"بيان" أميركي مُتجدِّد.. اقصفوا العقول

التحرّك الأخطبوطي والسرعة في تنفيذ مشاريع التمدّد ترافقت مع قصف "فكري" تديره مؤسَّسات أنشئت في معظم الدول التي أصبحت في دائرة التأثير الأميركي.

  • "بيان" أميركي مُتجدِّد.. اقصفوا العقول
    "سلاح" غسل الأدمغة رافق الدور الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية

أثار كتاب "المتلاعبون بالعقول" لعالِم الاجتماع الأميركي هربرت شيللر، والذي نُشِر في طبعته الأولى في العام 1973 في مدينة "بوسطن" الأميركية، سجالاً بين بعض النخب الثقافية والفكرية الأميركية حول الهيمنة الإعلامية الأميركية على المعلومة وطُرُق الاستحواذ عليها ونشرها، وفق آليات السيطرة والتزييف المُمنهجين. 

ورغم العصف الفكري الذي نجح هربرت شيللر في رفع منسوبه بين الأوساط المُهتمة بقراءة حقيقة ما يجري في سياسة التلاعُب بالعقول والتضليل، بهدف التوجيه المُبرْمَج لقلب صورة الواقع، فإن أهمية الكتاب تجاوزت ذلك، ليكون مادة دسِمة في التحليل والتركيب لطبيعة النظام الأميركي الذي يستأثر بوسائل الإعلام وفق مُحدّدات التوجيه "الشعبوي"، لغسل الأدمغة، وتحويل التكتلات المجتمعية إلى قطعان تتلقّى المعلومة من دون أن تعود إلى مصادرها وتراجع مصداقيتها.

لكن السؤال الأبرز: هل ما قدَّمه شيللر أسهم في صوغ "نظرية" أسّست لمفهوم كاشف يواجه استهداف العقل وتضليله؟

من دون مُقدّمات نظرية، يمكن رَصْد التأثير المباشر للطروحات الفكرية التي أعقبت نشر "المتلاعبون بالعقول" وغيره من الكُتب الفكرية القيّمة في سبعينيات القرن الماضي، وذلك في دوائر التفاعُل الثقافي التي فرضت نفسها وناقشت انعكاس الحرب الباردة على الواقع الأميركي والدولي، وكذلك درست صورة السياسة الأميركية التي هشّمتها الحرب على فييتنام، وما أفرزته من مآسٍ وجروحٍ لم تندمل رغم كل التبريرات الأميركية والتسويق للدولة "العُظمى" ومصالحها. 

قراءة البيت السياسي الأميركي من داخله ربما كانت وفق "الحاجة"، أو لنقل شحيحة، إلا في إطار التوصيف الإعلامي لمُحرّكاتها، وهي أمر يحرص عليه السياسيون الأميركيون في ما يطلقون عليه "الغموض البنّاء" للتركيبة الداخلية. وبالتالي، تبقى مصادر المعلومات أو ما يتمّ تسريبه مُراقباً من الأجهزة المعنية والمُتشابكة في عملها.

وفي إطار جهدها لمواجهة "الدعاية المُضادّة" التي تستهدف "الدولة العميقة"، توضع القراءات التي لا تهمل "معلومة"، مهما كانت صغيرة. وهنا يبرز دور المؤسّسات الثقافية الحاكِمة في الولايات المتحدة الأميركية في نشر ما يُحاكي برامجها المُستقبلية، والدور المنوط بـ"الدولة العميقة" التي يقع عليها الدور الأكبر لتبديد ما يُطرَح من رؤى فكرية تتعارض مع أهداف استراتيجية في الاحتواء ونشر ثقافة "التملّك" الحصري للعالم، ويصبح ما يُقدَّم أميركياً من سياسات اقتصادية وثقافية هو "الوصفات السحرية" التي يمكن أن تحقّق تأثيراً في التطوّر المجتمعي العالمي.

من هنا تأتي أهميّة "سلاح" غسل الأدمغة الذي رافق الدور الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، وفرض ثقافة "التبعية" السياسية التي ستكرّس أميركا لاعباً مؤثّراً يتحكّم بالقرارات الدولية. 

الصورة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، تجلّت في طروحات إعادة إعمار أوروبا، كمشروع "مارشال" الذي ُقدِّم على أنه دفع نحو التكامُل الاقتصادي والسياسي مع دول أنهكتها الحروب، والدفع يحمل هنا عناوين تسويق نماذج "بناءة" تظهر أن أميركا حريصة على مدّ الجسور بعيداً من الحروب وآثارها القاسية.

