لماذا الأقصى اليوم أقرب؟

انتفاضة المقدسيين استطاعت تأكيد المؤكد الذي رسخته المقاومة اللبنانية بأن الكيان الصهيوني ومن يقف خلفه داعماً وحاضناً لن يفهم إلا لغة القوة والمقاومة.

  • لماذا الأقصى اليوم أقرب؟
    انتفاضة المقدسيين في شهر رمضان المبارك أعادت القدس والقضية الفلسطينية إلى الواجهة

خلال أكثر من عقد، كانت مراكز الأبحاث وصنع القرار الإسرائيلي من أكثر المتفائلين بما سمي بـ"الربيع العربي"، الَّذي أدى إلى تشرذم الواقع العربي، لتزداد من خلاله فرص استهداف الدول العربية المقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وحتى إيران، وهو ما يتيح للكيان الإسرائيلي فرض واقع قوامه تدمير الدّول من الداخل، وهو ما يُسمى "الحرب الصّفرية".

وقد زادت آمال هذا الكيان بفرض قوّته واستراتيجيته في المنطقة مع تسلّم إدارة دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، وتماهيها حتى النخاع مع التوجهات الصهيونيّة في تصفية القضيّة الفلسطينيّة، عبر ما سُمي "صفقة القرن".

المفارقة الحقيقيّة هي ما شهدته الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك 2021 من اندلاع شرارة المواجهة المتصاعدة بين قوات الاحتلال الإسرائيلي من جهة، بمؤازرة المئات من المستوطنين، والفلسطينيين المقدسيين من جهة أخرى.

وسرعان ما اتقدت هذه الشرارة واتسعت رقعتها بعد ما يزيد على أسبوع، لتشمل القدس والضفة وغزة. ولم ينحصر حراك هذه الانتفاضة بالتحركات الشعبية فقط، بل شمل أيضاً استخدام جزء من القوة العسكرية الصاروخية لفصائل المقاومة، حتى بلغ الأمر يوم القدس العالمي، الَّذي تقصّدت فيه أحزاب دينية يمينية متطرفة حشد ما يقارب 30 ألفاً من مؤيديها، بمباركة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لاقتحام المسجد الأقصى، وإهانة شعور المسلمين عموماً، والمقدسيين بصورة خاصة، ليتدحرج معها الوضع بصورة دراماتيكية نحو مواجهة عسكرية مباشرة، تثبت من خلالها فصائل المقاومة جديتها وجهوزيتها لمثل هذا التطور، بالتزامن مع ترويج وسائل إعلام الكيان للمناورة التي وصفها بالأكبر في تاريخه تحت مُسمى "مركبات النار".

 في العموم، يمكن القول إنَ التطورات التي شهدها الملف الفلسطيني خلال شهر رمضان المبارك واستمرارها، تضمّنا العديد من الرسائل المتكاملة، وفي كل الاتجاهات، أبرزها أن الانفجار المقدسي، بعد سنوات من السياسات الإسرائيلية والدعم الأميركي المنقطع النظير أثناء فترة حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لفرض أمر واقع، جاء ليتضمن ما يتضمنه من حالة ضغط وغضب شعبي فلسطيني في الدرجة الأولى، إلى جانب عدد من الرسائل الأخرى.

لعلّ أولى رسائل القوى الفلسطينية وأبرزها تأتي من داخل السلطة ومن خارجها، وهي رسائل تؤكد ضرورة إنقاذ القضية الفلسطينية والتمسك بالثوابت وبالحقوق الشاملة، وعدم جعلها عرضة للتجاذبات والمساومات الداخلية والإقليمية، ودفع هذه القوى إلى الالتحاق بقطار الانتفاضة الشعبية في وجه الاحتلال بشكل واضح ومباشر، وتوظيف هذه الانتفاضة الشعبية الفلسطينية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي، والعمل للحفاظ على الهوية الفلسطينية المناضلة، والتخلي بشكل كامل عن الإيديولوجيات والمصالح الحزبية والشخصية.

ضمن هذا الإطار، يمكن أن تتضمّن الهبة الشعبية للفلسطينيين ما تتضمنه من مطالبة بالتخلي الكامل عن أي تعويل على مسارات ما يُسمى بـ"التسوية السياسية" التي لم تحقق أي نتائج للشعب والقضية الفلسطينية، والتي لطالما استغلها الكيان الإسرائيلي على مدى العقود السابقة لزيادة تمدّده وشرعنة سلوكياته والتهرب من التزاماته.

الرسالة الثانية هي أنَّ الانتفاضة الشعبية وما حققته فصائل المقاومة من قدرة على تغيير قواعد الاشتباك خلال الأيام الأولى من المواجهة، تثبت حقيقة أنَّ ربيع التغيير والنضال والكفاح يكون باتجاه تحرير القدس، وكل ما حصل خلال أكثر من عقد كان لخدمة الكيان، وليس ضده. وما يحصل اليوم من صمت عربي مرعب وغياب للفتاوى التي كانت تدعو إلى الجهاد في سوريا والعراق واليمن عن الدعوة إلى الجهاد في فلسطين هو خير دليل على ذلك.

