لماذا أصبحنا تعساء؟

"التكيّف هو عدو السعادة". هذا ما يخلص إليه الباحث في علم النفس توماس جيلوفيتش، الذي توصل إلى أن اقتناءنا لشيءٍ جديدٍ يجعلنا سعداء لفترة وجيزة، لكن سرعان ما نتكيّف، فتتبدد مشاعر السعادة.

  • لماذا أصبحنا تعساء؟
    أصبح الناس يدورون في حلقة مفرغة، ويشقون في وظائفهم، ويعملون لساعاتٍ طويل

علي شاب أربعيني يعيش في إحدى قرى جنوب لبنان. يملك مطعماً صغيراً عند مدخل قريته المعروفة بسوقها التجاري المزدحم. دأب على ممارسة طقوسه المعتادة يومياً، ومنها هواية الصيد صباحاً. يتناول فطوره المنزلي مع عائلته، ثم يمضي إلى السوق ليختار بعناية قطع اللحمة الطازجة. يشتري 200 شريحة لحمة فقط.

 في مطعمه المتواضع، يعمل وحيداً. يسجّل بنفسه الطلبات التي تنهال عليه بكثرة. يبدأ بالطلبية الأولى. يقشر حبات البطاطا ثم يقليها. يشوي اللحمة على نارٍ هادئة. يقطع أوراق الملفوف ليعدّ السلطة. يضع المكونات جميعها في خبز الهمبرغر الساخن، ويقدّمها للزبون.

تحتاج هذه العملية برمّتها إلى 20 دقيقة. يكرّرها بالوتيرة والتأني نفسه لكل زبون. يقول رواده إن طعمها اللذيذ لا مثيل له، وإنها تستحق كل هذا الانتظار والعصبية، لكنهم يستاؤون لأن شرائح اللحمة المحدودة تنفد بسرعة.

يرى خبراء تطوير الأعمال والريادة أنَّ من واجب علي توسيع نشاطه، فعليه أولاً أن يبتاع عدداً أكبر من شرائح اللحمة اليومية ليلبي حاجة زبائنه، والأفضل أن يستخدم اللحوم المجلّدة، وأن ينوع منتجاته، إضافةً إلى خدمات التوزيع المنزلي "الدليفري"، وتقديم الأطباق على الطاولات، وكذلك يتوجب عليه أن يوظف عدداً من الطّهاة والنوادل. 

وفي مرحلة لاحقة، يفترض أن يتوسع جغرافياً، ويفتتح فروعاً في العاصمة والمدن الرئيسية، وأن يعتمد سياسة "الفرانشيز"، لتصبح لديه سلسلة مطاعم، على غرار المطاعم العالمية، لينتشر اسمه حول العالم.

لو امتلك علي سلسلة مطاعم ذائعة الصيت، فهل سيصبح أكثر سعادةً وراحةً؟

يرفض علي فكرة التوسع والتوظيف، فلا تعنيه نظريات "الفرانشيز" ولا العالمية. يرى أن نسبة أرباحه من بيع 200 حبة همبرغر تكفيه ليؤمن قوت يومه، ويلبي احتياجات بيته وعائلته، فلمَ عساه يتكبد عناءً كبيراً لتكديس المال!

 
لا يساوم على تغيير عاداته ونمط حياته. يُعبّر عن استمتاعه بعمله واهتمامه بكل تفصيل في مرحلة إعداد أطباقه وسندويشاته، فلا حاجة لأن يوظف معه آخرين! ويستشهد بقول مأثور: "فلاح مكفي، سلطان مخفي".

