"الربيع العربي" بعد عشر سنوات على اندلاعه

هل ما قام به الإنسان العربي هو تمرد على الهيمنة الدولية وأدواتها أو أنّ هذه الدول الكبرى هي التي بدلت أدواتها (الأنظمة العربية) من خلال استخدام الشعوب العربية كوقود لهذا التغيير؟

  • صورة من ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 في مصر
    صورة من ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 في مصر

لم تُثر ثورة أو انقلاب في التاريخ العربي الحديث تساؤلات وشكوكاً مثلما أثار الحراك العربي الَّذي اندلع منذ أكثر من 10 سنوات، ولا زالت أحداثه وتداعياته ماثلة أمام أعيننا. 

إن الأسئلة والتساؤلات التي طرحت - ولا تزال مطروحة حتى الآن - حول الحراك العربي (الربيع العربي) أساسيّة، وتتعلّق بجوهر العملية الثورية وفلسفة التغيير؛ تلك الفلسفة التي غابت عن الجزء الأعظم من مفكّرينا ومثقّفينا تحت نشوة الانتصار الزائف (الحمل الكاذب)، من دون أن يخضعوا هذا الحراك لأبسط نظريات التغيير الّتي تقول إنّ الثورة من دون قيادة ثوريّة أو نظريّة ثوريّة هي دخول في المجهول بكلّ احتمالاته، وإنَّ ما رأيناه يبتعد تماماً عن فكرة الثورة وفلسفتها.

بداية، هذه التساؤلات انطلقت من النظرة المتشائمة تجاه الإنسان العربي، من حيث استسلامه ورضوخه وخضوعه للأنظمة العربية واستبدادها؛ تلك الأنظمة التي استخدمت مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل إحكام سيطرتها عليه، ونجحت في ذلك، فكيف تحرك هذا الإنسان؟

يبرر البعض هذا التحرك بأن الضغط يولد الانفجار. هذه العبارة صحيحة إذا كانت مقرونة بالوعي، لا بالجهل والخوف المقرون بالاستبداد المتراكم عبر سنين طويلة، حيث إنّ المجتمعات الممارس عليها الاستبداد والفساد والإفساد من الممكن أن تحكم عشرات السنين، بل ومئات السنين أيضاً، من دون أن تتحرك - مثل أوروبا في العصور الوسطى - لأنَّ للأنظمة تحالفاتها وأدواتها الاقتصادية والدينية والإعلامية، وكلنا يدرك خطورة هذا الاستبداد الطويل والمحكم وانعكاسه على شخصية هذا الإنسان العربي وسلوكه.

القضية الأخرى التي جعلت الحراك العربي محط تساؤلات وشكوك، تتعلق بموقع المنطقة العربية وأهميتها بالنسبة إلى القوى الإقليمية والدولية التي تشرف على سياسات معظم دولها، بل وترسمها وتهندسها وتتدخل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. 

من هنا، إنَّ السّؤال المنبثق عن هذه الفكرة: هل ما قام به الإنسان العربي هو تمرد على هذه الهيمنة وأدواتها أو أنّ هذه الدول الكبرى هي التي بدلت أدواتها (الأنظمة العربية) من خلال استخدام الشعوب العربية كوقود لهذا التغيير؟

من الممكن أن نسمّي ما جرى هبةً أو حراكاً، ولكنه ليس ثورة أو ربيعاً، لأننا لسنا من أطلق اسم "الربيع العربي" على هذا الحراك أو هذه الهبّة، ولم ترد كلمة الربيع كمرادف للثورة في قاموس تاريخ الثورات والحراكات العربية، وفي كتابات مفكرينا ومثقفينا، سواء كانوا واقعيين أو حالمين طوباويين.

 إنَّ هذه الكلمة الثورية الرومانسية "الربيع" استُخدمت إبان الرغبة الأميركية في إخراج أوروبا الشرقية من الحكم الشيوعي إلى الحضن الأميركي، أي "أمركة" و"رأسملة" و"دمقرطة" أوروبا الشرقية على الطريقة الأميركية، ابتداء من ربيع براغ (تشيكوسلوفاكيا) 1968، مروراً بربيع أوروبا الشرقية في العام 1989، وصولاً إلى "الربيع العربي"؛ هذا المصطلح السحري الذي تلقَّفته النخبة والجماهير العربية من دون أن تعرف مصدره أو تُستشار فيه.