الرسالة الثالثة لرئيس الحكومة الإسرائيلية المتأزم داخلياً، بنيامين نتنياهو، الذي يعاني توالي الأزمات الداخلية بشكل متسارع، وكان آخرها فشله في تشكيل الحكومة ونقل المهمة إلى خصمه يائر لابيد، وترؤسه الحكومات في كل مرة تجري فيها الانتخابات مؤخراً، إلا أنَّ تكرار الانتخابات، وفشله في الحفاظ على بقاء الحكومات، وعدم تمكنه من تشكيل حكومة في الوقت الحالي، يشي بأن زعيم اليمين المتطرف يعاني ما يعانيه من تجاذبات ومساومات في أروقة المشهد الداخلي السياسي الإسرائيلي، على الرغم من أن الكيان جنح نحو هيمنة اليمين المتطرف على نتائج الانتخابات مؤخراً، إلا أنَّ نتنياهو يعاني تراجع شعبيته التي تآكلت مؤخراً، نتيجة تورطه في قضايا فساد، وتراجع مقدرات الكيان عسكرياً وأمنياً، وتفشي كورونا، وما رافقه من تداعيات اقتصادية واجتماعية.

 لذلك، لجأ إلى دعم الاعتداءات والتصعيد والسلوكيات الاستفزازية للأحزاب الدينية، في محاولة منه لتصدير أزماته واسترضاء المتطرفين، وخصوصاً أنه لم يجنِ ثمار اتفاقيات التطبيع كما يحبّ ويشتهي، ولكن الانتفاضة الشعبية الفلسطينية والرد الصلب وضعا نتنياهو والكيان في موقع محرج، وبات بين خيارين؛ الأول تصعيد عسكري غير مضمون النتائج، والآخر هو النزول عن الشجرة بشكل تدريجي.

كما أنّ الشقّ الآخر من هذه الرسالة موجّه إلى كلّ الحكومات الإسرائيلية السابقة والمستقبلية، بأن رهانها على تهجير وقتل وموت الجيل الّذي شهد تشريداً وتهجيراً، وعانى أفظع أشكال الإرهاب والتمييز وسلب الحقوق، لتصفية القضية ونسيان الحقوق، وهم، فالانتفاضة الحالية قادها شباب فلسطين الذين يصنفون ضمن الجيلين الرابع والخامس بعد إقامة الكيان، والثاني بعد اتفاقية "أوسلو"، والذين لم يخرجوا بطلب من جهة سياسية أو لمصلحة فئة أو حزب سياسي، بل عبرت انتفاضتهم عن مدلولين؛ الأول وراثة مفهوم المقاومة بين الأجيال الفلسطينية، والآخر الإرادة الحرة في المطالبة بالحقوق عبر القوة والمقاومة، وتوجيه البوصلة باتجاهها الصحيح، وهو القدس والقضية الفلسطينية، ولا سيَّما بعد الفوضى والخراب اللذين نجما عما سُمي بـ"الربيع العربي".

وفي كلا الخيارين، أدى ذلك إلى تأزيم وضع نتنياهو أكثر، وأضعف موقفه، ومنح خصومه في هذا التوقيت فرصة لامتلاك ورقة ضغط ضده لدى الناخب الإسرائيلي، إلى جانب المنحى الذي ينحاه الاتفاق النووي الإيراني في الانتخابات الخامسة المحتملة في أيلول/سبتمبر المقبل.

الرسالة الرابعة موجهة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، وهي، وإن كانت متمسكة بأمن "إسرائيل"، إلا أنَّ حالة التوتر في العلاقة بين بايدن ونتنياهو تعيد إلى أذهاننا خلاف الأخير مع أوباما. هذه المرحلة من العلاقات الأميركية الإسرائيلية من شأنها أن تدفع الإدارة الأميركية الحالية إلى التخلّي عن دعم نتنياهو، وإجبارها على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية التي لطالما أنكرتها السياسة الأميركية التي تطرفت لمصلحة "إسرائيل" طيلة السنوات الأربع الفائتة، في ظل إرسالها رسائل إيجابية إلى إيران للعودة إلى الاتفاق قبل حزيران/يونيو المقبل؛ موعد الانتخابات الإيرانية.

أما الرسالة الأخيرة، فهي للأنظمة العربية بأجمعها، لتذكيرها بواجباتها تجاه المدينة المقدسة وتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي لها، وبصورة خاصة بعد سلسلة اتفاقات التطبيع التي حصلت مؤخراً، والتي أدَّت إلى انسحابها من الواجب القومي والتملص من المسؤولية السياسية والأخلاقية، كما أنها دانت عمليات المقاومة أيضاً، وطالبت الشعب الفلسطيني بعدم "التهجّم على الإسرائيليين".

انتفاضة المقدسيين في شهر رمضان المبارك أعادت القدس والقضية الفلسطينية إلى الواجهة، وخصوصاً بعد النصر الذي حققته، وذلك في دفع الكيان وأجهزته إلى رفع الحواجز الأمنية في القدس، كما استطاعت تأكيد المؤكد الذي رسخته المقاومة اللبنانية بأن هذا الكيان ومن يقف خلفه داعماً وحاضناً لن يفهم إلا لغة القوة والمقاومة.

 إن ما حقّقته فصائل المقاومة من تطوير قدراتها الصّاروخية في ظلّ الحصار المطبق عليها، أدى إلى تغير قواعد الاشتباك. كما أن الحديث عن تآكل قوة الردع الإسرائيلي يعدّ ظلماً لما حققته المقاومة ومحورها من تطوير القدرات والإرادة في تغيير قواعد الاشتباك، فـ"جيش" الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقّف عن تطوير قدراته، والتوجه الغربي والأميركي في الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة مستمر، ولكن ما تغيّر هو قدرة محور المقاومة على ابتداع القدرات العسكرية لإسقاط هذا التفوق، وقلب مفهوم الحرب النفسية لمصلحته، وإدخال حرب العقول في الصراع المحتدم.

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.