القواعد الأخلاقيّة في ميادين الصراع

المُرتَكز الأساس لفلسفة أرسطو في الأخلاق يتلخّص في أنّ الهدف والغاية العُظمى للإنسان في هذه الحياة ينحصر بإدراك السّعادة.

  • القواعد الأخلاقيّة في ميادين الصراع
    الصّراع بين قوى الحَقّ والباطل هو صراعٌ أزَليّ وَسُنّة إلهيّة

تعتَبر القِيَم والأخلاق من أهمّ المَباحث الفلسفيّة التي كانت موضع اهتمام العديد من الفلاسفة والمُفكّرين على مرّ العصور وحتى وقتنا الحاضر.

جميع الكُتب والشرائع السماويّة تُعَدّ مَصدَراً للقِيَم والأخلاق الإنسانية، حيث كانَ العُلماء والفلاسفة والمُفكّرون، ومازالوا، مُنشغلين بالبحث والشرح والتفصيل في هذا المفهوم وتبيان آثاره، خصوصاً في حدود التداخُل والأبعاد السيكولوجية والأبستيميولوجية لمفهومي الأخلاق والصِراع، وما إذا كانت هناك مُسوِّغات وضرورات تجوِّز وتنظِّر لهذا التداخُل، أم أنّ هناك مُبرِّرات تفرض عدم جواز التداخُل بين المفهومين.

وكلمة أخلاق هي جَمع خُلُق، وفي اللغة، وكما قال إبن منظور في لسان العرب: "الخُلُق السجيَّة والطبع والمرؤَة والعادة والدِّين"، وأمّا اصطلاحاً، فقد ورد في مفهوم الأخلاق العديد من التعريفات، وَلَعلّنا نكتفي بما شرحه عُلماء فلسفة الأخلاق على أنّه العِلم الذي يتعلّق بالقِيَم والمبادىء والمُثُل التي من خلالها يُحَدّد الخير والشر، والصّلاح والفساد، وهو تلك المعايير التي من خلالها يتّضح السلوك والمنهج الإنساني.

لَقَد حدَّد الفيلسوف والمُفكِّر اليوناني أَرِسْطُوطَالِيس (384 ق.م - 322 ق.م) المذهب الأخلاقي استناداً إلى مفهوم السعادة؛ السعادة التي عرَّفها في كتابه "الأخلاق النيقوماخية" بقوله: "على هذا فالسعادة هي إذن على التحقيق شيء نهائي كامل مكتف بنفسه، ما دام أنه غاية جميع الأعمال المُمكنة للإنسان".

أرسطو وفي مُقدِّمة هذا الكتاب، الذي مَنَحَه إلى إبنه نيقوماخس، يُقدِّم مفهوم الأخلاق من خلال مفهوم "الوسط" والذي شَرَحَ من خلاله مفهوم الفضيلة، فهو يُشير إلى الفضيلة الخلقيّة على أّنّها الوسط بين رذيلتين أو فعلين مذمومين. فالأشياء بطبيعتها تنحصر بين الإفراط والتفريط، بين الإهمال والمُبالغة، فالكَرَم هو الوسط بين التَّقتير والتّبذير، فحيث أنّ الطعام الكثير فيه مفسدة للبدن، فكذلك قلّته، وكذلك حينما نتحدَّث عن الشجاعة، فهي الوسط بين الجُبن والتهوّر وكلاهما مذموم، ففي ذلك يقول أرسطو: "إن الإنسان الذي يخشى كل شيء ويفرّ من كل شيء ولا يستطيع أن يحتمل شيئاً هو جبان، والذي لا يخشى البتّة شيئاً ويقتحم جميع الأخطار هو مُتهوِّر. كذلك الذي يتمتَّع بجميع اللذات ولا يحرم نفسه واحدة منها هو فاجِر. وهذا الذي يتّقيها جميعاً بلا استثناء كالمُتوحّشين سكان الحقول هو بنوع ما كائن عديم الحساسية، وذلك بأن العِفّة والشجاعة تنعدمان على السواء إما بالإفراط وإما بالتفريط، ولا تبقيان إلا بالتوسّط".

