الفدائي الياباني الذي صار نجماً في سماء فلسطين

ينتمي الفدائيّون اليابانيّون إلى منظّمة الجيش الأحمر الياباني، وهي منظّمة ثوريّة متفرّعة من الحزب الشّيوعي الياباني

  • الفدائي الياباني الذي صار نجماً في سماء فلسطين
     آخر ظهور علني لكوزو أوكاموتو كان عام 2016 خلال حفل تكريمٍ له أقامته الجبهة الشعبية في لبنان

هذه حقيقةٌ وليست من قصص ألف ليلةٍ وليلة. إّنها اليابان، تلك البلاد البعيدة التي تكاد علاقتنا معها تنحصر في إطار السّيارات والكاميرات. اليابان هذه خرجت منها مجموعةٌ مقاتلةٌ نفّذت إحدى أشهر العمليّات الفدائيّة الفلسطينيّة في القرن العشرين، وهي ما تعرف بعملية مطار اللّد (اليوم اسمه مطار بن غوريون).

في 30 أيار/مايو  1972، قامت مجموعة "كوماندو" يابانيّة مكوّنة من 3 مقاتلين باقتحام مطار اللّد ومهاجمته حيث ألقت المجموعة 5 قنابل يدويّةٍ، 3 منها أصابت الطائرات الجاثمة في المطار وأخرى استهدفت قسم الجمارك في المطار والخامسة انفجرت في مكانٍ لركن السيارات الموجودة في المطار وقد أسفر ذلك عن مقتل 26 إسرائيلياً وجرح أكثر من 80 آخرين. وبعد إلقاء القنابل قامت المجموعة بالانسحاب من المطار واشتبكت في طريقها مع دوريّةٍ إسرائيليّةٍ قرب سجن الرّملة حيث أسفر الاشتباك عن إصابة 5 أفراد من الدّوريّة.

أمّا الفدائيّون اليابانيّون الثلاثة، فقد استشهد منهما إثنان هما تسويوشي أوكودايرا (واسمه الحركي باسم) وياسويوكي ياسودا (واسمه الحركي صلاح) بالإضافة إلى أسر الثالث وهو كوزو أوكاموتو (واسمه الحركي أحمد). نُفّذت هذه العمليّة بتخطيطٍ من الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، رداً على قيام "إسرائيل" بمهاجمة مطار بيروت وتدمير الطائرات فيه.

ينتمي هؤلاء الفدائيّون اليابانيّون إلى منظّمة الجيش الأحمر الياباني، وهي منظّمة ثوريّة متفرّعة من الحزب الشّيوعي الياباني، أخذت على عاتقها مهمّة مساندة كلّ الشّعوب المضّطَهَدة في الأرض وإشعال ثورةٍ عالميّةٍ ضد الظّلم والقهر الذي تمارسه القوى الاستعماريّة والامبرياليّة في هذا العالم. وحازت قضيّة فلسطين العادلة وما تعرّض له شعبها من بطشٍ وتشريدٍ على يد الحركة الصهيونيّة المدعومة من القوى الكبرى، على اهتمام هذه المنظمة الثوريّة، فنسجت علاقاتٍ وطيدةً مع قوى الثورة الفلسطينيّة في لبنان آنذاك، وخاصّةً الجبهة الشعبية.

وسوف يتركّز كلامنا على الفدائي الأسير كوزو أوكاموتو الذي كُتبت له الحياة ليقعَ في أيدي الصّهاينة رغم أنّه، كرفيقيه، كان مستعداً للموت في تلك المهمّة التي لا أمل للنجاة منها. 

فقد عُقدت جلساتٌ لمحاكمته وقال يومها للقاضي الذي يحاكمه: "إنّني جنديٌّ في الجيش الأحمر الياباني، أحارب من أجل الثورة العالميّة، وإذا متّ سأتحوّل إلى نجمٍ في السماء".

وطبعاً، صدر عليه حكم المؤبدات المعروف، ليُحوّل كوزو إلى غياهب السجون الصهيونية الرهيبة. والله وحده يعلم صنوف التعذيب الذي تعرّض له كوزو داخل تلك السلخانة التي تُسمّى سجناً. بقي كوزو في زنازين الوحوش الصّهاينة 13 عاماً إلى أن جاء 1985 ليكون عام خروج كوزو إلى الحريّة مرةً أخرى. فقد أصرّت الجبهة الشعبيّة – القيادة العامّة على إدراج اسم كوزو أوكاموتو ضمن لائحة السجناء الفلسطينيين الذين سيُفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى الكبيرة (عملية الجليل) التي نفّذتها مع الكيان الصهيوني.

