جَمر تحت رَماد الحلم المغاربي.. مَن المسؤول؟
مَن ينظر إلى خريطة كل البلاد العربية وتحديداً خريطة بلاد المغرب، لا يبذل كبير جهد كي ينتهي إلى الأسف على حالها. حيث كل المؤشّرات الجارية لا تبشّر بدنوّ حدوث ما من شأنه أن يكرّس قَدراً من الاستقرار اللازم للبناء عليه، فالمُعادلات الدولية والاقليمية رَسَت على ما يُشبه "لعبة العضّ على الأصابع" بين أطراف كل منها مُتمسك بمصالحه، وغير مُستعدّ للتخلّي عنها ولو بمنطق قَطع الطريق على مصالح الآخرين، وأفقر البلاد العربية هي المسرح طبعاً.

بعد تلك الفترة تراجع سقف الحلم العربي إلى مستوى بدأت كل مجموعة من الدول تسعى إلى بناء تكتّلات جهوية استعاضت بها عن مشروع "الأمّة العربية الواحدة"، فظهر إلى العلن مشروع "اتّحاد المغرب العربي" الذي تمّ إعلانه سنة 1989 في مدينة مراكش، في امتداد لسلسلة من المُبادرات والمساعي التي بدأت مع مرحلة حروب التحرير في المنطقة المغاربية. لكن مياهاً كثيرة جرت وتجري في ذلك النهر، فبقايا الاستعمار وتأثيراته في أغلب النُظُم التي حكمت بلاد المغرب بعد الاستقلالات، والصِراع على الحدود والصِراع على الزعامات وأشياء أخرى، كلها جعلت الاتّحاد المغربي رماداً، لكنّ تحته جمراً يشتعل بين الفينة والأخرى ليحرق ما تبقّى من حلم الوحدة.
حينما نطرح مواضيع فشل كل المشاريع الوحدوية العربية التي تنبني على أساس نهضَوي قُطري أو جَهَوي، فإن الفشل يكون في جزء منه موضوعياً، حيث أن جميع أفعال الإنسان لا يكون بمستطاعها الانطلاق دونما عوائق تظهر تِباعاً في بيئة الفعل، لكن هذا لا يعني بأنه بمقدور الإنسان إن أَحسَن التفاعل والتصرّف أن يطوِّع جميع العقبات، ولهذا فمسؤولية أي نجاح أو فشل تقع على عاتق الذات، أولاً وأخيراً. ومن هنا فبالرغم من أن الاستعمار تدخّل في جميع الوسائل لإفشال تلك التجارب الوحدوية والتكاملية، في حين هو إلى حد بعيد من رعى تجارب أخرى وحماها كتجربة "مجلس التعاون الخليجي"، إلا أن التجارب التي فشلت وأُعيقت كانت مُتأثّرة بقَدرٍ مُعيّن بأسباب تتعلّق بتقديرات الذوات الحاملة للمشروع، وتصوّراتها المُبهمَة للتكامل، وسعيها إلى المُزايدات على بعضها البعض أكثر من ميلها إلى تحقيق تكامل واندماج حقيقيين. ولعله من بين أكبر العوائق التي تقف في طريق قيام اتحاد المغرب العربي، تأتي تلك التي تنبع من مشكل "الصحراء"، فمنذ سنة 1975 وغَدَاة الجلاء الإسباني عن الصحراء بدأ النزاع بين المغرب وبين ما سُمِّي "بالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (بوليساريو)، المدعومة من الجزائر، وهو النِزاع الذي طغى على ملفّات أخرى وغيَّبها، كملف الحدود الجزائرية المغربية، وملف الحدود المغربية الموريتانية الذي تثور بعض حممه بين الحين والآخر، وملف الحدود الجزائرية التونسية وغيرها من القضايا الداخلية كالمسألة الأمازيغية في الجزائر. وبالتالي فالعلاقات المغربية الجزائرية التي بدأت تتأزّم منذ استقلال الجزائر وتنامي شعور النُخبة الحاكمة في البلد بأن مثيلتها في المغرب قد سرقت شرعية الحكم