صناعة الفقر.. يقنعوننا باقتناء الدواجن ليبيعونا العلف

يبرر هاردن للأغنياء السطوة على مقدرات الفقراء من دون الشعور بالذنب، على اعتبار أن الطبيعة الكونية لا تتيح للجميع الاستفادة من الموارد المتاحة، فيصبح مِعوزو الأرض الذين يشكلون أغلبية البشر مجرد أضرار هامشية.

  • صناعة الفقر.. يقنعوننا باقتناء الدواجن ليبيعونا العلف
    وفرت بورنيا القروض المالية لازدهار قطاع تربية الدواجن وتدريجياً عزف المزارعون عن زراعة الفول والذرة لصالح الدواجن ما أدى الى تعاظم محنة الفقراء

 

طالبت الشعوب طويلاً بالعدالة في توزيع الثروات وبحصتها من الموارد الطبيعية، ولكن هل العدالة ممكنة حقاً؟

بحسب الكاتب جاريت هاردن فإن العدالة المطلقة تعني الكارثة المطلقة! يشبّه هاردن الأرض بقارب نجاةٍ يتسع لعدد محدد ويذهب إلى أن أي زيادة ستؤدي إلى غرق القارب وبالتالي سيفنى كل من عليه. 

فموارد العالم لا تكفي ليتقاسمها الجميع بمساواة. لذا يصبح منطقياً أن تتمسك القلة الأوفر حظاً من الناس بثروات الكون لأنها تجد نفسها الأجدر في النجاة. هكذا يبرر هاردن للأغنياء السطوة على مقدرات الفقراء من دون الشعور بالذنب، على اعتبار أن الطبيعة الكونية لا تتيح للجميع الاستفادة من الموارد المتاحة، فيصبح مِعوزو الأرض الذين يشكلون أغلبية البشر مجرد أضرار هامشية لا يجدر بهم التمتع بالحياة.

حاولت الدول الكبرى منذ القِدم الاستيلاء على الدول الصغرى لمصادرة ثرواتها الطبيعية والبشرية بأشكال وأساليب متنوعة، ففي أواخر القرن التاسع عشر سيطرت فرنسا على فيتنام وتبيّن لعلماء الايكولوجيا المستعمرين أن سهول فيتنام أراضٍ مثالية لزراعة الأرز. فزرعته شركاتهم بكثرة بهدف تحقيق أكبر قدر من الربحية وأصبحت وقتذاك فيتنام المصدر الأول للأرز في العالم. كان ذلك على حساب الشوفان والبقول وغيرها من المزروعات. لكن الشعب الفيتنامي بعدها أضحى أكثر فقرًا وجوعًا مما كان عليه سابقاً. تحكمت كبرى الشركات بمحاصيل الأرز وتحول مزارعو فيتنام إلى عمالٍ في حقول الشركات الكبرى بأجرٍ أعلى مما كانوا يكسبونه سابقاً، لكنهم في المقابل أصبحوا يشترون المواد الغذائية بأسعار مرتفعة بعدما توقفوا عن تنويع محاصيلهم الزراعية ووقعوا في عجزٍ مالي أوصلهم إلى الفقر المدقع.   

في أفريقيا أيضاً أجبر الإقطاع والاستعمار الفلاحين على زراعة المحاصيل النقدية كالكاكاو بدلاً من المحاصيل الغذائية التي توفر الأمن الغذائي للمواطنين بذريعة خفض القيم الجمركية لاستيرادها والتوجه نحو الزراعات النوعية المربحة، فاستولوا على أفضل الأراضي ثم أرغموا العمال على ترك حقول قريتهم للعمل لاحقاً عبيداً بأجور بخسة في مزارعهم ومنعوا الفلاحيين المحليين من منافستهم في المحاصيل النقدية لحماية مصالحهم.

بالرغم من أهمية زراعة التصدير من الناحية الاقتصادية لإدخالها العملات الأجنبية الى البلد، استفاد منها كبار التجار والمزارعون المرتبطون بالشركات متعددة الجنسيات والمسؤولون الحكوميون الذين يسهلون إجراءات التصدير، أما المتضررون منها فهم الأغلبية الذين لن يتمكنوا من توفير الأمن الغذائي في مجتمعاتهم وسيظلون تحت رحمة الغذاء المستورد. هذا ما يؤكده الخبير الاقتصادي شيريل باير قائلاً إن الحكومات تحجم عن قتل الإوزّة التي تبيض ذهباً، لا بل ترعاها بقدر وفير من العناية وتصبح مصلحة تلك الإوزّة هي الأساس متناسيةً مصلحة شعبها العليا. هكذا تحمي الدول مصالح حكامها السياسية والاقتصادية على حساب الأغلبية.

مع التطور السياسي والوعي العام تغيّرت أدوات الاستعمار، فاستعاضت عن القوات العسكرية بالأدوات الاقتصادية لفرض سطوتها على الدول النامية والفقيرة. وخير مثال على ذلك، ما قاله فرانسيس مورلابيه في كتابه "صناعة الجوع وخرافة الندرة" عن انتهازية الشركات وكيف شجعت ورعت شركة "رالستون بورنيا" صناعة الدواجن  في كولومبيا بهدف بيع الأعلاف وليس بغرض توفير الدجاج للشعب كما كان يظن اولئك المساكين. فالدواجن لا تتطلب رأسمالاً كبيراً ولا تحتاج لأرض واسعة، لكن أعلاف الدواجن تعتبر من أكبر البنود ربحية لشركات الأعلاف. 