ثمة من يرى أن اكتفاء علي بنصيبه المتواضع ليس إلا جبناً وغياباً لروحية رائد الأعمال المغامر الطامح إلى التوسع والانتشار، فبقاؤه في مطعم قروي صغير ليس إلا تقوقعاً وانكفاءً على الذات، لكن نظرية "اقتصاد السعادة" تؤكد أن تفكير عليّ هو الصواب بعينه، فالجمال يكمن في البساطة، والسعادة تتلخص بالاستمتاع بما نملكه حالياً من دون تعقيدات، والابتعاد عن الإسقاطات الجوفاء للنماذج التي تسوّقها المدارس الاقتصادية الغربية، حيث يصبح هدف المؤسسات الأوحد زيادة الربحية، فيربط الأفراد السعادة بزيادة الأموال، ويتنامى الجشع والطمع في المجتمع المحلي، فليس بالضرورة أن يكون صاحب أكبر سلسلة مطاعم سعيداً وراضياً في حياته كعلي وأمثاله، وربما العكس تماماً.

من قرية معزولة إلى وجهة سياحية

لداخ ﻗﺮﻳﺔ ﺻﻐﻴﺮة وهادئة في إقليم كشمير. كانت شبه معزولة عن العالم، وكان أهلها يعملون في الزراعة وتربية الحيوانات، ويتبادلون المزروعات والمنتجات الحيوانية في أسواقهم المحلية، ولم يدركوا معنى مفهوم البطالة، وفق عالمة اللسانيات السويدية هيلينا نوربرج هودج، لأنهم لم يختبروها، فالعائلات كانت تعمل في الزراعة بكامل أفرادها، وكان أهل القرية يعيشون في سعادة عارمة.

منذ منتصف العام 1970، نشطت السياحة نحو ﺳﻠﺴﻠﺔ جبال الهيملايا، وأصبحت لداخ ممراً لعشرات الآلاف من الزوار الذين يقصدونها للراحة أثناء المسير باتجاه أعلى قمم العالم.

 حينها، لم تعد لداخ معزولة، وغزتها السلع العالمية والمنتجات الاستهلاكية تلبيةً لرغبة السائحين. وسرعان ما راق النمط الجديد للمواطنين الأصليين.

تذكر عالمة اللسانيات هيلينا هودج أنها خلال زيارتها لداخ قبل انفتاحها على السياحة، طلبت من أحد وجهاء القرية أن يدلّها على أفقر منزلٍ في لداخ. فكّر الرجل قليلاً ثم أجابها: "لا توجد بيوت فقيرة هنا"، لكن في زيارتها الثانية بعد مرور 10 سنوات، سمعت الرجل نفسه يقول لأحد السائحين: "آه لو كان بمقدوركم مساعدتنا، فنحن في لداخ فقراء جداً".

ما الذي جعل حال مواطني هذه القرية الوديعة يتبدَّل؟ 

لقد تعدلت الأنماط والسلوكيات في لداخ، بعدما صارت مقصداً للسياح، وأصبحت منازلها الهادئة فنادق يقطنها الأجانب، فتغيّرت وجهة أسواقها من بيع الخضراوات والمنتجات الزراعية المحلية إلى بيع المواد الاستهلاكية العالمية.

هذا الأمر أحدث خللاً في توازن اقتصادها المحلي، بعدما تخلّى أهلها عن الزراعة وتربية الحيوانات لصالح تقديم الخدمات السياحية بأشكالها المختلفة. تماهى مواطنوها مع الأنماط الغربية، وطابت لهم مفاهيم الحداثة المعولمة، من خلال الاختلاط بزائريهم الميسورين.
 عندها، بدأ أهل لداخ مقارنة مستويات معيشتهم بمستويات السائحين ومقتنياتهم وأموالهم وأنماط معيشتهم، فأرادوا أن يعيشوا حياة زائريهم ويمارسوا عاداتهم الاستهلاكية، فتولدت عندهم مشاعر الإحباط والتعاسة.