هذه السياسة الاستباقية التي انتهجتها واشنطن كانت لرفع الجدران أمام الاتحاد السوفياتي آنذاك. وقد دمغت بشعاراتٍ إيديولوجيةٍ، وندّدت بـ"الخطر" الشيوعي "الزاحِف" نحو هيمنة تكون فيها أوروبا "الغربية" و"الشرقية" ساحة نفوذه.

وكرَّست واشنطن في سبعينيات القرن الماضي نظرية "إيديولوجيا" القوَّة التي مكَّنتها من التأثير في المجتمعات الغربية، وكذلك في الداخل الأميركي، من خلال كمٍّ هائلٍ من المؤسّسات الثقافية والفكرية والسياسية التي استهدفت العقل بالدرجة الأولى، والتلاعُب بالمعلومات، وتسخير القوَّة "الثقافية" لقلب المفاهيم في المعارف كافة. وهذا الاستهداف انسحب باتجاه تشكيل مجموعات ضغط لتجتاح العالم وتؤسِّس لمفاهيم أميركية ستجني النتائج بعد التحكّم بمواقع أصبحت تحت تأثيرها. 

وترافق التوسّع السياسي والثقافي الأميركيان مع انفتاحٍ بريطاني على سياسات واشنطن، بل أصبحت بريطانيا بمثابة القاعدة الأميركية الأولى والساعِد الحديدي للمشروع الأميركي في أوروبا. ونجحت واشنطن في نظرية التمدّد في أوروبا ونشر قواعدها، بعد أن رسَّخت حلف "الناتو" كسلاحٍ هجومي في أوروبا، أغرق الشركاء فيه بمحدودية التفكير خارج الصندوق الأميركي.

التحرّك الأخطبوطي والسرعة في تنفيذ مشاريع التمدّد ترافقت مع قصف "فكري" تديره مؤسَّسات أنشئت في معظم الدول التي أصبحت في دائرة التأثير الأميركي. وهذه المؤسّسات رصدت حركة الشارع وتوجّهاته في أميركا والعالم، وأصبحت تشكّل مراكز نفوذ لا يُستهان بدورها. وعملت جيوش من "المُستأجرين" في كل المجالات الثقافية والفنية والسياسية على تشكيل رأي مُضاد في وجه مَن يستهدف المؤسّسة الأميركية، وفتحت النيران على كل مَن يسوِّق مشروعاً ثقافياً أو سياسياً يتعارض مع سياسة واشنطن، أو يفتح أفقاً للحوار الكاشف لطبيعة المؤسّسة السياسية أو العسكرية.

واستطاعت هذه المراكز أن تحدّ من دور كتّاب ومُفكّرين أميركيين وغربيين تناولوا السياسة الأميركية ودورها في منطقتنا والعالم. ولم يكن اللوبي الصهيوني بعيداً من هذا المشهد، وخصوصاً بعد أن تمكّن في الداخل الأميركي بقوّة تأثيره الاقتصادي في كُبريات المؤسّسات التجارية والصناعية والثقافية.

من المهم هنا أن نُعيد قراءة المنتج الثقافي الكاشِف للنظام السياسي الأميركي وتوحّشه. ورغم أنَّ ما قُدِّم من دراسات وكُتب وحوارات ما زال محدوداً، فإنَّ جرس الخطر الذي قرعه بعض المُفكّرين والكُتّاب أرّق إلى حدّ ما السياسيين الأميركيين. 

وبغضّ النظر عن محدودية التأثير، لكنها تمكّنت من إماطة اللثام عن حقائق كثيرة داخل البيت الأميركي. ولنقل إنَّ الرسائل الفكرية والثقافية غير المُرتهنة بيّنت طبيعة العلاقة الاستراتيجية مع كيان الاحتلال ودعمه في المنابر الدولية.

ما تمارسه أميركا اليوم في الساحة الدولية يقول إنها لم تتراجع عن إنتاج "ثقافة" تعتبرها المُرسِّخ لـ"نظرية" الحضور في العالم، وبالتالي تثبيت أنظمة تدور في فلكها، وتتبنّى طروحاتها ونظرياتها "المؤسّسة" لنظام تسود فيه بأسلحة التلاعُب بالعقول و"استنساخ" هياكل بشرية بلا تاريخ وهوية.