من سوريا إلى "فلسطين ليست قضيتي".. إبر الكراهية تحت الجلد

بدا المشهد سوريالياً إلى حد بعيد. مذيعة أخبار في قناة إسرائيلية تستصرخ النخوة العربية والإسلامية ضد عرب ومسلمين!

  • من سوريا إلى "فلسطين ليست قضيتي".. إبر الكراهية تحت الجلد
    من سوريا إلى "فلسطين ليست قضيتي".. إبر الكراهية تحت الجلد

"وينكو يا عرب، وينكو يا إسلام، وينكو يا خونة".

بهذه العبارة، وباللهجة الفلسطينية، فاجأت مذيعة نشرة الأخبار الرئيسية في قناة "آي 24 نيوز" الإسرائيلية المشاهدين، تعليقاً على ما تناقلته وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الغربية والخليجية يوم 6 نيسان/أبريل 2017، من أخبار حول ارتكاب الجيش السوري مجزرةً مزعومةً باستخدام السلاح الكيماوي في بلدة "خان شيخون" السورية.

مقطع المذيعة لوسي هريش الإسرائيلية الجنسية، الفلسطينية الأصل، والمتزوجة من الممثل الإسرائيلي تساحي هليفي، تم تناقله بكثافة في مواقع التواصل العربي.

بدا المشهد سوريالياً إلى حد بعيد. مذيعة أخبار في قناة إسرائيلية تستصرخ النخوة العربية والإسلامية ضد عرب ومسلمين! لكن تأثير ما سبق في الجمهور العربي لا يقارن بأي حال من الأحوال بتأثير الدعاية الصهيونية التي ظل عدد كبير من وسائل الإعلام العربية الممولة بمال النفط والغاز الخليجيين يبثها على ألسنة إعلاميين عرب ونخب مثقفة ودينية عربية طوال السنوات الماضية، وبمضمون لا يختلف أبداً عن فحوى كلام المذيعة الصهيونية لوسي هريش، وهو ما كان له كبير الأثر في تعبئة البيئة الحاضنة للجماعات التكفيرية التي قاتلت الدولة السورية، وفي تعبئة حشد الإرهابيين العرب والأجانب الذين تم استقدامهم من الدول العربية وأنحاء العالم، وفتحت المطارات والحدود الدولية أمامهم حتى يصلوا إلى الميدان السوري، وذلك في وقت يزداد ويتضاعف التضييق الأمني والاقتصادي على كل من يتصل بعلاقة، ولو من بعيد، بأي من حركات المقاومة التي تقاتل "إسرائيل"، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.

في الواقع، تعرضت الدولة السورية ممثلةً بشخص رئيسها، ولسنوات طويلة، لمحاولات تشويه دؤوبة، بهدف تحويلها إلى عدوٍ في الوعي الجمعي العربي، وذلك منذ أن رفض الرئيس الأسد التأقلم مع الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وبدأ بدعم المقاومة العراقية، ورفض شروط وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول بخصوص التراجع عن دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية. وانخرط في تلك الحملات الشرسة الإعلام السعودي منذ العام 2005 والقطري منذ العام 2011، وهما الطرفان اللذان يتشاركان السيطرة على أكثر من 80% من وسائل الإعلام العربية، وذلك بالتنسيق مع الحملات التي تشنها وسائل الإعلام الغربية ضد الأسد.

واتخذت تلك الجهود الممنهجة المنسقة بدقة خطين متوازيين: المسار الأول تصوير الأسد كديكتاتور قاسٍ لا يهمه إلا المحافظة على الكرسي، ولو كلفه ذلك استخدام أشد الأسلحة فتكاً بحق مدنيين ثاروا من أجل الحرية أو مقاتلين اضطروا إلى رفع السلاح، والمسار الثاني محاولات التقليل من شأن الأسد، وخفْت بريقه، وتبهيت حضوره، عبر تصويره مجرد تابع وأداة لسياسات دولية وإقليمية، وأنه لا يملك قراراً صغيراً أو كبيراً بشأن الحرب الدائرة في بلده.

والمفارقة المثيرة هنا أن البروباغندا السابقة تصدر عن وسائل إعلامية تعمل في خدمة الأجندة السياسية لإمارات ومشيخات محمية بشكل كامل بالقواعد الأميركية، وتتعرض للإهانة بشكل دوري وعلني من قبل الرئيس الأميركي، الذي لم يخف أمام وسائل الإعلام العالمية عزمه على حلب ثرواتها وإجبارها على الدفع.

