إدلب حرب مصغّرة في صراع عالمي.. "شنغهاي" مقابل الناتو

إعطاء الفرص لتركيا، يأتي في الواقع ضمن استراتيجية الحلف "الروسي الصيني الإيراني" من أجل آسيا خالية من النفوذ والوجود العسكري الأميركي خلال عشر سنوات.

  • إدلب حرب مصغّرة في صراع عالمي.. "شنغهاي" مقابل الناتو
    الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان (أرشيف)

لعل النتيجة الأبرز التي أسفرت عنها الحرب المصغّرة التي خاضها الجيش العربي السوري وحلفاؤه بمواجهة الجيش التركي، الذي قاتل جنباً إلى جنب مع تفرعات تنظيم القاعدة الإرهابي الدولي في إدلب خلال الشهر الماضي، كانت كسر الوهم القائل بعدم إمكانية الاشتباك عسكرياً مع الجيش التركي، القوة الثانية في الناتو، واستحالة إيقاع خسائر مؤثرة به وإجباره على التراجع، وبالتالي استحالة تحرير الأراضي السورية التي يتموضع فيها هذا الجيش عبر القوة، وهو ما كان أساساً رهان القيادة التركية، التي حاولت مسابقة الجيش الشرعي السوري على الانتشار في مناطق في شمال سوريا، وذلك بعد أن بدأ بنيان الجماعات التكفيرية التي دعمتها بالانهيار والتفكك منذ حوالى سنتين.

 واتساقاً مع سنن الصراعات السياسية وطبيعة الأشياء، جاء اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الموقّع من قبل الرئيسين بوتين وإردوغان في إدلب انعكاساً لما انتهت إليه موازين قوى في ميدان المعركة، ولم يتطرق الاتفاق إطلاقاً إلى المناطق التي حررها الجيش العربي السوري خلال الشهر الأخير من المعارك، والتي تمثل تقريباً نصف مساحة محافظة إدلب، وتضم 215 بلدة ومدينة، وذلك عكس ما وعد به إردوغان القاعدة الشعبية التركية والإخوانية المؤيدة له (إجبار الجيش السوري على العودة إلى حدود سوتشي).

 وقد تضمن الاتفاق التزامات تركية بتصفية التنظيمات التكفيرية التي قاتل معها الجيش التركي خلال الشهر الماضي، وإبعادها عن أهم مواقعها الحصينة في جبل كباني وأريحا وجسر الشغور على جانبي طريق M4، ما يضع إردوغان أمام أمرين أحلاهما مر، إما خوض قتال مرير مع حلفائه، وإما العودة معهم لتلقي ضربات الجيش السوري وحلفائه، وهذا ما يبدو مستبعداً، نظراً إلى ما تسرب عن حجم الخسائر التركية وأعداد قتلى الجيش التركي خلال المواجهة الأخيرة، والتي يبدو أنها أكبر بكثير مما أعلن.

من جهة أخرى، ظهر مجدداً، ومن خلال اتفاق وقف إطلاق النار، الحرص الروسي على إعطاء فرصة جديدة، ليس لإرودغان الشخص، إنما لتركيا - الدولة العميقة والجيش والقوى الشعبية - لفصل نفسها عن مشروع الإخوان المسلمين العالمي.

هذا الحرص ليس نتيجة مصالح روسية اقتصادية خاصة مع تركيا، كما يحاول الإعلام المعادي للدولة السورية أن يصوّر، فروسيا خسرت بسبب إصرارها على دعم الدولة السورية خلال سنوات الحرب الإرهابية التسع التي شُنّت عليها، ما يقارب 100 مليار دولار، نتيجة المضاربات السعودية في سوق النفط.

كما رفضت موسكو عروض رشى ضخمة من قطر والسعودية، قبلت دولةٌ مثل فرنسا بما قيمته أقل منها بكثير، مقابل غض النظر عن الخطر على أمنها القومي، والناتج من دعم المشروع الإرهابي التكفيري في سوريا، بل إن الحرص الروسي على إعطاء الفرص لتركيا، يأتي في الواقع ضمن استراتيجية الحلف "الروسي الصيني الإيراني" من أجل آسيا خالية من النفوذ والوجود العسكري الأميركي خلال عشر سنوات.

لذلك، إن الصراع هنا ليس مع تركيا بقدر ما هو على تركيا، التي يراهن حلف منظمة شنغهاي الأوراسي على فرص اجتذابها وإخراجها من الناتو.

