هل غير المقاومة ما يعيد فلسطين والقدس؟

لم يكد الشهر الأول على نكسة 1967 يمضي، إلا وقد أزيل 5000 منزل وحارات بكاملها من الوجود، منها حارة المغاربة التي أنشئت منذ عهد صلاح الدين في ساحة البراق.

  • هل غير المقاومة ما يعيد فلسطين والقدس؟
    لقد أثبتت أشكال الصّمود الفلسطيني ضد كلّ وسائل تحطيم الحياة اليومية

 

باتخاذ القرار 303 في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/ديسمبر 1949، مُنحت مدينة القدس وضعاً دولياً خاصاً، وتم التأكيد على حماية الأماكن المقدسة فيها، واحترام الخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية لجميع سكانها، لكن "دولة" الاحتلال لم تحترم يوماً ما جاء في القرارات الدولية، وأعلنت في العام 1980 ضم القدس الشرقية، بعد أن كانت قد احتلتها في العام 1967. 

أما الهيئة المشرفة على تطبيق القرار، والمكوّنة من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، فهي معطّلة منذ العام 1994 وسريان اتفاقية أوسلو، فلم تسمح "دولة" الكيان الغاصب التي منعت أي نشاط للسلطة الفلسطينية، حتى للأمم المتحدة، بممارسة أية سلطة إدارية على القدس. 

وإلى أن أتى مؤخراً قرار ترامب بإهداء القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، كانت كل أنواع الضغوط وانتهاك الحقوق قد مورست، وما زالت تشتد وطأتها على الفلسطينيين، للتسليم بأمرهم وتقديم مفاتيح بيوتهم لشذاذ آفاق، قدموا من أرجاء العالم ليغزوا أرضاً روَّجوا أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

يُذكر أن باراك قال يوماً لياسر عرفات: "لكم في القدس ما هو فوق الأرض، أما ما تحتها فهو لنا"، وقوبل هذا الكلام بالرفض، لكن "إسرائيل"، التي قدمت إلى هذه الأرض المقدسة بأطماع لا تعرف حدوداً، لم تتوقّف عند اتفاق أوسلو وغيره من مباحثات واتفاقيات، فبينما كانت السلطة الفلسطينية تجري المفاوضات، كانت "إسرائيل" تسرع في سرقة الأرض ونهب ثرواتها وما في داخلها من مصادر طاقة وغاز ومياه، وحتى حجارة، لتشييد مساكن المستوطنين، كما تنهب ما فيها من آثار لتزيينها بها، حتى باتت تمتلك ما فوق الأرض وما تحتها. لقد حصل الذي حذّر منه الكثيرون عندما قالوا: "قد ننام ونصحو على مدينة كان اسمها القدس". 

منذ اليوم الأول لاحتلال زهرة المدائن، شرعت "دولة" الاحتلال بعمليات التهويد المنظّم لها، وأعملت معاول الهدم فيها. هدْم المنازل كان أول عمل قامت به، ليتوالى بعد ذلك فرض نظام الحكم العسكري والتطهير العرقي والاعتقال والإبعاد وإلغاء حقوق المواطنة. ولم يكد الشهر الأول على نكسة 1967 يمضي، إلا وقد أزيل 5000 منزل وحارات بكاملها من الوجود، منها حارة المغاربة التي أنشئت منذ عهد صلاح الدين في ساحة البراق. هذه المدينة، مهبط الرسالات السماوية، والتي تعد من أقدم المدن في العالم، يجري انتزاعها من سكانها الأصليين على مسمع ومشهد من العالم، بمصادرة أراضيها وهدم بيوتها وأحيائها ووضع اليد عليها بكل الأشكال المتاحة.

لقد تم تحويل بعض المساجد فيها إلى كنس يهودية وأماكن سياحية وتجارية ومرابض إبل، وجُرف عدد من المقابر الإسلامية، ونُقل رفات بعض الصحابة إلى أماكن مجهولة. كما صودرت وثائق المحكمة الشرعية، وهُدم مبنى المجلس الإسلامي الأعلى، رغم أن صفة الوقفية لا تسقط عنه بالتقادم، ثم جرت عمليات التزوير والحفر "السرية" تحت المسجد الأقصى. 