وفيما فشل الإعلام السعودي في التغطية على الإذلال الذي يتعرض له نظام آل سعود من قبل ترامب، من أجل إجباره على دفع مئات المليارات كإتاوة مقابل حماية العرش السعودي، نجح الإعلام القطري نسبياً في حرف الأنظار عن الصفقات الاقتصادية التي وقعها تميم إرضاءً لترامب، خلال زيارته لواشنطن في تموز/يوليو 2019، وهو ما بلغ قيمته 185 مليار دولار، وفرت مليون فرصة عمل للأميركيين، إضافة إلى 8 مليارات دولار تكلفة توسعة قاعدة العديد الأميركية في قطر، وهي أرقام ضخمة نسبة إلى حجم الاقتصاد القطري، الذي لا يتجاوز ناتجه المحلي السنوي 186 مليار دولار.

لكن كيف تمكّن مال النفط والغاز الخليجيين من السيطرة على المشهدين الإعلامي والثقافي العربيين؟ وكيف نجح البترودولار في فرض أجندة العداء والبغض والحقد تجاه كل من يرفض الخضوع للهيمنة الأميركية الإسرائيلية في منطقتنا؟

السيطرة على الوعي والوجدان العربي

تعود محاولة خلق عدو جديد في الوجدان العربي إلى بدايات الحرب (العراقية- الإيرانية)، وهي الحرب التي بدأها النظام العراقي السابق، بدعم أميركي وتمويل خليجي ضد الثورة الإيرانية، إذ تمكن نظام صدام حسين طوال فترة الثمانينيات من فرض سيطرة شبه مطلقة على وسائل الإعلام العربية غير الرسمية، والتي كانت مقتصرة حينها على الصحف والمجلات، وذلك بفضل الميزانيات الكبيرة بمقاييس تلك الحقبة، والتي خصصها لتمويل الصحف في بيروت ولندن، واستمالة المثقفين العرب على اختلاف جنسياتهم، لكن وبسبب طبيعة النظام العراقي الإيديولوجية (البعثية القومية)، ونظراً إلى تركيبة الجيش العراقي الطائفية المتنوعة، والذي كان يخوض معارك في غاية الشراسة ضد إيران، لم تكن الحملات التي تشن ضد الإيرانيين قائمةً على التحريض الطائفي، بل على استحضار الصراع والتنافس القديم المنسي بين (العرب والفرس) من كتب التاريخ.

في تلك الأثناء، لم يكن تمويل وسائل الإعلام أو العلاقة مع المثقفين والنخب قد احتلا مكانةً تذكر في قائمة أولويات أيٍ من أمراء دول الخليج وحكامها. قائمة الأولويات تلك كانت مقتصرة على إنفاق الأموال على الليالي الملاح المترفة في لندن وكان ولاس فيغاس، وعلى تمويل النسخة الوهابية المتطرفة من الإسلام بطلب من الغرب، بهدف مواجهة النفوذ السوفياتي والمد الثوري الإيراني، كما اعترف بذلك لاحقاً ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في لقاء مع "الواشنطن بوست" في العام 2018. وكان الخطاب الثقافي العربي المسيطر عليه من قبل الحركات التقدمية ينحو دوماً إلى "استفظاع" نمط حياة أمراء ومشايخ النفط العرب وبعدهم عن هموم الشعوب العربية وقضاياها.

وضعت الحرب العراقية-الإيرانية أوزارها في العام 1988، وانقلب الموقف الأميركي من العراق رأساً على عقب، وخصوصاً إثر عملية غزو الكويت في العام 1990. تشرح لنا الصحافية الأميركية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، لارا مارلو، في مقال لها في "التايم ماجازين" الأميركية، كيف طلب الأميركيون من السعودية بدء تخصيص استثمارات في مجال الإعلام، من أجل خوض معركة الرأي العام العربي التي كان التفوق فيها لصالح النظام العراقي، وذلك خلال حقبة التحضير لمعركة "عاصفة الصحراء" التي انتهت بإخراج الجيش العراقي من الكويت في العام 1991.

وتذكر مارلو أن أول ميزانية سعودية سنوية مخصصة لتمويل صحف وإعلاميين عرب بلغت 200 مليون دولار، وكانت ميزانية هائلة في زمن لم تكن فيه الفضائيات قد ظهرت بعد. 

وبفضل تلك الأموال التي تنامت لاحقاً، استطاعات السعودية أن تفرض سيطرة شبه مطلقة على المشهد الإعلامي العربي، حتى تحول انتقاد السعودية إلى خط أحمر، كما تم إغداق الأموال على المثقفين العرب لضمان ولائهم.