لقد قسَّم أرسطو الناس إلى ثلاثة أصناف بناء على فَهْمِهم للسّعادة، والتي اعتبرها مُنتهى الصفات الأخلاقية، انطلاقاً من سلوكهم الأخلاقي، فالصنف الأول يرى غاية السعادة تكمُن في اللذّة، وهذه هي عيشة البهائم، والصنف الثاني يرى في المجد قمَّة السعادة، والصنف الثالث يرى في الحِكمة والعقل والتأمّل هي السعادة بعينها، لذلك كان أرسطو، وهو المُعلِّم الأول في الحضارة اليونانيّة (القديمة)، كان أبرز مَن فسَّر الأخلاق على أنّها أعلى مراتب السّعادة.

لقد ألغى أرسطو البُعد الميتافيزيقي (الديني) في بناء رؤيته الفلسفية للأخلاق، حيث قدَّم القواعد الأخلاقية استناداً إلى رؤيته للواقع الحسّي والعَيني، وهو بذلك يستبعد القواعد والقوانين الميتافيزيقية ولا يعتبرها معايير ومُحدَّدات في ظلّ وجود الوقائع الحسيّة والمشاهِد العينية. عِلماً أنّ البُعد الميتافيزيقي كان واضحاً وجلياً في الرؤية الفلسفية لتحديد القواعد الأخلاقية لكلٍ من سقراط (469- 399 ق. م) وأفلاطون (427- 347 ق. م).

إذن فالمُرتَكز الأساس لفلسفة أرسطو في الأخلاق يتلخّص في أنّ الهدف والغاية العُظمى للإنسان في هذه الحياة ينحصر بإدراك السّعادة، وأنّها بنظره هي أعلى الصفات الأخلاقية وأنّها مُنتهى الغايات؛ وأمّا باقي الصفات الخلقية فما هي إلا أدوات من أجل بلوغ الغاية العُظمى وهي السعادة. وبكلمةٍ موجزةٍ فأرسطو يرى أنّ الأخلاق تعني العَمَل بالعقل من أجل بلوغ أعلى مراتِب الفضائل الأخلاقية وهي السعادة.

وفي الفلسفة الحديثة، حيث يتربَّع إمانويل كانط (1724 – 1804)، على عرش روَّادها، فقد رَفَضَ نظريّة أرسطو مُعلِّلاً ذلك بعدم صواب اعتماد مفهوم الأخلاق على مفهوم السعادة والتي هي نَزعَة سيكولوجية تمثل انعكاساً للطبيعة الإنسانية، فلا يجوز أن نختصر الأخلاق بالسعادة، ولا نضع معايير الأخلاق من خيرٍ وصلاحٍ وسلامٍ كأدواتٍ لنَيْلِ السعادة. فلو دقَّقنا النّظر في مفردة السعادة وما تتضمَّن من معانٍ سنجد أنها لا تمثّل ولا تدلّ على أنّها أسمى مراتِب الخير والفضيلة، كما أراد لها أرسطو أن تكون. فعمل الخير ليس دائماً هو مقياس ودليل للسعادة، كما يرى كانط.

الفيلسوف كانط كان ممَّن يرون أنّ امتلاك الأخلاق يُعَدّ ضمن حدود الواجبات التي تتّكئ وتستند إلى مبدأ الأمر المُطلَق، وهو الأمر المُسبَق الذي يَحمل مفاهيم سامية ومُتعالية، بعيدة عن التجربة المبنيّة على الرغبات والنوازِع الإنسانيّة للنّفس البشريّة والتي بطبيعتها تخضع للتفاوت من شخصٍ إلى آخر.

لذلك أعاد كانط صوغ مفهوم الخير الأسمى، بَعد أن رَفَض نظريّة أرسطو باعتبار السعادة هي الخير الأسمى، مُعتبراً وجوب أن يكون ذلك الخير خالياً من كل أشكال الرغبات الإنسانية والمنافِع والمصالح الذاتيّة. لقد تَجَلّى ذلك في مقولته الشهيرة التي أوردها في كتابه "أسُس ميتافيزقيا الأخلاق" (1960)، حينما يقول في البنية المفاهيمية لتحليل النّص: "تصرّف على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك، كما في شخص غيرك، دائماً وأبداً، كغايةٍ وليس مُجرَّد وسيلة بتاتاً"، فالإنسان بصفته كائناً ذا قيمة مطلقة أساسها العقل والفكر والأخلاق، فهو بذلك يمتلك وعياً لوجوده الذاتي وإدراكاً لما يحيط به من موجودات، وهو بذلك يختلف عن باقي الأشياء التي هي مُجرَّد وسائل.

