كي لا يصبح الضَّجيج ثورة

حالة الضَّجيج التي كتب عنها هنري ديفيد في فصل "المهرجان"، وصوّرها محمد الماغوط ودريد لحام في مشهد "المهرجان"، تصيب الشعوب في مراحل هزيمتها وانكسارها وأزمنة تراجعها وانحدارها.

  • الجيش الإسرائيلي يجبر عائلة على مغادرة منزلها في شارع الدرويش في القدس.
    الجيش الإسرائيلي يجبر عائلة على مغادرة منزلها في شارع الدرويش في القدس.

عندما يصبح الضّجيج فنّاً، تنتشر الأغاني الهابطة، بمعانيها التافهة وموسيقاها الصاخبة. وعندما يصبح الضجيج أدباً، يتمدّد الأدب السّخيف، بمضامينه الرديئة وأساليبه الركيكة. وعندما يصبح الضجيج إعلاماً، يتقدم الإعلام المبتذل، برسالته الخاوية وطرقه الخادعة. وعندما يصبح الضجيج ديناً، يهيمن دين الذبح، بإرهابه الفكري وصراخه الصوتي، فلماذا لا يصبح الضّجيج ثورة؟!

يُترك التخطيط والعمل، ويؤخذ بالتصفيق والدجل، ويُهجر التصميم والفعل، وتمارس الثرثرة والجدل، فإذا وصلنا إلى ذلك الحدّ، فذلكم الضّجيج الهادم للثورة، والضّجيج المفسد لها، حين يكون الكلام في غير محله، والعمل في غير مكانه، والجهد في غير زمانه، والعشوائية بدلاً من التخطيط، والتخبّط عوضاً عن خارطة الطريق، والنمطية القاتلة للإبداع، والتكرار المعوّق للابتكار، وردود الفعل دون المبادرة بالفعل.

جاء ذكر الضجيج والثورة في كتاب "الضجيج"، فصل "المهرجان"، للكاتب هنري ديفيد، في قوله: "لم يكن في العصور الوسطى خط واضح بين الضجيج والثورة... ففي كثير من الأحيان، يبدوان شيئاً واحداً واحداً". وعن المهرجان كنوع من الضجيج وعلاقته بالثورة، أضاف: "هاتان الكلمتان - المهرجان والثورة - ترتبطان ببعضهما بعضاً، فقد يكون إنتاج الضجيج بهذه الطريقة مع أشخاص منسجمين في الإيقاع والنشاط ممتعاً وقوياً... وفرصة للجميع للتنفيس عن ضغطهم قليلاً".

هذا الضجيج كنوع من الاستمتاع والتنفيس من دون التأثير والتغيير، أكده مشهد "المهرجان" من فيلم "الحدود"، للأديب محمد الماغوط والفنان دريد لحام، اللذين فرّقا بين المهرجان كضجيج والثورة كتغيير، فعندما عقد مهرجان خطابي للتضامن مع قضية المواطن عبدالودود العالق على الحدود، بعد فقدانه جواز سفره بين دولتين عربيتين، ألقى السياسيون خطباً نارية في المهرجان، أوسعوا الاستعمار فيها شتماً، وأشبعوا الأنظمة لعناً، ورفع فيه الإعلاميون شعارات برّاقة تدعو إلى الوحدة وتستنكر الفرقة... حتى إذا ما انفضّ المهرجان، ورفع الصيوان، وغادر الجمع، وولوا الأدبار، حاول عبدالودود عبور الحدود فمُنع، فتبخّر ضجيج المهرجان، وبقيت قضية المواطن الغلبان.

حالة الضَّجيج التي كتب عنها هنري ديفيد في فصل "المهرجان"، وصوّرها محمد الماغوط ودريد لحام في مشهد "المهرجان"، تصيب الشعوب في مراحل هزيمتها وانكسارها وأزمنة تراجعها وانحدارها، وتضرب الأمم عندما تتولى عن رسالتها الإنسانية، وتتخلّى عن فكرتها الحضارية، فتلجأ بعقلها الجمعي الباطن ووجدانها الشعبي العميق إلى آلية التعويض النفسي اللاشعوري، لتجاوز الهزيمة والانكسار، ولتخطي التراجع والانحدار، بطريقة وهمية أقرب إلى الهروب، من أجل تغطية ضعف قوتها وقلة حيلتها في ميادين النصر والتقدم، ومن أجل ستر عجز قدرتها وندرة إنجازها في مجالات الحضارة والمدنية، فتهرع إلى التفاخر بالنصر والتقدم، وتسرع إلى التباهي بالحضارة والمدنية، بما أوتيت من فصاحة اللسان، وبما وهبت من بلاغة البيان، فيوهم هؤلاء أنفسهم بأنهم فعلوا ما تفاخروا به بلسانهم كذباً، ويخدعون ذواتهم بأنهم عملوا ما تباهوا به ببيانهم زوراً.

وتؤكد ذلك دراسات أظهرت أنَّ أكثر الشعوب ثرثرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، بما فيها من إشاعات كاذبة وتعليقات مسيئة، هي أقلها عملاً وإنتاجاً وإنجازاً، كالعرب، وأنَّ أقلها ثرثرة... هي أكثرها إنتاجاً كاليابان والألمان.

