قطر ومحاصروها.. الرابحون والخاسرون من التطبيع

لقد أنهكت سياسات ترامب في الخليج هذه الدول، وهدَّدت استقرارها بشكل غير مسبوق منذ بداية الزواج الكاثوليكي بين الدولار والبترول في سبعينيات القرن الماضي.

  • قطر ومحاصروها.. الرابحون والخاسرون من التطبيع
    قطر ومحاصروها.. الرابحون والخاسرون من التطبيع

لا يبدو أنَّ مسار التَّطبيع الَّذي تقوده "إسرائيل" منذ "صفقة القرن" قد ينهي سريعاً واقعاً جيوستراتيجياً معقداً في المنطقة العربية مع جيرانها، فالنّزعة التبسيطيَّة التي يروّج لها خطاب الخارجية الأميركيّة في عهد ترامب وحلفائه لا تعكس حقيقة الانعكاسات التي من المحتّم أن تقع في منطقة عربية ظلَّت آمنة طيلة عقود من مخاطر الحروب والنزاعات المباشرة على أراضيها. في هذا المقال، سنحاول البحث في الفرص والمخاطر التي قد يفتحها تطبيع الإمارات وحلفائها في المنطقة.

الإمارات والسّعودية: مخاطر التطبيع وفرصه

تبدو "إسرائيل" مستفيدة على المستوى الاستراتيجي من خلال اختراقها دول الخليج، وتكتيكياً في إسناد حكومة نتنياهو المتداعية داخلياً، بعد أن بلغ أداؤه السياسي مداه الذي ينتظره خصومه السياسيون. لقد اقتنع ترامب بأنَّ دعمه "إسرائيل" خارجياً من خلال سياسة الاعترافات والتطبيع، سيجعله داخلياً أقوى في بناء مشروع الازدهار الأميركي الذي سينافس من خلاله أطماع الصين ورغبات روسيا.

لقد أنهكت سياسات ترامب في الخليج هذه الدول، وهدَّدت استقرارها بشكل غير مسبوق منذ بداية الزواج الكاثوليكي بين الدولار والبترول في سبعينيات القرن الماضي. وقّعت الكويت اتفاقاً استراتيجياً طويل الأمد مع الصّين، وهي الّتي أعلن العام سام دعمه لها منذ حرب صدام. الاتفاق الكويتي شمل الجوانب العسكرية والأمنية، بينما أصبح اليمن منقسماً بين محور إيران وحلفائها، ومحور أميركا وحلفائها الخليجيين.

سلَّم ترامب مفاتيح الإمارات في واشنطن لـ"إسرائيل"، بعد أن رفضت أميركا الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران، فبدا الحل الاستراتيجي الجديد الذي وجده مستشارو الرئيس الغاضب هو تحويل دولة صغيرة التعداد من العرب المسلمين إلى ساحة صراع مباشر بين إيران و"إسرائيل". لقد خاطرت أميركا بمصالحها في الخليج بجرأة غريبة ونادرة.

على صعيد آخر، توجَّست دول عربية كثيرة من هذا الاتفاق، حتى "المعتدلة" منها، فالسرعة الكبيرة التي يتحرك بها نتنياهو وترامب وابن زايد تجعل من الصعب على قادة الدبلوماسية في الأردن والمغرب وقطر وتونس مسايرة هذه "المغامرات" التي لا تراعي المتغيرات الداخلية العربية، وهم يخافون من اشتعال الأزمة الاجتماعية الاقتصادية لما بعد كورونا بفتيل القضية الفلسطينية التي لا زال الوعي العربي يعتبرها أم القضايا الدينية والقومية.

لقد كان اغتيال السّادات المنتصر في حربه على "إسرائيل"، والذي صمتت القاهرة يوم الإجهاز عليه، علامة فارقة في تاريخ التطبيع العربي ونتائجه العكسية الخطيرة على الأنظمة القائمة.

 

قطر: المستفيد الخليجي الأكبر 

يبدو أنَّ الاختيار الاستراتيجي القطري على مستوى التحالفات الاستراتيجية بعيد تماماً عن المغامرة، ويتجه نحو توطيد مكانة هذه الدولة الصغيرة في مناخ متحوّل.

لقد حوّلت الدوحة، وبسرعة كبيرة، الكثير من أزماتها إلى فرص، بعد أن لفظتها أخواتها في مجلس التعاون الخليجي، وسارعت إلى توطيد علاقاتها مع تركيا وإيران وحماس وإخوان مصر. وفي الوقت الذي تخسر عناصر تقليدية الكثير من قدرتها على لعب الوساطة الاستراتيجية في القضية الفلسطينية، تزداد أهمية قطر كطرف قادر على نسج العلاقات مع أغلب الأعداء والخصوم في المنطقة العربية، فالسعودية تفقد اليوم مساحات كبيرة من ثقة الفلسطينيين، وثقة المعارضات الإسلامية في البلدان العربية، التي أصبحت لوبيات عربية مؤثرة في القرار السياسي، وكيانات مهمة في المغرب العربي ومصر وغيرها.

من جهة أخرى، يبدو أنَّ قطر أصبحت تقدّم نفسها أكثر فأكثر كوسيط مقبول من إيران وتركيا، كما هو مقبول من الولايات المتحدة و"إسرائيل"، بعد خروجها من مظلّة الأخت الكبرى، فيما تراهن الإمارات على الاصطفاف غير المشروط مع "إسرائيل"، وتحييد الدور الفلسطيني، وتجاوز الفاعل السياسي الفلسطيني. في المقابل، تراهن قطر على الدور التركي المتزايد، وعلى الاتحاد الفلسطيني ضد خيار البدائل القيادية الجديدة للفلسطينيين: دحلان ورجال الأعمال الفلسطينيين.

لقد قدَّم الإماراتيون اتفاقاً مبنياً على فرص غير جدّية، وعلى أخطار غير واضحة تماماً، واختلط التكتيكي الانتخابي مع الاستراتيجي. لقد ربطت ملكيات وراثية مصيرها بمصير مسؤولين مؤقتين، من دون تفريق واضح بين المصالح الشخصية والمصالح الوطنية التي يدافع عنها هؤلاء المسؤولون.

مع الضّغط المتزايد على سلطنة عمان من أجل التّطبيع في عهد حاكمها الجديد، ومع تخبّط السعودية في سياساتها التي تتنازع فيها الأجيال قيادة السّفينة، يبدو أن الدور القطري سيزداد مع تزايد الصراعات في مناطق النفوذ والنزاع العربية الأخرى، وخصوصاً بعد اتحاد الأجنحة الفلسطينية المعتدلة والمقاومة على حد سواء رافضة "صفقة القرن"، وتخوف الكثير من الدول العربية الأخرى من المسار الغامض الذي تنقاد إليه السعودية يوماً بعد يوم.