عودة الفتى الضال

إنه لمن سخرية زمننا هذا أن تجتمع حكومة تدّعي الشرعية الدستورية والوحدة الوطنية ومن ورائهما بُعد النظر وحكمة الموقف لتقول :" نحن نرفض عودة الإرهابيين" وكأن البلاد ستقفل عنهم بابها الكبير وتتركهم على عتبته يتوسّلون الدخول عبثاً.

تعامل الحكومة مع هذا التهديد الحقيقي لأمن الدولة لم يترك لنا، وقد تملكنا اليأس من جديته
هو موقف يطرح علينا كتونسيين الجدل القائم سلفاً حول الأهلية السياسية لأصحاب القرار في دولة كُتب عليها أن تواجه تحديات التنمية والأمن والديمقراطية مجتمعة.

ولأن "من شرّ البلية ما يُضحك" فإن تعامل الحكومة مع هذا التهديد الحقيقي لأمن الدولة لم يترك لنا، وقد تملكنا اليأس من جديته، إلا أن نسخر منه. فالسياسي الذي يعتقد أن هذا الرفض قد يخيّب أمل الإرهابيين في العودة ويكفينا شرّ القتال أو أن دول أوروبا قد تقدّم  أمن التونسيين على أمن مواطنيها وتعدل عن إرجاع "الإرهابيين" إلينا، هو على الأغلب متطفل على السياسة هازل لا يستأهل منا إنصاتا أو جواباً.

لكن الخطير في موقف الرفض أنه، على اقتضابه، يحمل من الأخطاء والمؤاخذات ما يُسيء لصورة الدولة ولعلاقتها مع شركائها في مكافحة الإرهاب. ويمكننا القول بأن من تبنّى هذا الموقف أساء مرتين، مرة لتونس التي اعتادت تاريخياً تحمّل مسؤولياتها كاملة إزاء ما يصدر عن رعاياها من اعتداءات وجرائم، ومرة للدول التي تضرّرت من هذه الاعتداءات ولم تجد في الموقف التونسي غير الإنكار والتفصي.

وحتى نكون موضوعيين فإن موقف الحكومة، إن اعتبرناه موقفاً من الأساس، لم يأت بجديد أو أنه بالأحرى لم يخرج عن المنهج السياسي العام في "تونس ما بعد الثورة" والذي مازال يتخبّط في الفوضى والارتجالية وسوء التصرّف في مواجهة كبرى القضايا.

لكن المفارقة هذه المرة تكمن في أن أغلب أطياف المشهد السياسي انضوت تحت راية الرفض بمن فيهم أولئك الذين ساندوا فكرة الجهاد في سوريا بالأمس القريب وغضّوا الطّرف عن حملات تسفير شبابنا إلى ما يُسمّى الآن " بؤر توتر". فحكومات ما بعد الرابع عشر من جانفي/يناير 2011، لم تنزعج مطلقاً، وهي حقيقة مؤلمة، من قوافل المغادرين نحو ليبيا وسوريا رغم أنها تعلم جيداً الغرض من مثل هذه الهجرات. هذا من دون أن يفوتنا أن كثيراً من السلاح الذي قوّض أمن الجارة ليبيا مر عبر أراضينا وبموافقة رسمية لم تجد الحكومة التونسية في الإفصاح عنها حرجاً رغم ما واجهته من معارضة في الداخل.  

لقد كان أولى بمن يمثلون الدولة أن يصرفوا التفكير في البحث عن حلول للتعامل مع العائدين بدل الخروج علينا من حين إلى آخر بقرارات هزيلة لا تفضي بنا في الغالب إلا إلى طرق مسدودة، فحدودنا البرية ليست بالأسوار العالية وعبورها خلسة ليس ضرباً من المستحيل  وبالتالي فإن رجوع الإرهابيين، إن أرادوا ذلك فعلاً، ليس إلا مسألة يحكمها الزمن. 

أما إذا كانت الحكومة الحالية تحترم تعهداتها وتريد حقاً مكافحة الإرهاب فإن عليها أن تعدّ العدّة عسكرياً وأمنياً وقضائياً حتى لا يفلت العائدون من العقاب، وهو ما يقتضي مبدئياً إعادة العلاقات مع سوريا وإقامة شراكة قضائية تونسية-سورية ومثلها مع ليبيا ومع بقية الدول المعنية من دون إغفال ما يجب أخذه دائماً من الحذر والاستعداد لأية مواجهة مسلحة محتملة ضدّ مَن يعتبرون تونس أرضاً للجهاد.
كما يجب أن يتخلّى المشرّعون عن فكرة إسقاط الجنسية عمن ثبت ارتكابهم لجريمة ذات صبغة إرهابية لأن ذلك لا يخدم مصلحة الدولة في مواجهتهم خصوصاً إذا جنحوا للإرهاب مجدداً بعد خروجهم من السجون.
وعلى الحكومة في المقابل أن تتحمّل مسؤولياتها وتعمل على وقف هذا النزيف بما يقتضيه ذلك من إصلاح للخطاب الديني وتقويم للمنظومة التربوية ودعم للأجهزة الأمنية والعسكرية.

عسى أن تشفع لنا مثل هذه الإجراءات، وإن تأخّرت، أخطاءنا المتكرّرة في حق أشقائنا وأصدقائنا وفي حق أنفسنا وتحفظ لنا ما تبقّى من الاحترام في عيون العالم الذي أصبح يشاهدنا حسب الأحوال، تارة كأنموذج للديمقراطية الناشئة وطوراً كحاضنة للإرهاب الدامي.