، الأمر الذي فجّر موجة غضب عارمة واجهتها السلطة بكل شراسة.

رئيس السلطة أبو مازن يُعرَف بتهميشه كلَّ الآراء والأصوات داخل السلطة وحركة "فتح"، وبعدم احترامه الرأيَ العام، ويصف من يهتمّ به بالشعبويّ. وهو دأب على انتقاد الراحل أبي عمار، نظراً إلى اهتمامه الكبير بالموقف الشعبي. ويرتكز في صنع قراراته على المحدِّدات في البيئة الخارجية. والوزنُ النسبي للمحدِّد الداخلي المؤثّر في صناعة القرار محدودٌ جداً. والفريق المقرَّب منه (وتحديداً ماجد فرج رئيس المخابرات، وحسين الشيخ الوزير المسؤول عن التنسيق مع سلطة الاحتلال) يعرض عليه الخيارات والبدائل، وفقاً للمعطى الخارجي، وليس الفلسطيني.

أثبتت الأيام الماضية أنّ رهان قيادة السلطة في المحافظة على بقائها ووجودها يقوم على دعم الأطراف الدولية والإقليمية، والحاجة الإسرائيلية، بغضّ النظر عن الموقف، شعبياً وجماهيرياً، وهو رهان خاسر. فالمعارضة الشعبية لها في ازدياد، وغضب الناس من سياساتها يتّسع، وحاجز التخويف من القمع والسَّجن والإرهاب بدأ ينكسر. والأصوات التي تنفجر الآن في وجه السلطة ورئيسها، وترفع شعار "ارحل أبا مازن"، ربما تنجح، ولو بعد حين.