وعليه نستطيع القول إنّ أهم الفلاسفة الذين نظّروا لمفهوم الأخلاق قد اعتبروا الإنسان كائِناً يمتلك استعداداً للسير بطريق الخير والصلاح ولديه ميول غرائزية تدفعه نحو طريق الشر؛ من هنا كانت المناهج الأخلاقية هي الدالّة على الخير، وأنّ المعايير الخلقية هي الحاكِمة لتشييد مجتمعات بشرية قوامها الأخلاق، ولتكون الحضارة والمدنيّة والتقدّم والعدل والسلم كلّها انعكاسات طبيعية تنتجها تلك المجتمعات. وبذلك فقد اعتبر كانط ومَن سار على نهجه أنّ مفهوم الأخلاق إنّما هو الوسيلة نحو السعادة وأنّه المعيار الذي من خلاله يُصنّف الخير والشر.

لَم يلغ كانط البُعد الميتافيزيقي بل اعتمده في تنظيره لمفهوم الأخلاق ولكن من خلال العقل العملي، غير النظري، مُعتبراً أنّه الأساس في تقديم قراءة موضوعيّة لفلسفة الأخلاق، لكنّه اعتبر المفاهيم الأخلاقيّة هي الأساس، وأنّ العقل هو المُشرّع للفعل، ودفعاً للالتباس واختلاط الأمور فقد اعتبر الأخلاق الشعبية قد تكون هي المعيار في التمايُز بين الخطأ والصواب والخير والشر. فالعقل الإنساني بنظر كانط سَيَسمو إلى درجة التأسيس الميتافيزيقي من أجل إدراك أخلاق تعمّ الوجود، فهو يقول: "إفعل الفعل، وكأن مسلمة سلوكك ستصبح بإرادتك هي القاعدة العامة للإنسانية"، فهو بذلك يؤكِّد أن أخلاقية العمل تنبع من العمل نفسه من دون مقاصِد نفعيّة، لذلك نرى الكثير ممَّن يُطلِقون على نظريّة كانط الأخلاقية "بأخلاق الواجب من أجل الواجب".

وبكلمةٍ أخرى، فإن أرسطو يرى أن التطبيق الأخلاقي هو الكاشِف لحقيقة النظرية الأخلاقية وأن السعادة هي مُنتهى الأخلاق، بينما يرى كانط أن النظرية الأخلاقية هي التي على أساسها تتمّ المُمارسة الأخلاقية وتطبَّق من خلالها المناهج الأخلاقيّة، والتي لا يمكن إبرازها عملياً من دون فَهْم واستيعاب البُعد النظري لمنهجية الأخلاق.

إنّ الصّراع بين قوى الحَقّ والباطل هو صراعٌ أزَليّ وَسُنّة إلهيّة، قد لا يَخلو مِنه زَمانٌ ولا مَكان، مهما بَلَغَت درجة التطوّر والتقدّم العِلميّ والحَضاري، وأنّ أطراف النّزاع وإن اختَلفوا في أيديولوجياتهم وعقائدهم وأفكارهم لكنك تراهم يرفعون راية الحقّ معاً، وكل يدَّعي أنّه يمثّل جبهة الخير والصلاح، لِذلك ذَهَب بعض المُفكّرين إلى أنّ مُفردة الحَقّ والحَقّيقة، هيَ إصطلاحات نسبيّة تَختَلف باختلاف الضروف وملابسات الصّراع، فترى الأمّة قد ابتُليت بالغفلة والضياع وغياب البصيرة والتّيه في تشخيص وَمَعرفة الحَقّ وأهله.

وغابت عن ميادين الصراع أبسط القواعد والمفاهيم الأخلاقية واختَفَت المُثُل والمبادئ خلف ستار مسرح المصالح والمكاسب وبسط النفوذ؛ لذلك يَحقّ لنا أن نسأل أين إذن ذهبت تلك النظريّات الفلسفيّة والآراء الفكرية في الأخلاق؟ أين هي أفكار سقراط وأفلاطون وأرسطو وكانط وغيرهم ممّن أكّدوا على أهميّة الأخلاق في الوصول إلى مجتمع فاضِل تسوده المحبّة والسلام.