استقبلت الجبهة الشعبية بطلها المفرَج عنه باحتفاليّةٍ كبيرةٍ في البقاع اللبناني، وحملته على الأكتاف، ولكن كوزو الذي خرج من السجن الصهيوني لم يكن هو كوزو الذي دخله قبل 13 عاماً. لقد خرج شبحَ إنسان، محطّماً تماماً ويعاني من إعاقاتٍ جسديّةٍ وعقليّةٍ فظيعة. لقد دمّروه بدنياً ونفسياً.

ووصف أحد كوادر الجبهة الشعبية الذين كانوا في استقباله حالته فقال "لم يكن يستطيع أن يستعمل يده ليأكل، ولا يحسن استخدام الملعقة أو السّكين، بل لا يحسن استخدام يده... وكان قد فقد كلّ معرفةٍ بنظام الحياة اليومي مثل غسل الوجه وتنظيف الأسنان والاستحمام". ويُضيف طبيب الجبهة الشعبية "كان ظهره محنيّاً ورجلاه مقوّستين، أسنانه ملتهبة ومسوّسة بحيث بدا فمه أسود، كما كان يعاني خللاً ذهنياً، فلا يستطيع التعبير عن نفسه ويعجز عن التفكير والتركيز، ويبكي ويصدر أصواتاً غريبةً تنمّ عن الخوف، ويعاني من نوباتٍ عصبيّةٍ شديدة".  فأيّ جحيمٍ عاش، وأي عذابٍ ذاق داخل سجون "إسرائيل"!!

وكأنّ ما عاناه كوزو لم يكن كافياً. فبعد أن كان يعيش بهدوءٍ وتواضعٍ، بوصفات الأطباء وحبوب الدواء، منذ إطلاق سراحه برفقة مجموعةٍ من رفاقه اليابانيين القدامى، قامت حكومة رفيق الحريري اللبنانية عام 1997 بمداهمة منزله في البقاع اللبناني واعتقاله هو ورفاقه بتهمة "الإقامة غير الشرعية"! حصل ذلك بضغطٍ من الحكومة اليابانية التي كانت -ولا زالت- تعتبره مطلوباً وتسعى للقبض عليه.

أراد رفيق الحريري أن يسلّمه لليابان لولا هبّت مجموعةٌ كبيرةٌ من المحامين والمثقّفين وأعضاء الأحزاب اليسارية والقوى الوطنية اللّبنانية الذين نظّموا حملةً للدّفاع عن كوزو أوكاموتو، فتظاهروا وأثاروا الرأي العام حتى نجحوا في منع حكومة الحريري من ترحيله، ولكنّها قامت بمحاكمته وأصدرت عليه حكماً بالسجن لثلاث سنوات بتهمة مخالفة القانون اللبناني! وبعد خروجه من السجن عام 2000 اضطرت الحكومة اللبنانية إلى الموافقة على منحه حق اللّجوء السّياسي والسّماح له بالإقامة في لبنان بسبب الضغوط الداخلية مرةً أخرى (قامت مجموعةٌ من الشباب اللبناني بتنفيذ اعتصامٍ مفتوحٍ مقابل وزارة الداخلية للمطالبة بإعطاء كوزو أوكوموتو حق اللجوء السياسي)، ولكن بشرط عدم القيام بأي نشاط سياسي أو علني وعدم إجراء أي مقابلات صحافية أو إعلامية.

ومنذ ذلك الوقت، يعيش كوزو أوكاموتو في شقّةٍ بسيطةٍ في بيروت برعاية أعضاءٍ من الجبهة الشعبية الذين يرعونه ويساعدونه في متطلّبات حياته اليومية البسيطة. وأحياناً، يُظهر كوزو، 76 عاماً، من بين ركام الإنسان المحطّم، ابتسامةً عذبةً ليثبتَ للجلاّدين الصهاينة بأنّ الإنسانَ يتحطم ولكن لا يُهزم. 

فيا الله! كم انتِ غاليةٌ يا فلسطين، وكم هي عادلةٌ قضيّتك! فحتى البعيد الغريب ضحّى من أجلك بالغالي والنفيس.

ويبقى كوزو أكاموتو ينتظرُ اليومَ الذي يتحوّلُ فيه إلى نجمٍ في السّماء ... وهو لا يعلم أنّه قد تحوّل بالفعل إلى نجمٍ في سويداء القلوب وشمسٍ في سماء فلسطين... 

****

هامش: آخر ظهور علني لكوزو أوكاموتو كان عام 2016 خلال حفل تكريمٍ له أقامته الجبهة الشعبية في لبنان.