وفرت بورنيا القروض المالية لازدهار قطاع تربية الدواجن وتدريجياً عزف المزارعون عن زراعة الفول والذرة لصالح الدواجن ما أدى الى تعاظم محنة الفقراء في ذاك البلد ليكتشفوا أن ما حسبوه خيراً عظيما لم يكن إلا بلاءً كبيرًا.

عندما أصبحت النيوليبرالية اتجاهاً سائداً في السياسة الغربية بشكل عام والولايات المتحدة وأوروبا على وجه الخصوص، أخذت التبعية والهيمنة أشكالاً جديدة من خلال هيئات دولية مثل "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" و"منظمة التجارة العالمية".

يقول الأكاديمي الاقتصادي ديفيد هارفي في كتابه "الليبرالية الجديدة" إن النيوليبرالية منذ بدايتها قامت بتهزيل مفهوم النسق الاجتماعي ليحل مكانه مفهوم الفردانية ورفض مبادئ التكافل والتقديمات الاجتماعية، فتعمدت تهميش وإضعاف الاتحادات العمالية والنقابات المهنية وتفكيك سلطة الدول الفعلية في الدول الفقيرة بتوجيهها نحو المؤسسات المالية الدولية المذكورة آنفاً بالإضافة إلى السلطة السياسية المتنامية للمصارف والبنوك المحلية والعالمية. عندها تصبح المؤسسات الخيرية غير الحكومية والمنظمات الحقوقية التي تتحكم بها عبر الهبات المشروطة وسيلة التضامن الاجتماعي والنضال السياسي الوحيدة. 

من السذاجة الاعتقاد أن الدول المانحة تهتم بمصلحة الدول الفقيرة والنامية لتحسين المستوى المعيشي والاقتصادي لشعوبها، فغايتها الرئيسية الاستفادة من مقدرات هذه الدول. لذلك هي تتلطى خلف عناوين الازدهار الاقتصادي للشعوب كي تسيطر على ثروات الدول. 

تقول الكاتبة نعمومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة" إنه في حالات الأزمات والكوارث يفقد المجتمع توازنه ويصاب بظاهرة الصدمة الاجتماعية ليصبح اللامقبول سابقاً مقبولاً حينها. فالمعاناة الناجمة عن الأزمة تجعل الناس متلهفة بأي ثمن لإيجاد حلول لآلامها وأوجاعها. هنا تظهر منظمات الضغط المالية الدولية كمخلص فتفرض تغييرات سياسية اقتصادية كبرى تأخذ شكل الحلول الاقتصادية للمجتمع المأزوم إلا أنها في الواقع تفرض سياسات وقوانين قائمة على الخصخصة وتقليص الخدمات الاجتماعية فتخدم أصحاب الثروات وتقف ضد مصالح الفقراء والمهمشين.

قد يلتبس على المرء مفهوم المعونة التي تمن ّبها الدول العظمى على دول العالم الثالث فيعتقد البعض أنها هبة غير مشروطة لتنشيط اقتصاد الدول المأزومة، بينما هي ليست سوى قرض على الدولة تسديده مضافاً إليه الفائدة. 

وتأتي المعونة مشروطة بسياسات مالية محددة. فما إن تبدأ الدول بالاقتراض حتى تجد نفسها بعد سنوات قليلة ترزح تحت دين يتعاظم بفعل خدمة الدين، وعندما تعجز الدول عن السداد يصبح تدخل مؤسسات الضغط المالية مشروعاً وملزماً لتفرض حزمة من الإجراءات كالخصخصة وتحرير العملة وإلغاء التقديمات الاجتماعية وإرساء قواعد التجارة الحرة والسوق الحر.. الخ.

لم يختلف استغلال الدول المهيمنة للدول الفقيرة مع مرور الزمن انما اختلفت الأساليب والأدوات. فما كان يتطلب قوةً عسكرية للسيطرة على الاراضي والثروات أصبح ممكنا باستخدام القوة الناعمة عبر وهم المعونات والقروض لفرض وصفات مالية واقتصادية تمليها المؤسسات الدولية على البلدان النامية من دون إيلاء الاهتمام للخصوصية الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد، لنجد أن الفقر يتعاظم وتذوب الطبقة الوسطى بينما يزداد فساد أهل السلطة والمنتفعين منها. 

إن الحلول الاقتصادية الحقيقة والمتوازنة لا يمكن أن تأتي من الخارج بوصفات موحدة وجاهزة، فللدول الكبرى أطماعها وغاياتها التي يسهل تحقيقها كلما تفاقمت المشكلة وما يظهر على أنه علاج  فوري  ليس سوى مخدر آني سيؤدي إلى ارتهان أكبر لمشيئة الدول المانحة سياسياً ومالياً.