المرأة والفكر الفلسفيّ الذكوريّ

على الرغم من التطوّر البطيء على مستوى رفع وتيرة المساواة بين الجنسين، فما زالت النساء في جميع أنحاء العالم يواجهن قوانين وأنظمة تقيّد فرصهنّ الاقتصادية والاجتماعية وتشكل معوّقات أمامهن.

  • من المنطقي القول إن الوصول إلى المساواة المجتمعية الجنسانية غير ممكن من دون وجود خلفية فلسفية
    من المنطقي القول إن الوصول إلى المساواة المجتمعية الجنسانية غير ممكن من دون وجود خلفية فلسفية

مع انتشار جائحة "كوفيد 19"، بات الكثير من المكاسب التي تحقَّقت على مستوى المساواة معرضاً للانتكاس، إذ إن هذه الجائحة تعمّق أوجه الخلل القائمة، وتكشف ما يشوب النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من مواطن ضعف، وتفاقم معاناة النّساء والفتيات لمجرّد كونهنّ إناثاً.

وعلى الرغم من التطوّر البطيء على مستوى رفع وتيرة المساواة بين الجنسين، فما زالت النساء في جميع أنحاء العالم يواجهن قوانين وأنظمة تقيّد فرصهنّ الاقتصادية والاجتماعية وتشكل معوّقات أمامهن. ووفقاً للتقارير العالميّة، يبدو أنّ جائحة "كوفيد 19" خلقت تحدّيات جديدة أمامهن على مستوى صحّتهنّ وسلامتهنّ وأمنهنّ الاقتصاديّ، إذ إنهن يتمتعن بثلاثة أرباع الحقوق القانونيّة الممنوحة للرجال فقط(1).

وعند محاولة تقييم تلك المعضلة ومقاربة واقع حقوق المرأة، لا بدَّ من طرح بعض التّساؤلات: إلى متى سيتمّ اتخاذ المرأة دليلاً على التكامل الثقافي والأخلاقي للمجتمع؟ هل هناك خلل فلسفيّ يحول دون تمكينها من تجاوز تلك المنظومة الذكوريّة؟

يبدو أنّ أقصى حدود القمع الذكوري الحقيقي يتمثل في ما تعانيه المجتمعات والحقول الفلسفية من نظرة تنتقص من المرأة. وبالتالي، إذا كانت هناك رغبة جدية في الوصول إلى المساواة الحقيقية بين النساء والرجال، فذلك يستوجب إعادة النظر في كل ما له علاقة بثقافة المجتمعات، بما في ذلك ثقافة المرأة نفسها(2)، ناهيك بمواجهة بعض التحديات على المستوى التنويري، والتي تتطلَّب إخضاع الفكر الفلسفي والثقافي للفحص النقدي الصريح، إذ يتَّضح أن المرأة وضعت في رحم دوامة فلسفة مغلقة تحتفظ بالأشكال التقليدية للأنوثة(3). 

وفي هذا السياق، من المنطقي القول إن الوصول إلى المساواة المجتمعية الجنسانية غير ممكن من دون وجود خلفية فلسفية تعمل على تنوير العقول وتحريرها من القيود الذكورية، ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك التحرّر والتنوير إذا كانت القيم الفلسفية نفسها تعاني مشكلة جنسانيّة وشوفينيّة بارزة ترتبط (للأسف الشديد) بدونيّة المرأة في عالم الفلسفة؟ 

على سبيل المثال، كانت رؤية أشهر الفلاسفة الإغريق (أرسطو، أفلاطون، سقراط) للمرأة بشكل عام لا تتعدّى كونها صالحة للإنجاب، وأنَّها لا تستطيع أن تمارس الفضائل الأخلاقيّة كالرجال، وأنها أدنى منهم في العقل والفضيلة. 