من جيش التحرير المغربي، والذي كان ثمة اتفاق معه على عدم ترك السلاح حتى تحرير آخر شبر في المغرب العربي، سرعان ما تفاقم الخلاف مؤدّياً إلى حرب الرمال عام 1963 على أثر خلاف حدودي، وزادت من حِدَّته وديمومته حرب الصحراء التي انحازت فيها الجزائر إلى جبهة البوليساريو، وصولاً إلى إغلاق الجزائر للحدود بينها وبين المغرب، غداة اتّهام المغرب للمُخابرات الجزائرية بالضلوع في تفجيرات مراكش سنة 1994. إن هذا التاريخ المُعقّد بين البلدين يكشف أنه لو لم يبزغ مشكل الصحراء بكل ثقله وتعقيداته، لكان لدى كل منهما حِجَج ثانية للمضيّ صوب الحؤول دون أي تكاتف واندماج، تدفع ضريبته شعوب المغرب الكبير. فالنُخَب الحاكمة في البلدين ورثت مُبرّرات آتية في عمقها من فترة حروب التحرير، مطبوعة بطابع الحرب الباردة حيث الاصطفافات كانت تدفع كل بلد إلى السعي لتأكيد جدارته كي يكون وكيلاً لسياسات الحلف الذي اصطفّ إلى جانبه اتّجاه المنطقة المغاربية ومنها اتّجاه إفريقيا جنوب الصحراء، حيث كانت القوى العُظمى ولا تزال ترى في المنطقة المغاربية "جغرافيا جِسرية" ينبغي تأمينها للعبور إلى "القارّة السمراء" النائمة على ثروات لا حَصر لها، ولهذا سُمّيت المنطقة في الفكر الاستراتيجي الأنغلو أمريكي تحديداً "شمال إفريقيا" في امتداد تطوّري لتسمية "الشرق الأوسط"، وهما معاً يصبغان معنى جغرافياً/أداتي/ يُفرِغ منطقة بكاملها من مضمونها الثقافي والشعبي العريق. وبالرغم من أن المغرب يسعى دائماً إلى فصل الملفّات عن بعضها البعض، إلا أن استحضاره لقضية الصحراء على نحو يجعلها بوصلة سياساته الداخلية والخارجية، وعدم استعداد الجزائر للتخلّي عن دعمها لما يُسمَّى "الجمهورية العربية الصحراوية"، انتهاء بعدم الاستعداد لفصل الموقف من ملف الصحراء عن المشروع المغاربي الوحدوي، وفشل باقي الدول المغاربية في إيجاد صيغة توفيقية بين البلدين الأكثر ترصيداً للاختلاف في المنطقة المغاربية، بصرف النظر عن الدور الليبي السلبي على أيام الزعيم القذّافي في تسعير الخلافات عبر دعم ما يُعرف بجبهة البوليساريو. كل ذلك عَصَفَ بأية إمكانية لتفعيل مُقتضيات الاتحاد المغاربي، الذي تكاد تتّفق كل التقديرات على أنه "ولِدَ ميتاً". ألا يجد التساؤل التالي قَدراً من الأهمية: ما الفرق بين أن تُضاف دولة جديدة إلى المغرب العربي قبل أن تتم أجراءات الاتّحاد، وبين أن تتم إجراءات الاتّحاد بوجود الدول الحالية فقط؟. إن محاولة الإجابة تفضي إلى أن الطرفين إما غير جادين منذ البداية في طرح التصوّر الوحدوي المغاربي، أو أنهما لا يمتلكان تصوراً مُنسجِما أو موحّداً. فإذا كان الذي ينبغي أن يقوم هو أن يعني الاتحاد إزالة الحدود وتحرير التجارة وربط البلدان ببعضها، وتسهيل مرور البضائع والأشخاص وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي والسياسي، فإنه يصير لا معنى للتحجّج بمسألة الصِراع حول الصحراء، لأن معنى السيادة التُرابية نفسه للدول المعنية بالاتّحاد سيتعرّض لتغيير جذري جرّاء الاتّحاد، وسوف لن يكون فرق عند