ربما كان هذا حالنا كعرب فلسطينيين في مرحلة الهزيمة والانكسار وزمن التراجع والانحدار، بخلاف حالنا في مراحل الظفر والانتصار وأزمنة التقدم والارتقاء. ولنقارن بين نهجنا في إدارة الصراع مع نهج عدونا، وهذه المقارنة لا علاقة لها بموازين القوة المادية والظروف الموضوعية، لأنها تتعلّق بطريقة التفكير والعمل وبالظروف الذاتية، كما أن لا علاقة لها بحجم التضحيات التي قدمناها، وعدد الثورات التي فجَّرناها، وكثرة المواجهات التي خضناها، فهي بغير نتائج تساويها، ومن دون إنجازات توازيها، ما يؤكد اتباعنا نهج الضجيج الذي أوصلنا إلى مأزقنا الحالي في صراعنا مع الاحتلال، أو في إدارة خلافاتنا الداخلية.

ولنأخذ مثالاً على ذلك من المحطة الأولى للصراع مع الحركة الصهيونية مطلع القرن العشرين، وبالتحديد منذ انعقاد المؤتمر الفلسطيني الأول في العام 1919، وحتى انعقاد المؤتمر الفلسطيني السابع في العام 1928، فرغم أهمية تلك المؤتمرات في بلورة الهوية والمطالب الوطنية الفلسطينية، ولكن قراراتها كانت حبراً على ورق، وكلمات من دون عمل، فجميعها يبدأ بكلمات الاحتجاج والاستنكار والرفض والدعوة والمطالبة الخالية من الرصيد العملي، والمجرّدة من الأدوات التنفيذية لترجمتها على الأرض، فينتهي أثرها بمجرد تبخر ضجيج المؤتمر في الهواء، بخلاف نهج الحركة الصهيونية البعيد عن الضجيج.

نهج الحركة الصهيونية اليهودية كان على النقيض من نهج الحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة بدء المشروع الصهيوني، عندما كان حلماً في الخيال، ثم أضحى حقيقة في الميدان، فقد كانت الحركة الصهيونية تعقد مؤتمراتها المتتالية لرسم ملامح مشروعها الاستعماري، ولوضع أسس كيانها الاستيطاني، ولتخطيط بناء مؤسّسات "دولتها" القومية.

منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا في العام 1897 وكل المؤتمرات اللاحقة، كان الهدف واضحاً وثابتاً عند الحركة الصهيونية، وهو إقامة وطن قومي لـ"الشعب اليهودي" في فلسطين، وكانت المرجعية والقيادة محددة وموحدة في "المنظمة الصهيونية العالمية" وأدواتها التنفيذية "الوكالة اليهودية"، وضعت الخطط العديدة للحصول على دعم الدول الكبرى المؤثرة لمشروعهم، ولتشجيع الهجرة اليهودية إلى "أرض الميعاد" وتنفيذها، ولإقامة المستوطنات اليهودية، وإنشاء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية...

ولم يكد يمر 50 عاماً على المؤتمر الصهيوني الأول، حتى أعلنوا "دولتهم" المنشودة "إسرائيل" على "الأرض الموعودة"، وواصلنا نحن العرب تأكيد مفهوم "الظاهرة الصوتية" للمفكر السعودي عبدالله القصيمي، فأوسعنا الصهاينة شتماً ولعناً، وفازوا بالدولة، بينما أوسعونا ضرباً وألماً، وفزنا بالخيبة.

بعد أكثر من قرن على انطلاق المشروع الصهيوني، وأكثر من 7 عقود على إقامة الكيان الصهيوني، لا زلنا نفضّل الضجيج على الثورة. وعلى الرغم من كل المحطات التاريخية المشرقة، كانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف ستينيات القرن العشرين، وتجديد دماء الثورة الوطنية في فصائل الجهاد والمقاومة الإسلامية مطلع ومنتصف ثمانينيات القرن العشرين، وانتفاضتي الحجارة والأقصى، ومعارك البطولة والشرف الفدائية والشعبية في حروب غزة وانتفاضات الضفة... هذا كله وغيره لم يخفِ حالة الضجيج التي ساعدت طريقة إدارتنا للصراع، وتلك الحالة التي تعبّر عنها كثرة الثرثرة من دون عمل، وتكرار المهرجانات المنزوعة النتائج، وتوالي المؤتمرات الخالية من الإنجازات، واستمرار العشوائية في العمل الوطني، بعيداً من التخطيط أو خارطة الطريق... 

ألم يكن هذا النهج هو الّذي واجهنا به "صفقة القرن"، ثم خطة الضم؟ وها نحن نواجه به اتفاقية السلام والتطبيع بين الإمارات والكيان؟ أليس هذا النهج هو الذي مارسناه في إدارة صراعاتنا الداخلية بعد الانقسام، وزدنا عليه المناكفة السياسية والمناطحة الحزبية، وصولاً إلى "المهرجان" المستحيل؟

خلاصة الموضوع، كي لا يصبح الضجيج ثورة، ومن أجل بقاء الثورة ثورة، من المفيد أن نسأل أنفسنا: لماذا لم تصل سفينة المشروع الوطني الفلسطيني إلى ساحل التحرير والعودة، وتحطّ مرساها في ميناء الحرية، رغم سرعة جريان مياه نهر الدماء الذي يحملها، وقوة رياح ثورة المستضعفين التي تدفعها؟ ويبقى السؤال الملحّ: لماذا لا نعيد بناء السفينة سوياً وموحدين، بتخطيط جديد وعزم أكيد؟!