إنَّ الحراك العربي - الذي يُفترض أنه انتصر ونجحت ثورته - لم يقم بإجراءات وسياسات ثورية - ليست بالضرورة عنيفة - ونسأل أنفسنا: لماذا؟ هل بسبب عدم امتلاك الرؤية والخبرة الثوريّة أو بسبب عدم امتلاك الجرأة؟ فإذا افتقد الحراك إلى الرؤية الثورية، لا يمكن أن نسميه ثورة، وكذلك في حال افتقاده إلى الجرأة، لأن الثوري لا يمكن أن يكون جباناً، كما لا يمكن أن يكون الجبان ثورياً. 

عشرات الأحزاب وآلاف المفكرين والمثقفين، ومن خلفهم الملايين الثائرة التي نزلت إلى الشارع، كل هؤلاء لا يملكون الكفاءات والخبرات. لذلك، استعانوا برموز الأنظمة السابقة من وزراء وإعلاميين، وقضاة وكبار الضباط العسكريين أيضاً. كيف لثورة أن تقوم بذلك؟ لماذا فشلت النخب والأحزاب والتنظيمات العربية العريقة - التي تملك سجلاً نضالياً وإيديولوجيا حافلاً - في إدارة الثورة، وقبل ذلك فشلت في توقّع حدوثها أو حتى الإيمان الحقيقي بإمكانية حدوثها؟

لقد أدى الجزء الأعظم من المثقّفين - مع بداية الحراك تحديداً - دوراً سلبياً، من خلال حماسه واندفاعه العاطفي غير المبرر، إلا إذا كان ذلك من باب التلاعب بالشارع أو ركوب الموجة ضمن سياسة ميكافيلية يتقنها المثقف أكثر من غيره، بسبب ثقافته، وأحياناً بسبب قربه أو محاولة تقربه من صانع القرار، أي "ميكافيلية المثقفين"، حتى إن بعضهم كان مقرباً من الأنظمة العربية التي حدثت فيها الحراكات، بل إن هذه الأنظمة هي من أسبغت عليه لقب المفكّر.

والسؤال هنا: لماذا كنتم مقربين من هذه الأنظمة (ما هي نقاط الالتقاء والمصالح المشتركة والوعي المشترك؟)؟ ولماذا انقلبتم لاحقاً؟ هل فوجئتم بفساد هذه الأنظمة واستبدادها؟ إذا كنتم لا تدرون ذلك فمصيبة، وإذا كنتم تدرون فالمصيبة أعظم.

أما في ما يتعلق بالشعوب العربية وحراكها، فهناك العديد من التساؤلات التي تراود الأذهان: هل الشعوب العربية تعاني من شيزوفرينيا سياسية واجتماعية، حيث إنها، وعلى مدار عقود طويلة، كانت تقدس "العلم" الوطني بشكله وألوانه وشعاراته، وكانت مستعدة لأن تفديه بالروح والدم. وفجأة، وبين ليلة وضحاها، يتم استبدال العلم بآخر، من دون علمها أو استشارتها، وتبدأ بالهتاف له بالحماس نفسه، وتمارس معه طقوس القدسية نفسها، بل وتدوس العلم السابق بالأقدام؟

وهناك ظاهرة أخرى متعلّقة بالشّعوب العربيّة تستحقّ الدراسة، ففي إحدى دول الحراك العربيّ (مصر)، صوَّت الشعب المصري أربع مرات في أربع سنوات (وجميعها بالأغلبية المطلقة) لصالح أربعة تغييرات واستحقاقات دستورية متباينة ومتعارضة تماماً 2010 – 2014، من حسني مبارك، إلى المجلس العسكري، إلى محمد مرسي، إلى عبد الفتاح السيسي. كيف للشعب نفسه أن يصوت بهذا الشكل وبهذه الطريقة، وبالأغلبية المطلقة ذاتها خلال أربع سنوات، أي أن الشعب كان يغير قناعاته وتوجهاته كل سنة تقريباً؟!