جرى تسجيل وتثبيت العديد من عقارات الفلسطينيين للمستوطنين عبر وثائق مزورة وبصورة غير قانونية. كما كانت السيطرة بالقوة على عشرات آلاف الدونمات من الأراضي، ومصادرة العديد من العقارات والمنازل في محيط المسجد الأقصى، والتي شُيدت فيها كنس يهودية، أي أن أكثر من 90% من الأراضي المقدسية وضعت تحت تصرّف الدولة العبرية، وحوّل بعضها إلى محميات طبيعية وأراضٍ مجمدة، وإلى بنى تحتية وشوارع. 

أما المسجد الأقصى، الذي تبلغ مساحة ما يشمله من متعلقات ومعالم مهمة وآثار 144 دونماً، فلم يتعرض فقط لعمليات السطو عليه والاستيلاء على حائط البراق الذي أسمته سلطات الاحتلال "حائط المبكى"، بل هُدمت تلة باب المغاربة في بداية العام 2007، وأقيم جسر مكانها ومبان وحصون لا علاقة لها بما كان. 

وقد كثّفت عمليات الحفر في ساحاته ومن تحته في السور الجنوبي منه، وصولاً إلى أسفل مسجد الصخرة شمالاً، ومن شرقه إلى غربه. كذلك، تعرّض لشقّ أنفاق تحته لتمكين دخول الشاحنات والجرافات، ولطمس المعالم والآثار الإسلامية، والزعم بوجود الهيكل أسفله. 

ورغم تبيان وجود تصدّعات وانهيارات في سوريه الغربي والجنوبي، فلم تسمح سلطات الاحتلال لدائرة الأوقاف الإسلامية بترميم ما خرّب في ساحته وفي مسجد البراق والمسجد الأقصى القديم والمسجد المرواني والمدارس التي تتبع له. 

جرى إغلاق العديد من المؤسسات، ومنها "مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية"، حيث صودرت منها خرائط ومخطوطات وعشرات الآلاف من الوثائق التاريخية التي لا تقدّر بثمن، والتي تعود إلى أكثر من قرنين من الزمن. ولم يتوقف الضغط للإجبار على تغيير السياسات، وإقفال المؤسسات، والاستفراد بالمسجد الأقصى وبالمقدسات الإسلامية، ووضع اليد على سائر المعالم التاريخية وما تمتلكه هذه الأرض المباركة. 

هذا غيض من فيض ما دوّنته في تقرير قبل عقد ونيف من الزمن، إذ نبّهت في حينها إلى ما يجري من فرض الأمر الواقع والاستثمار في الوقت، إلى أن يتم الانتهاء من ترتيب الوضع وتهويد المدينة، لإعلانها عاصمة لـ"دولة إسرائيل" بعد تفريغها من سكانها العرب في حدود العام 2020. ولم تتوقف تأكيدات نتنياهو بأن القدس ستكون بكاملها عاصمة أبدية لـ"دولة الاحتلال". 

بعد عودتي من فلسطين، كان التحضير في قصر الأمم المتحدة في جنيف لمؤتمر ديربن، وكان قد وقع اختياري من 5 أشخاص للحديث في موضوعات تهم حقوق الإنسان في القارات الخمس. 

