أجوبة في ذرائع التطبيع.. "إسرائيل" حاجة للأنظمة لا الشعوب

ادّعت الدول المطبِّعة والمتجهة نحو التطبيع أنّ التحالف مع "إسرائيل" هو ضرورةٌ وجوديّةٌ لدول المنطقة وشعوبها، وأنا أقول إنها ضرورةٌ لهذه الأنظمة، فقط من باب شعورها أنّ هذه الاتفاقيات ستُطيل عمرها.

  • كيف ستنجح هذه الأنظمة في إقناع شعوبها أنّ التطبيع مصلحةٌ اقتصاديةٌ فيما اقتصاديات هذه الدول أكبر وأعظم من الاقتصاد الإسرائيلي؟
    من الجانب العربي، نجد أننا الآن أمام دولٍ عربيةٍ مطبِّعة أو مبارِكة أو منتظِرةٍ التطبيع باستثناء قلّةٍ قليلة

يبدو أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية ليست في أحسن حالاتها في هذه الأيام، وهي ترقب وتراقب انفراط العقد العربي من حولها، وتنهمر صوبها التساؤلات من كل الاتجاهات لاستكشاف موقفها وردّ فعلها تجاه كل ما يجري وسيجري في قادم الأيام. وسنحاول أن نقرأ ذلك موضوعياً  وذاتياً.

فمن الجانب العربي، نجد أننا الآن أمام دولٍ عربيةٍ مطبِّعة أو مبارِكة أو منتظِرةٍ التطبيع باستثناء قلّةٍ قليلة، إذن نحن الآن أمام زحفٍ تطبيعيٍّ عربيٍّ غير مبرّر ولا بأي شكلٍ من الأشكال، لا من حيث الطبيعة ولا من حيث التوقيت، فمن ناحيةٍ لم تستطع هذه الدول أن تقنعَ أو على الأقل أن تستفيَ شعوبها أو تستطلعَ آراءهم، وبما أنّ التطبيع كما أشارت الدول المطبِّعة هو في "مصلحة شعوبها"، لماذا لم تقمْ باستشارتهم واستفتائهم؟

كيف ستنجح هذه الأنظمة في إقناع شعوبها أنّ التطبيع مصلحةٌ اقتصاديةٌ فيما اقتصاديات هذه الدول أكبر وأعظم من الاقتصاد الإسرائيلي؟ وإذا كانت هناك حاجةٌ للاستفادة من خبرات "إسرائيل" المتقدّمة تكنولوجياً، فهناك عشرات الدول الأوربية واللآسيوية الأكثر تقدماً من "إسرائيل"، فلماذا لا تلجأ إليها  والاستفادة من خبراتها؟ إن لم نقل بناء تجارب على غرارها أو جديدةٍ كلياً، لاسيما أن هذه الدول تملك من الإمكانيات ما يؤهّلها لذلك.  وهذا ليس بالأمر الصعب إن ملكت هذه الدول الرغبة والقدرة على ذلك، إذا كان قرارها السياسي والسيادي مستقلاً. 

ومن ناحية أخرى، ادّعت الدول المطبِّعة والمتجهة نحو التطبيع أنّ التحالف مع "إسرائيل" هو ضرورةٌ وجوديّةٌ لدول المنطقة وشعوبها، وأنا أقول إنها ضرورةٌ لهذه الأنظمة، فقط من باب شعورها أنّ هذه الاتفاقيات ستُطيل عمرها. ومن المؤكد أنّ هذه الأنظمة ستدفع الثمن عاجلاً أم اجلاً، فـ"إسرائيل" و الولايات المتحدة ضربت لنا عشرات الأمثلة في تخلّيها عن حلفائها "الافتراضيين" لأنها تنظر لهم كأدوات وليس كحلفاء، وحتى الحلفاء فإن علاقتهم ستزول بزوال المصلحة فما بالنا بالأدوات والتابعين وتابعي التابعين . 