 ولعل صمود الدولة والجيش السوريين خلال السنوات التسع الماضية كان نقطة القوة الأهم في يد الحلف الأوراسي، من أجل ترويض تركيا وإقناعها بعدم جدوى الوهم الذي أغوتها به واشنطن، والمتمثل بحلم الهيمنة على المنطقة، تحت عنوان استعادة الخلافة العثمانية.

ضمن السياق السابق، جاء الحديث الاستراتيجي الأهم في روسيا حالياً، والأقرب إلى الرئيس بوتين، للفيلسوف ألكسندر دوغين، في مقابلة معه في جريدة "الأخبار" اللبنانية في عددها الصادر في 27 شباط/فبراير 2020، تعليقاً على الاشتباك العسكري في إدلب، كما تضمن حديث الرئيس بشار الأسد عن العلاقة مع تركيا الدولة والشعب المعنى ذاته ضمن المقابلة التي أجراها مع قناة "روسيا 24"، وبثت في 5 آذار/مارس 2020.

لذلك، يمكن القول إن هناك تقاسم أدوار بين الحليفين، روسيا وسوريا، إذ تقوم الدولة السورية بالاشتباك عسكرياً مع جيش تركيا الذي يحتل أرضها، فيما تمد له روسيا اليد للخروج بصيغة تحفظ ماء الوجه، والهدف النهائي من هذا التنسيق إبعاد تركيا عن تأدية دور الخادم للمصالح الأميركية في منطقتنا.

وبعيداً من جنون إردوغان وأحلامه الإمبراطورية، ليس لتركيا الدولة مصلحة حقيقية في حماية الإرهابيين الذين شوّهوا صورة الإسلام، واستهدفوا أمن العرب والمسلمين، خدمة للأمن الإسرائيلي، وخصوصاً إذا كان ثمن ذلك زج جيشها في معركة خاسرة في سوريا، فلو أن العائد من دعم التكفيريين سيكون عودة هيمنة تركيا على العالم العربي، لوقفَ كل الأتراك مع إردوغان، لكن صمود سوريا خلال السنوات الماضية أثبت أن ذلك من المستحيلات.

ولا شك في أن الدولة والجيش التركيين فيهما من أدرك أن المصلحة الاستراتيجية التركية هي المصلحة السورية والروسية والإيرانية نفسها، وتتمثل بإسقاط المشاريع الأميركية التي تستهدف أمن الإقليم بأكمله، وهو ما أشار إليه ألكسندر دوغين في مقابلته مع صحيفة "الأخبار"، عندما تحدث عما أسماهم الأوراسيين داخل الدولة والجيش التركيين، الذين يرون مستقبل تركيا بالانفصال عن السياسات الغربية في منطقتنا.

على المقلب الآخر، وبعد هزيمتهم العسكرية والأخلاقية، يعزّي جماعة ما سُمي بالثورة السورية أنفسهم بالقول إن حال الدولة السورية (النظام) ليس أفضل من حالهم.

 ومما يتم ترديده اليوم بكثافة القول "إن الأتراك والروس يتفاوضون على مستقبل سوريا"، ويتجاهل هؤلاء أن الاتفاق الروسي التركي لم يكن حول مستقبل سوريا الذي صار معروفاً، بل كان حول إجراءات ومراحل تصفية ما تبقى من ثورتهم الإرهابية التفكيرية، وأن اتفاق موسكو الأخير لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى الدستور السوري أو تقاسم السلطة مع الرئيس الأسد، كما كان الأتراك وأسيادهم الأميركيون يحلمون منذ أن بدأوا بدعم الإرهاب على الأرض السورية.

وإذا كانت هناك دروس أثبتتها حرب السنوات التسع الماضية، فأهمها أن الدولة والجيش السوريين هما الورقة الرابحة التي ترجّح حظوظ حلف شنغهاي (الروسي الصيني الإيراني) في مواجهة حلف الناتو في منطقة غرب آسيا، فلولا صمود سوريا، لحوصرت إيران وعزلت في المنطقة، ولبقيت روسيا مجرد دولة إقليمية قوية، ولما عادت دولة عظمى وقطباً عالمياً، ولفقدت الصين أي فرصة في الوصول إلى المتوسط عبر مشروع طريق الحرير الجديد الذي تضع الولايات المتحدة كل ثقلها اليوم لإفشاله، بل إن الصمود السوري هو العامل الأهم في زيادة فرص ترويض وإعادة تشكيل السياسة الخارجية لتركيا وإخراجها من الناتو.

لذلك كله، يجد حلفاء سوريا اليوم أنفسهم معنيين ببذل كل ما يمكنهم من أجل مساعدتها على استعادة قوتها وعافيتها وسيادتها على كامل أرضها.