كيف للشّعب العربي الذي ثار على الظّلم مواجهاً أعتى أجهزة القمع والاستبداد، و"نجح" في ذلك في موجة الحراك العربي 2011، أن يقف عاجزاً بعد أشهر قليلة تجاه الثورات المضادة، على الرغم من أنها تمارس الاستبداد والقمع والفساد نفسه؟ أين الوعي الثوري للشّارع الّذي أسقط الأنظمة العربيّة أو أنه وعي متخيّل مؤقّت (زائف)؟

ونتساءل: لماذا لم يسفر الحراك العربي عن ديموقراطية، على الرغم من أنّ الجماهير المحتجة وقادتهم جميعهم رفعوا شعارات الحرية والديموقراطية، وأعلنوا أن السبب الرئيسي المحرك لحراكهم هو "الجوع" إلى الحرية والديموقراطية، لكننا فوجئنا أنهم على النقيض من ذلك تماماً، حتى إنهم أنفسهم، وفي حواراتهم ونقاشاتهم، لم يكونوا ديموقراطيين، بل كانوا فاسدين ودمويين في صراعاتهم الداخلية حتى قبل وصولهم إلى الحكم.

يبدو أننا نسينا أو تناسينا أنَّ سنوات الاستبداد والفساد الطويلة تركت أثرها فينا بشكل مباشر أو غير مباشر، بحيث ينتقل الاستبداد من رأس الدولة إلى جميع مفاصلها، وصولاً إلى المجتمع، أي يتحول أفراد المجتمع أنفسهم إلى مستبدين. 

وفي ما يتعلَّق بالدّول الداعمة للحراك العربيّ، سواء كانت عربية أو إقليمية، فإنّنا نتساءل: ما هي مصلحة هذه القوى في إحداث تغييرات في الأنظمة والمجتمعات العربية، بحيث تقوم بتقديم السلاح والمال؟ هل كان تحركها وتدخلها بقرار ذاتي أو بأوامر خارجية؟ وإذا كان القرار ذاتياً، فما هو الدافع أو المصلحة في ذلك؟ هل هو دفاع عن الشعب ضد الأنظمة، علماً أنها كانت ترتبط بعلاقات مميزة معها، بل وعرضت على بعض الأنظمة الأموال في البداية من أجل تغيير تحالفاتها واصطفافاتها! وعندما رفضت ذلك، تحولت هذه الدول إلى صف الشعوب، داعمة لها في وجه الأنظمة، دفاعاً عن "الحرية والديموقراطية"، لماذا انقلبتم على حلفاء وأصدقاء الأمس (من الأنظمة التي أطلقتم عليها ديكتاتورية وفاسدة)؟ كيف كنتم حلفاء لهؤلاء الفاسدين؟

إذاً، أنتم شركاء لهم، فلماذا لم تحاولوا توجيه انتقادات وملاحظات إليهم، سواء كانت علنيّة أو سريّة، لتصحيح مسارهم غير الديموقراطيّ، وإذا كانوا جيدين، لماذا تخلّيتم عنهم؟ في الحالتين، أنتم مدانون في وقوفكم مع أو ضدّ هذه الأنظمة التي تحالفتم معها في البداية ضدّ شعوبها، ثم ناصرتم شعوبها عليها، ثم كيف نفسّر تحول بعض الدّول الداعمة للشّعوب العربيّة ومطالبها في بداية الحراك العربيّ إلى داعمة للثورات المضادّة، على الرغم من ديكتاتوريّتها وفسادها؟ ولماذا لا تساندون الآن شعوب هذه الدول، بما أنكم داعمون للشعوب ومطالبها؟

والمفارقة الأخرى أيضاً أنَّ الدول العربية والإقليمية التي أقدمت على دعم شعوب "دول الربيع العربي" بالمال والسلاح، بحجّة الدفاع عن حريتها المسلوبة وديموقراطيتها المغتصبة، لا تتمتّع، بدورها، بالحرية والديموقراطية، وتقمع إما شعوبها وإما الأقليات فيها. وحتى لو كانت هذه الدول ديموقراطية، فهل الديموقراطية تبيح استخدام السلاح لإقناع الخصم بعدم استخدام السّلاح. إنَّ استخدام السّلاح أو التهديد باستخدامه ينسف أسس الديموقراطيّة.