إن الذريعة المتداولة للهرولة باتجاه التطبيع هي المخاوف الأمنية، والسؤال هو ممّ ستحميكم "إسرائيل"؟ وممّن؟ والسؤال الأكثر أهمية، ما الثمن؟ ستكون إجابتهم إننا أمام "خطرٍ إيرانيٍّ مُحْدقٍ وجودياً في الخليج وفي الدول العربية". وهل ستكون مجابهة "الخطر" الإيراني بالتحالف مع "إسرائيل" التي بدورها تبحث عن حماية نفسها من خلال التحالف مع الولايات المتحدة؟ هل إيران هي الخطر المهدِّد للأمن الإقليمي العربي؟ فماذا نسمّي إذن السّطوة الإثيوبية في منطقة النيل والبحر الأحمر؟ وماذا نسمّي التمدّد التركي في المنطقة العربية – بشكلٍ مباشر أو غير مباشر -  من شمال العراق وسوريا وليبيا وُصولاً إلى قطر؟ لماذا  تغيب تركيا كلياً عن الإعلام الإسرائيلي كخطرٍ ولا تُدرج كعدوٍّ لـ"إسرائيل"؟  

وفيما يتعلق بالسلطة الوطنية الفلسطينية، نرى أنّ اتفاقية "أوسلو" أوجدت الذريعة والحجّة للدول المتلهفة أصلاً للتطبيع، لأن غالبية هذه الدول كانت تربطها بـ"إسرائيل" علاقاتٍ سريةً، ومصالحَ متبادلة، فجاءت اتفاقيات "أوسلو" كهديةٍ منتظرةٍ من السماء. كما يجب ألاّ يغيبَ عن بالنا  أيضاً أنّ مصر أقامت علاقاتٍ مع "إسرائيل" قبل اتفاقية "أوسلو"، أسفرت عن قطع علاقات الدول العربية بها، وإخراجها من جامعة الدول العربية.

ولكنّ المفاجأة كانت عودة العرب إلى مصر بعد اغتيال السادات، أي بضع سنينٍ بعد اتفاقية كامب ديفيد، وكأنّ مشكلتنا كانت مع السادات شخصياً وليس مع الاتفاقية والسياسة التي اتبعها والتي خلفها ولم يُعاقَب بل أوكلت إليه الصدارة وتزعّم المشهد العربي.

وبالنسبة لموقف السلطة الفلسطينية بشأن موجة التطبيع العربي الجديدة، فمن الملاحظ أولاً أنّ وتيرة الاعتراض والانتقاد تجاه الدول المطبِّعة بدأت حادّةً جداً ثم خفّت وتيرتها وصولاً إلى حالة اللاّمبالاة أو التعامل مع ما يجري وكأن شيئاً لم يكن. 

لن نحمّل السلطة الفلسطينية أكثر من طاقتها، ولكن من حقنا أن نتساءل كيف ستتعاطى مع هذه الموجة الجارفة من التطبيع العربي. هل بالإمكان توظيف ما يجري لصالحها ولصالح الشعب الفلسطيني؟ ستكون الإجابة قطعاً لا، ويمكننا استقراء واستشراف ذلك من خلال قراءتنا لسلوك الدول المطبِّعة وكذلك من خلال ردة الفعل الفلسطينية، فإذا كان قطع العلاقات مع هذه الدول متفهماً، فمن الصعوبة بمكان فهمٍ وتفهّمٍ عودة العلاقات معها أو إعادتها وبهذه السرعة.

لا يمكن تفسير ذلك إلاّ ضمن سياسةٍ ارتجاليّةٍ انفعاليةٍّ غير مؤسساتية، ولو كان الأمر عكس ذلك، لشهدنا حراكاً وتحرّكاً فلسطينياً داخلياً وخارجياً منذ أشهرٍ طويلة لاحتواء ما قد يجري، لاسيما  منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ورغبته الجامحة بجرّ الدول العربية إلى التطبيع. 

وعليه، فإن المستقبل الفلسطيني - ولا أقول السلطة الفلسطينية – أمام خيارين لا ثالث لهما، إما إعادة ترتيب البيت الداخلي وبناء استراتيجيةٍ حقيقيةٍ للمقاومة من خلال تقديم تنازلاتٍ داخليةٍ بين التنظيمات والفصائل الفلسطينية، أو بقاء الوضع على ما هو عليه وبالتالي، سنجد أنفسنا مضطرّين لتقديم تنازلاتٍ خارجية.