هذه الرؤية في عالم الفلسفة القديمة لم تختلف كثيراً مع عددٍ من كبار الفلاسفة المحدثين (جان جاك روسو، كانط، نيتشه)، فالمرأة، وفقاً لرؤيتهم، لم تُخلق للعلم والحكمة، وإنما لإشباع غرائز الرجل، كما أنّ عقلها لا يرقى إلى عقل الرجل، وهي ليست مخلوقة للتفكير، بل إنها مصدر كلّ الشرور، وهي تتآمر مع كلّ أشكال الانحلال ضد الرجال(4).

يبدو واضحاً أنّ استمرار طغيان الفلسفة الذكورية يعدّ عرضاً طبيعياً لذكورية الثقافة الإنسانية بشكل عام، والتي ما زالت مستمرة، على الرغم من مزاعم المساواة. وبالتالي، إذا كان هناك من يعتقد بأنَّ هذه الاعتبارات الفلسفية الغارقة في الذكورية، والمرتبطة بحقوق المرأة، تجاوزها الزمن في ظل انتشار الإيديولوجيا النسوية وتطور نسق الأفكار المتعلقة بالجنسانية، فلا بدَّ لنا من طرح بعض الإشكاليات والتساؤلات: هل تغيّرت النظرة الذكورية تجاه المرأة على المستوى الفلسفي المعاصر فعلاً؟ وهل هناك حاجة ماسّة للانتقال إلى المنظومة الفلسفية التنويرية الشاملة؟ 

بكلّ تأكيد، عند محاولة الإجابة عن تلك التساؤلات وتقييم تلك الإشكالية الهجينة (وفي حال تم تجاوز المنهج الإحصائيّ والكمّي الذي يؤكّد قتامة المشهد)، من أجل إيجاد تغيير جذري على مستوى الركائز الحيوية الضامنة لحقوق المرأة، يجب البحث عن الأسباب والخلفيات التي تحول دون تمكّنها حتى الآن من ابتداع مدرسة فلسفية متكاملة أو إنشاء تيار فكري يستطيع التأثير في الحقل الفلسفي. 

إن عدم قدرتها على ذلك سيؤدي حتماً إلى طرح التساؤل الجوهري حول وجود فيلسوفات! وهنا، لا محالة، سيتم الاصطدام بقساوة الجدليات المرتبطة بأهمية المرأة ومكانتها ودورها في التفكير والتفلسف. 

الهوامش:

(1) ناهيك بتزايد العنف ضد المرأة والوهن الاقتصادي وعدم الاستقلالية المادية إلى حد ما، بما في ذلك الحواجز التي تحول دون حصولهن على وظائف أو الحفاظ عليها. وتواجه النساء أيضاً ارتفاعاً ملحوظاً في العنف المنزلي وتحديات الصحة والسلامة... راجع تقرير البنك الدولي المعنون: "المرأة والأعمال والقانون في 2021". التقرير متوافر على الرابط التالي:

https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/35094/9781464816529.pdf 


(2)من المستغرب والمستهجن تقبّل بعض النساء لتلك المظاهر، بحجة أنهن اعتدن تلك الممارسات. ومن المؤسف أيضاً أن ثمة نساء كثيرات لا يعرفن شيئاً عن مجرد استغلالهن. وهنا، قد يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول ما إذا كان يحق للمرأة (انطلاقاً من مبادئ حقوق الإنسان) قبول انتهاك إنسانيتها!


(3) انطلاقاً من ذلك، يجب التدبر في كيفية استخدام بعض المصطلحات، من مثل الأنوثة والهوية والشرف والرجولة...


(4) من الجدير ذكره هنا أهمية عدم تعميم النظرة الذكورية إلى المرأة في الحقل الفلسفي. على سبيل المثال، قدم الفيلسوف العربي ابن رشد رؤيةً إنسانية لا تقل أهمية عن كل الطروحات المعاصرة المرتبطة بحقوق المساواة الجنسانية، إذ يؤكد عدم وجود أي اختلاف بين المرأة والرجل سوى في الدرجة، كما يؤكد أن لا مانع من وصولهن إلى الحكم، إذ إن المرأة والرجل نوع واحد، ولا فرقَ بينهما في الغاية الإنسانية.