وفي هذا السياق، اعترف جهاد الخازن بأن الأمير تركي الفيصل، عندما كان يرأس جهاز المخابرات السعودية، عمد إلى إرسال تقارير له لنشرها على شكل مقالات في صحيفة "الحياة".

وتحول مهرجان "الجنادرية" الذي ترعاه المملكة إلى رمز لذلك السفاح المحرم بين النفط والفكر والثقافة العربيين. إن هذا الإغداق السعودي على النخب العربية يفسر مثلاً هوس عدد كبير من المثقفين العرب، على اختلاف انتماءاتهم الإيدلولوجية، بالديموقراطية في سوريا دون غيرها من البلاد العربية، وذلك إثر تنامي الخلاف (السوري - السعودي) حتى قبل اندلاع الحرب الإرهابية في سوريا بسنوات.

وكان على المشاهد العربي أن ينتظر سنوات حتى اندلاع الصراع (القطري- السعودي) كي يتسنى له أن يسمع صوتاً إعلامياً عربياً عالياً ينتقد السعودية، ففي العام 1996، انقلب الأمير حمد بن خليفة على أبيه، وتدخلت القوات السعودية لمحاولة إعادة تنصيب الأمير الأب، مسيطرة على جزء من الأراضي القطرية، لكن وزير الخارجية القطري الذي ستكتب له الشهرة لاحقاً، حمد بن جاسم، تمكن من عقد صفقة مع اللوبي الصهيوني في واشنطن، لمنع التدخل السعودي من الوصول إلى هدفه، وذلك مقابل افتتاح أول مكتب تمثيل دبلوماسي للصهاينة في منطقة الخليج العربي في العاصمة القطرية الدوحة، لتظهر إثر ذلك قناة "الجزيرة" بتمويل سخي، وبإشراف الـ"بي بي سي" البريطانية، وتبدأ ببث التقارير السياسية المنتقدة للسعودية، لتظهر بوادر عصر جديد من التسابق القطري السعودي على نيل الرضا الأميركي، من خلال التنافس على انتزاع الريادة في التطبيع وخدمة "إسرائيل".

وتمثلت أخطر أعراض السيطرة الخليجية على القسم الأكبر من وسائل الإعلام العربية بدخول التحريض الطائفي والمذهبي لأول مرة ضمن مفردات الخطاب الإعلامي، وحتى الثقافي العربي. وفيما بدأت وسائل الإعلام - السعودية التمويل - بالتحريض المذهبي على إيران وحزب الله منذ حرب تموز/يوليو 2006، التي راهن عليها الحلف (الأميركي – السعودي -الإسرائيلي) من أجل تحقيق ما فشلت حرب العراق في تحقيقه، أي شرق أوسط جديد خاضع للهيمنة الأميركية الإسرائيلية ومن دون مقاومة، فإن وسائل الإعلام القطرية تأخرت إلى ما بعد العام 2011 في تبني خطاب التحريض المذهبي ذاك، لكن الإعلامين تنافسا قبل ذلك، ومنذ التسعينيات، على استضافة المتحدثين الإسرائيليين، ومنحهم الوقت الكافي لإبداء الرأي في ما يخص العالم العربي، وذلك بحجة الرأي والرأي الآخر، وكأنّ وسائل الإعلام الإسرائيلية، وحتى الأميركية، تسمح بوجود وجهة النظر العربية خلال الحروب العدوانية على العالم العربي.

وبثت قنوات لبنانية سعودية التمويل، أثناء حرب تموز/يوليو 2006، أخباراً عن نجاح الجيش الإسرائيلي في الوصول إلى نهر الليطاني، فيما كان الجنود الإسرائيليون يفرون في تلك الأثناء من مارون الراس على الحدود الفلسطينية - اللبنانية، ويفشلون في احتلال بنت جبيل القريبة من الحدود.

أما أحد الإعلاميين المخضرمين، فقد دبج في جريدة "الحياة"، السعودية التمويل، مقالاً يحمّل فيه الفلسطينيين مسؤولية المجازر التي يرتكبها الطيران الإسرائيلي بحقهم في غزة، ذلك أنهم، كما كتب، ضيعوا فرصة تاريخية عندما رفضوا اتفاق كامب ديفيد، رغم أن عراب الاتفاق ومهندسه جيمي كارتر أقر بنفسه بأن الاتفاق يهضم حقوق الفلسطنيين.