لم يكن بالحسبان أن يتم استطلاعنا لمعرفة ما نحن بصدد قوله، وأن تلغى الحصة بكاملها، رغم أنها لم تمنح لكل واحد منا أكثر من 5 دقائق، لكن مضمون الدقائق الخمس الذي اخترته كان مما لا طاقة لهم به، لكونه حول القدس وفلسطين، فإذا كان هذا حال صرح من صروح هذا النظام الدولي الذي أخذ على عاتقه حماية حقوق الإنسان، فهل نستغرب أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم بخصوص الجرائم التي ترتكب في فلسطين والعالم العربي وكل من تستهدفه المشاريع الصهيونية في العالم قاطبة؟ 

وإذا كان الظلم منتجاً أساسياً للاعقلانية وغياب الأخلاق في العلاقات الإنسانية، فهو أيضاً منتج للمقاومات بكل أشكالها. وأول هذه الأشكال، كما أبانت التجربة، المقاومة المدنية. لقد عرف شرق المتوسط حركات مقاومة مسيحية للظلم ذات طابع ديني، مثل النساطرة واليعاقبة والموارنة. وعندما جاء الإسلام وكثر الظلم على المسلمين، خرج نص قرآني يعطي المشروعية لمقاومة الظلم. 

لقد أثبتت أشكال الصّمود الفلسطيني ضد كلّ وسائل تحطيم الحياة اليومية، من حصار إعلامي وسياسي واقتصادي خانق، وعدوان مسلّح وحشيّ متواتر وغير مسبوق، وما رافق ذلك من تواطؤ غربي وإقليمي غير معلن، بهدف فرض استسلام على شعب افترضوا أن تدميره سيجعله يقبل بشروط الاحتلال، أن هذه الوسائل التدميرية لا يمكن إلا أن تواجه بمقاومة مسلّحة، كما مدنية خلاقة، تنتقل من منطق العويل والبكاء على شعب يعاني، إلى منطق محاصرة المعتدي بكل الوسائل المدنية والقانونية. 

ولتقوية عناصر المناعة الداخلية، وإحداث نقلة نوعية تفرض متغيرات على الواقع الفلسطيني المأزوم، كان لا بد من الاعتماد على كل أصدقاء العدالة والحريات والحقوق في العالم، والاستناد إلى شبكات التضامن بين الشعوب وأشكال التعاون والتنسيق العابرة للحدود. 

جرى تمتين هذا التعاون المثمر بين القوى المحلية والوطنية والإقليمة والعالمية، التي تلتقي على مشتركات أساسها مؤازرة المقاومات في مواجهة تعبيرات الهيمنة والاستعباد واستعادة الحلم في عالم أكثر إنسانية وتعددية وغنى. 

هذه المشتركات ترتكز على الحقّ في المساواة بين الشعوب، والتصدي لزحف الفقر والتهميش، ومواجهة ضعف الرعاية الاجتماعية وتهديدات الأمن الغذائي واستباحة الطبيعة والبيئة التي تنتقم بإحداث المزيد من الكوارث. 

كما ترتكز على ثقافة حقوق الإنسان وحقوق الشعوب التي تغذي ثقافة المقاومة، والتي فيها ما يقوي مناعة الأجيال الشابة ويعيدها إلى ذاتها وإلى صنع حاضرها وبناء مستقبل أوطانها. كما يوقف نزيف هذه الثروات البشرية الهائلة التي تهرب إلى الخارج أو إلى الأمام، اعتقاداً منها أنها بذلك ستنجو من ظلم الواقع المعيش. 

وها نحن اليوم أحوج ما نكون إلى رصّ الصفوف، مع اشتداد الهجمة الشرسة على العالم من حوكمة ماورائية تشدّد قبضتها على البشر بحجة أو بأخرى، بما يجعلنا على قناعة تامة بأن فلسطين كانت في البدء، لكن الزحف إلى أرجاء العالم، ليس العربي فقط، هو الهدف النهائي، فهل نتركها تعيث خراباً في الأرض أو نتصدى لها بما يستوجب، الآن وليس غداً؟

اغتصبت فلسطين في يوم النكبة، وفي يوم القدس العالمي إحياء لقضية فلسطين في نفوس كل المقاومين، وبين اليومين تاريخ نضال وتضحيات.. في زمن القدس، تغطية خاصة حول فلسطين والقدس، ومحاولات التطبيع المستمرة، التي بدأت تأخذ بعداً أكثر مباشرة ووقاحة.