كيف جعلتنا العولمة أكثر تعاسة؟

ترى الباحثة هيلينا هودج أن دخول مظاهر العولمة إلى مجتمع لداخ المحلي حوّل مواطنيها من أناس راضين ومسرورين إلى مساكين وحزينين، فقد كانوا يعيشون الحياة ببساطة، ويعملون في أرضهم، ويمارسون تقاليدهم المتوارثة، ويلهون ويسهرون ويغنون ويرقصون بفرح وحب، ويساورهم الشعور بالاكتفاء والغنى والرضا، ولكن وقوعهم في فخ العولمة الاستهلاكية، ورغبتهم في ممارسة سلوكيات العيش الغربية، جعلتهم مكتئبين وفقراء، وجعلت من بعضهم عاطلين من العمل، وبعضهم الآخر يعمل لساعات طويلة يومياً.

في كتابه "العولمة والضغوط الخارجية"، يقول الكاتب بول كيركيبريد إن المواطن المعولم يفقد الشعور بالانتماء، كمن يقتلع من جذوره، ويفقد الثقة والأمان، فيصبح المواطنون في المجتمعات المعولمة تعساء ومسلّعين. 
السلوك الاستهلاكي المتزايد، والأنماط المستوردة للترفيه والتسلية، إضافة إلى تعريفات النجاج المجتمعية المغلوطة التي تربط النجاح والسعادة بتكديس المال إلى ما لا نهاية، جعلت الأفراد في مجتمعاتنا مضطربين ومحبطين، ويعملون بكدّ وجهد، نهاراً وليلاً، ليتمكنوا من تسديد ديونهم وتأمين احتياجاتهم.

وقد أدت المصارف العالمية دوراً سيئاً في ترغيب الناس العاديين بالاقتراض، فلم تقتصر قروضها ذات الفوائد العالية على أساسيات الحياة، بل أضحت تستخدم لشراء منزل واسع بديلاً من المنزل المتواضع، واقتناء سيارة فاخرة بديلاً من السيارة الاقتصادية. 

وساهمت الصور النمطية المقولبة في دفع الناس إلى أخذ قروض من أجل القيام بعمليات التجميل للتشبّه بنجوم هوليوود، وصار طبيعياً أن يقترض المرء المال ليسافر لقضاء عطلته خارج البلاد، وغيرها العديد من قروض الرفاهية اللامتناهية. 

أصبح الناس يدورون في حلقة مفرغة، ويشقون في وظائفهم، ويعملون لساعاتٍ طويلة سعياً لزيادة دخلهم الشهري، بهدف تسديد أقساطهم الشهرية.

"التكيّف هو عدو السعادة". هذا ما يخلص إليه الباحث في علم النفس توماس جيلوفيتش، الذي توصل إلى أن اقتناءنا لشيءٍ جديدٍ يجعلنا سعداء لفترة وجيزة، لكن سرعان ما نتكيّف، فتتبدد مشاعر السعادة، ونرغب في اقتناء ما هو أغلى أو أحدث، لنستعيد الشعور السابق من جديد، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.

يخلص جيلوفيتش إلى أن التجارب والخبرات هي التي تجلب السعادة الحقيقية، وليس اقتناء الأشياء، لأن التجربة، حتى ولو لم تكن جيدة، فستبقى حيّة في الذاكرة بجوانبها الإيجابية، على عكس السلع التي ستُشعر المرء بالإحباط، لعدم تحقيقها قدر السعادة المأمول من جهة، ولاضطراره إلى العمل بجهد أكبر لتسديد أقساطها من جهة أخرى. وربما هذا ما يفسر تدني مستويات السعادة بشكل عام عند البشر، على الرغم من تسارع التطور التكنولوجي والتواصلي.

وفي الختام، ربما أصبح لزاماً أن نعيد تعريف الأساسيات والكماليات في حياتنا، لنزيل اللبس الواقع بينهما، ونتخلّى عن الإضافات التي ظننا أنها ستمنحنا سعادة دائمة، ليتبيّن أنها تضفي شعوراً مؤقتاً وزائلاً. لقد آن الأوان لنختبر السعادة الكامنة في البساطة، ولنطبّق مقولة "إن القناعة كنز لا يفنى".