ووصل الحلف الإماراتي السعودي أخيراً إلى مرحلة إنتاج وبث مسلسلات تنشر ثقافة كيّ الوعي الصهيونية، من خلال حوارات درامية تشدد على أن "إسرائيل" أمر واقع، شاء العرب أم أبوا، كما دشن الذباب الإلكتروني السعودي هاشتاغ "فلسطين ليس قضيتي" على موقع تويتر، ليسقط آخر قناع يخفي الدور التآمري التاريخي الذي مارسته السعودية مع الكيان الصهيوني. 

ورغم أن الإعلام الممول قطرياً ظل عموماً أقل صراحة ووقاحة من الإعلام السعودي في مغازلة "إسرائيل" وطلب ودها، وأكثر ذكاءً في نوعية الخدمات التي يقدمها لها، من خلال الاكتفاء بشن حملات التحريض والتشويه الشرسة على أعدائها، فإن هذا لم يمنع مقدم البرامج الشهير على قناة الجزيرة، فيصل القاسم، من التشديد، من خلال صفحاته الموثقة في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال مقالاته المنشورة في صحف قطرية، رداً على من يتهمه بالصهيونية، على "أن الصهيونية ليست تهمة يتهم بها، فهي بحسب رأيه أنجح مشروع في المنطقة".

ولا يجب أن ننسى كيف استضاف القاسم المعلق الإسرائيلي إيدي كوهين في حلقة تاريخية من "الاتجاه المعاكس"، وأتاح له الفرصة كاملة ليوجه أقذع الإهانات للأمة العربية من منبر عربي ومن دون مقاطعة.

كما يحرص فيصل القاسم في برنامجه، وبشكل دوري، على ترديد عبارة أن "النظام السوري وحزب الله قتلا من السوريين أكثر مما قتلت إسرائيل". طبعاً، بحسب منطق القاسم وقناة "الجزيرة"، إن الدولة السورية وحلفاءها مسؤولون عن كل ضحايا الحرب السورية (حتى الضحايا الذين قتلتهم الجماعات التكفيرية ومثلت بجثثهم أمام الكاميرات).

الخلاصة

إمارات الخليج ومشيخاته هي كيانات وظيفية خلقها الاستعمار الغربي في منطقتنا، وأوكل إليها دور النواطير على الثروة النفطية، وهي أدت كذلك دوراً رئيسياً في خدمة الهيمنة الأميركية والوجود الصهيوني، من خلال تمويل المؤامرات على حركات التحرر والمقاومة العربية في المنطقة، من عبدالناصر إلى الأسد والسيد نصرالله، والوثائق الأميركية المرفوع عنها السرية تثبت تحالف الملك فيصل مع "إسرائيل" ضد عبدالناصر في حرب اليمن، وإيصاله أسلحة إسرائيلية إلى اليمن، كما تثبت إلحاحه في طلب ضربة عسكرية إسرائيلية لسوريا ومصر تحققت في العام 1967، وثبت دوره في تشجيع السادات على الارتماء في الحضن الأميركي والخروج بمصر من الصراع (العربي- الإسرائيلي). وما سبق يفسر اختلاف السعوديين والقطريين في كل ساحات الصراع على طول الإقليم واتفاقهما فقط ضد الرئيس الأسد. 

لكن التعاون (الخليجي- الإسرائيلي) ظل مخفياً إلى أن بدأت القيمة الوظيفية للكيانات الخليجية تتضاءل في العين الأميركية، وذلك بعد اكتشاف تقنية النفط والغاز الصخريين، وبعد المقاومة الشرسة التي واجهها الغزو الأميركي للعراق، والتي كلفت الاقتصاد الأميركي 7 تريليون دولار، بحسب ترامب.

 بسبب هذه التطورات، ازدادت حماسة حكام الخليج لتقديم المزيد، عبر إبداء استعدادهم لخدمة "إسرائيل" بأشفار العيون، وتظهير التحالف الضمني معها إلى العلن، رغبة من تلك الكيانات في المحافظة على الحماية الأميركية التي تعتبرها أساس وجودها. 

اغتصبت فلسطين في يوم النكبة، وفي يوم القدس العالمي إحياء لقضية فلسطين في نفوس كل المقاومين، وبين اليومين تاريخ نضال وتضحيات.. في زمن القدس، تغطية خاصة حول فلسطين والقدس، ومحاولات التطبيع المستمرة، التي بدأت تأخذ بعداً أكثر مباشرة ووقاحة.