إبدال الطربوش التركي بالقبعة الغربية لا يصنع ثورة في لبنان

مهما كانت الدعوات للإصلاح، ومكافحة الفساد، وما إلى هنالك من شعارات، فهي لن تكون إلا ترقيع المُهتريء المُسمَّى إصلاحاً، و"الثورة"، لن تجد نصيبها في النجاح، طالما لم تعتمد خطة التحرّر من التبعية أولاً.

  • إبدال الطربوش التركي بالقبعة الغربية لا يصنع ثورة في لبنان
    إبدال الطربوش التركي بالقبعة الغربية لا يصنع ثورة في لبنان

 

ليس الفساد، والمحسوبيات، ونهب المال العام، وما إلى هناك من عناوين رافقت نشوء الكيان اللبناني إلا من تداعيات التبعية للغرب الرأسمالي-الامبريالي.

فعندما شرّفنا الغرب الرأسمالي غازياً، فاتحاً، مستعمراً، مفتتاً لبلادنا، كانت رأسماليته قد نمت في قرون. فمنذ مطلع الألفية الثانية، بدأت الصناعة الأوروبية بالنمو، والتطوّر إلى جانب الحياة الزراعية في النظام الاقطاعي. ونتيجة لتطور الصناعة، بدأت مرحلة الاستعمار، والاستكشافات الأوروبية للعالم. وتمكّنت عدّة دول أوروبية كبريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، والبرتغال من بسط سيطرتها على مساحات شاسعة من العالم، تمكّنت من خلالها من تحقيق أرباح هائلة، وراكمت ثروات لا تُحصى، وبواسطتها، استطاعت أن تطوّر بناها الاجتماعية، وأن تحدث تغييرات رأساً على عقب في حياتها العامة، فتأسّست فيها الحداثة، والنظم المتقدمة، ومفاهيم الديمقراطية، نتاجاً لتطوّرها الصناعي، وثرائها الهائل.

في سيطرته على بلادنا، وبعد تمزيقها أجزاء متناحِرة، حاول الغرب رسم صيغ لدولنا، متخذاً من الأشكال السطحية لبناه السلطوية، وبنى الدولة، نماذج لسلطاتنا. جاء بزيّ الطاقم الغربي، فألبسه لرجال يلبسون السروال التركي، وكان بعضهم لما يزل يعتمر الطربوش الأحمر، وجاء برجال من عقلية قروية بسيطة، وبعض مدينية تقليدية، وأمسكهم زمام سلطات هو رسمها على طريقته، تقليداً لنماذجه. 

كانت الرأسمالية الغربية في تطوّرها قد فتّتت البنى التقليدية الاجتماعية الأوروبية، وانخرط المجتمع الأوروبي في الصناعة، بكل ما تحتاجه من عمل، وإجراءات، وقوانين، وباتت الدولة هي مرجعية كل الأمور، وتنامت في أوروبا أفكار الحداثة، والتحرّر، والتطوّر، والإنسانية، ساعدها على ذلك حياة ثراء كبيرة، وبحبوحة متمادية، ورغم أن الدولة اتسمت بالاستغلال للعاملين في نطاقها، وللدول التي استعمرتها، إلا أنها طوَّرت بناها بطريقة متحرّرة من عقلية الماضي، وباتت البورجوازية الأوروبية في مرحلة من المراحل، أشبه بحركة ثورية غيّرت المجتمع، وطوّرته لما لم يتوافر في مجتمعات أخرى، في الشرق وإفريقيا.

عندما قرّر الغرب الاستعماري الخروج من بلادنا، كان يريد الحفاظ على سيطرته على هذه البلاد، والحفاظ على تبعيّتها له. وبعد أن كان الاستعمار مباشراً بالاحتلال العسكري، أحلّ الغرب الاستعماري محله دولاً وسلطات من صنيعته. كان همّه الحفاظ على السيطرة على هذه الدول وشعوبها، ولم يكن همّه تطويرها، ولا تحويلها  إلى أنظمة حديثة متطوّرة مثله.. ربما لم يكن قادراً على تطوير رأسماليات محلية متقدّمة بينما استغرقه ذلك مئات السنين.

استلم الحكم في سلطات الدول التي خرج منها الاستعمار، ومنها لبنان، رجال تابعون للغرب الاستعماري، لكنهم لم يكونوا في دولة متطوّرة كالدول الأوروبية. استوردنا بعض الأشكال والسلوكيات الغربية، ولم ننمِ دولاً وسلطات متطوّرة، ولم يكن هذا الهم هم صانعي دولنا. وفي لبنان، جاءت سلطاتنا نسخة كاريكاتورية للصيغة الأوروبية، لكن ببنية طائفية، تقاسمت كل زعامة طائفة فيها حصّة من السلطة، فلعبت البنية الطائفية اللبنانية دوراً هاماً في الانحياز السلطوي، كل موقع يحاول تعزيز طائفته، يأخذ من السلطة والدولة، لصالح طائفته، ولم يكن مبدأ "الغاية تبرّر  الوسيلة" يُخيفه، فمارس كل ما يخدمه مُتجاوزاً القوانين، حيناً، أو إنه فصّل القوانين على قياس مصالحه، وغالباً بالتقاسم، والتراضي.