ولماذا هذا الفِكْر الإمبريالي الذي أصبَحَ منهجاً تتبنّاه دول مُتعدِّده في عصرنا الحالي مُستندين فيه إلى دَعامة البراغماتية، أو ما يُسمّى بالمَنهَج النّفْعي، من خلال الاستعمار العسكري والثقافي والسياسي والاقتصادي؛ فكرٌ لا يَرى أيّ نَجاح أو تقدّم إلّا من خلال الغَلَبَة في الصّراع وبسط السيطرة الكاملة على دول أخرى، صراعٌ تسقط فيه القِيَم ويجوز فيه استخدام جميع الأدوات، حتى وإن كانت لا تنسجم مع المفاهيم الأخلاقية والقِيَمِ الإنسانية.

مَنْهَجُ الغاب، وصراعٌ من أجل الهَيْمَنة وبسط النفوذ والبقاء، تَسقُط فيه كلّ الأخلاق والأعراف وحتى القوانين الدولية التي أُنْشِأت لِحِمايَة الإنسان وحقوقه، صراعٌ لاستغلال ونَهب الثّرَوات واستِعباد الشُعوب، وهذا ما نراه مُتَجلّياً وبأوضح صوَره في يومنا هذا، صراعات أساسها التسابُق للاستحواذ على الموارد والخيرات من أجل بلوغ أسباب القوّة وإرساء أسُس التسلّط والتحكّم. فأين هي إذن أسُس القانون الدولي التي أرسى دعائمها الفيلسوف والقاضي الهولندي هوغو غروتيوس (1583 - 1645)، وأين هي نظرية الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية التي وضعها كينيث والتز عام 1979 حينما أكَّد على أنّ القوَّة إنما هي وسيلة وليست غاية. لماذا ضُرِبَت أفكار الفيلسوف الإغريقي ثوسيديديس (460 ق.م. – 395 ق.م.) عرض الحائط، وضُرِبَت معهُ جميع مؤلّفاته خصوصاُ كتابه "تاريخ الحرب البيلوبونيسية" والذي أشار فيه إلى أنّ المفاهيم الأخلاقية لا يمكن لها أن تُمَس من قِبَلِ رجال السلطة والسياسة.

إنّ المُراقِب لما يجري اليوم من صراعات وفي ميادين شَتّى يَخرُج بنتيجة مفادها أنّ المدرسة الواقعية ذات الطابع النّفعي قد بسطت سيطرتها وبدأت بالإعلان عن مَقاصدها التي لا تتحقّق عفوياً، إنّما تأتي في سياق مَعارك تأخذ أشكالاً وأنواعاً مُتعدِّدة: ناعِمة أو دامية، شريفة في ظاهِرها أو خبيثة في حقيقتها، وعلى ميادين مُتعدِّدة: الفكريّة أو الَعقائديّة أو السياسيّة أو الاقتصادية أو حتّى الأمنية.

ورغم أن المدرسة المثالية وما آلت إليه اليوم من تهميش مُمَنهج، لكنّ الحقيقة التي مازالت تصدح على لسان الأحرار تقول إنّ المفاهيم الأخلاقية وفي خضَمّ هذه الصِراعات هي ليست تلك التي تُصنَع في مطابخ الطُغاة لتخرج إلى ميادين الصراع من أجل تثبيت مصالحهم وتقوية نفوذهم، إنّما هي دروس مُتأصِلة بالوعي الإنساني، وأنّها لا تؤتي أكلها إلا عندما تتجسَّد بمعاني الحرية والكرامة والتضحية، وأنّ البشريّة اليوم بحاجةٍ إلى تثبيت تلك القواعد لامتثال الواجبات التي اعتبرها كانط مُقدِّمة لإدراك المفاهيم الأخلاقية؛ تلك القواعد التي من دونها لا تُنال السّعادة التي اعتبرها أرسطو أعلى المراتِب وأسمى الفضائل الأخلاقية.