منذ بداية نشوء الكيان اللبناني، كان الفساد، بطريقة من الطرق، في قلب تركيبته التابعة، وفي أبعاد التبعية الطائفية، المارونية للغرب، والإسلامية لمراكز القرار في الأنظمة العربية النافذة. أول نماذج الفساد، غياب دستور واضح يوزّع السلطات بطريقة حديثة متطوّرة، فحكم البلد بالعرف والتقليد، وليس ذلك إلا رغبة من الفرنسي، والبريطاني بالحفاظ على ارتباط للسلطات به. وأول نموذج فساد تنفيذي كان التجديد لرئيس لبنان الأول بشارة الخوري، الذي انتهت ولايته سنة 1949، وجرى تجديدها بتدخلات فرنسية وبريطانية حتى العام 1952، وفي محاولة للتجديد ثانيةً، اندلعت أحداث اعتراض على ذلك، انتهت بانتهاء ولايته، وإجراء انتخابات رئاسية جديدة.

وتمادياً في الفساد، والانحياز الناجمين عن التبعية للغرب- الفرنسي والبريطاني- جرت عملية انتخاب رئيس جمهورية جديد. كان حميد فرنجية المرشّح الأوفر حظاً بين نواب تلك الفترة، تدعمه فرنسا، فتدخلت بريطانيا محوّلة الموقف لصالح مرشّحها- المتربّي في دلالها- كميل شمعون.

حاول فؤاد شهاب الفرنسي الهوى، والثقافة، والتربية، تأسيس بنى دولة متقدّمة عن سالفاتها، فأسّس العديد من المؤسّسات المدنية التي تغلّب القانون على الشخصانية، والدستور على الطائفة، لكن تجربته استمرت لفترة قصيرة غير كافية لبناء دولة متطوّرة باستمرار، ومع ذلك فقد حقّق الكثير، لكن دخول لبنان مرحلة الحروب الأهلية المتتالية، التمهيدية منها ابتداء من سنة 1968 على تداعيات هزيمة حزيران 1967، وما تلاها من حروب، دمرت الدولة بالتدريج -وهي كانت هشّة في الأساس- وطغى الفساد والنهب في ظل غياب أية رقابة في السلطة خلال الأحداث، واستبيحت الدولة، وباتت مرتعاً لقواها الطائفية تسرح وتمرح وتنهب وتسرق كيفما اتفق، وطاب لها.

في سنة 1989، تأسّس الطائف على صيغة الليبرالية، لكن هذه المرة لم يكن القرار فرنسياً- بريطانياً، بل بصناعة أميركية، ففرضت الليبرالية الأميركية مع خضوع للدولار كعملة تضبط الاقتصاد والأعمال، على حساب العملة الوطنية. 

فرض "الطائف" على لبنان الانخراط في النظام الليبرالي، أو النيوليبرالي، ليكون نموذجاً يطبّق لاحقاً في بقية دول الجوار انطلاقاً من لبنان، فتهالك المتهالك، وبدلاً من أن يعاد تركيب السلطة على أسس حديثة، جرى العمل على تدمير ما تبقّى منها، بقِيَم الليبرالية من خصخصة، وتدمير للدولة، وإفلات للشركات، والصناديق الخاصة من القوانين، وبالارتباط بالمال الخارجي عبر البنك الدولي، ومؤتمرات باريس، وما شابه.

وفوق الفساد والنهب والعجز النسبي، السابق الموروث من الحقبة الأوروبية في لبنان، وقعت الدولة في السقوط الكبير فطغى مزيد من الفساد ومزيد من النهب ومزيد من الانهيار في الدولة، وفي التقاسم السلطوي مترافقاً مع التجاذب الطائفي-المذهبي، ولم تعد خافية على أحد تداعيات مرحلة "الطائف" في لبنان. 

عاشت دولتنا وسلطاتها، على جدلية التنافر- والتفاهم، والتجاذب- والالتقاء، كل يريد أن يحتفظ لنفسه، ولموقعه السلطوي، القدر الممكن من القوّة، وبذلك تعزيز لطائفته التي ستكون عماد بقائه، واستمراره في السلطة، وقس على هذا المنوال بلوغاً للتصادمات الأهلية بين الطوائف، إن على اقتسام المغانم، أم على تداعيات الصراعات الاقليمية-الدولية، وتموضع كل طائفة على حدود هذه الصراعات.

الآليات التي نمت فيها الرأسمالية الأوروبية، وتطوّرت فيها بناها السلطوية، والحياة الاجتماعية العامة تختلف بشكل جذري عن الحال التي قام لبنان وغالبية دول الشرق عليها. 

تطوّرات أوروبا جرت بدينامية ذاتية، و"تطوّرات" تخلّفنا نمت بطرق مستوردة من الخارج، تلبسناها على حالتنا، وعقلياتنا، ومفاهيمنا المحلية، كالطربوش على زيّ الطاقم الغربي، فقامت دولتنا نموذجاً كاريكاتورياً للدولة الأوروبية، وسلطاتها، واستطاعت الاستمرار والبقاء فقط بسبب الارتباط بالدول التي صنعت هذه الدولة، ولحاجة هذه الدول لها، ولم تستقل استقلالاً تاماً، ولم تستطع بناء نظام اقتصادي وسياسي اجتماعي متطوّر بسبب هذه التبعية التي تمدّها بالقوة، والقدرة على الاستمرار في الحكم.

مهما كانت الدعوات للإصلاح، ومكافحة الفساد، وما إلى هنالك من شعارات، فهي لن تكون إلا ترقيع المُهتريء المُسمَّى إصلاحاً، و"الثورة"، لن تجد نصيبها في النجاح، طالما لم تعتمد خطة التحرّر من التبعية أولاً. ولذلك برنامج مختلف بالكامل عما نسمعه، ونراه من مطالبات، وتحرّكات.