المواطن المغاربي بين بنغازي وبين الرباط. إن الإغراق في تبادل الحجج التاريخية حول مغربيّة الصحراء أو لا مغربيّتها يُضيِّع مستقبل الشعوب المغاربية بأسرها، في حين لا يفضي ذلك النقاش إلى أية نتيجة يمكن البناء عليها، لأن حدود أغلب بلدان العالم لم تستقر نسبياُ إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ومازال الكثير من مناطق العالم لم تستقر حدودها إلى اليوم، وبالتالي فالأمر يخضع لموازين القوى ولمنطق ما استقرّ عليه الأمر الواقع. في حين أن المستقبل الذي هو الأهم يضيع وتضيع معه الأحلام والتطلّعات والآمال. وبالتالي فإنه من المُناسب القول بأن الاتّحاد الذي تجمَّدت مؤسّساته، ولم تُعقَد قمّة على مستوى رؤساء الدول منذ قمّة تونس سنة 1994، ما يعني أن الصِراع حول الزعامات والمُزايدات بين الأطراف من قبيل إلصاق تُهمة إفشال إجراءات بنود اتفاقية الاتّحاد بالآخرين، هي كلها وغيرها الأسباب الحقيقية للفشل في إنجاز الحلم المغاربي. ومع تبلور المشاريع الاستعمارية الجديدة التي بدأت مع غزو العراق، وتصاعد الموجات الهوياتية ووصولها إلى بلدان المغرب، فقد مسّ الموضوع عبارة "العربي"، وبات من الضروري مُراجعة الخلفية إياها إرضاء للمُكّون الثقافي والسياسي الأمازيغي، فضلاً عن مكوّن ٍآخر "إسلامي" لديه مُشكل مع وصفَي "العربي" و"الأمازيغي". إن مشهد البلدان المغاربية الآن يزداد قَتَامَة، خصوصاً مع الوضع الأمني والإنساني الذي وصلت إليه ليبيا، والتهديدات التي تطال الجزائر ومستقبلها السياسي والأمني والمجتمعي، والمشاكل التي تعانيها تونس، أما موريتانيا فوضعها لا يقلّ سوءاً عن الكثير من البلدان العربية الأخرى. وبين البلدين الأكثر تأثيراً في مستقبل العلاقات المغاربية في أفق الاندماج الكثير من القضايا العالقة، ومثيلاتها التي يمكن التأسيس عليها للاقتراب من الانفراج، كقضايا التهريب عبر الحدود وقضايا الأمن والإرهاب، حيث بات المجتمع الدولي غير مُطمئّن على ما توفّره مخيّمات تندوف من ظروف غير إنسانية، واختطافات ومآوٍ للإرهابيين والمُرتزقة واللصوص، ما يُشكّل مخفراً مُتقدّماً للخطر القادم من الساحل والصحراء الكبرى اتّجاه شمال بلدان المغرب ومنها إلى أوروبا. إن حل المسألة المغاربية على نحو يُطلِق مساراً تنموياً آمناً ليس في صالح شعوب المغرب فقط، وإنما في صالح المنطقة العربية وفي صالح المجال المتوسطي بأكمله، حيث ينبغي تمتين هذا السدّ العظيم الذي سيُشكّل صمام أمانٍ للعالم، ومَعبراً لتنمية إفريقيا جنوب الصحراء، في أُفُق شيء أكبر من الاتّحاد المغاربي قد يكون "كونفدرالية شمال إفريقية". سيما وأن قبضة الاستعمار التقليدي قد شرعت تتحلّحل، والتكتّلات الدولية التقليدية ماضية نحو التصدّع على غِرار الاهتزازات التي يتعرّض لها الاتحاد الأوروبي، وإفريقيا ستكون هي الموضوع الرئيسي بامتياز للسياسات الدولية في القرن الواحد والعشرين، وبالتالي فالفُرَص أكثر من التحدّيات لتكون دول المغرب الكبير هي الرافد المُغذّي لهذه التحوّلات، وذلك إن تخلّت عن سلوكاتها الراهنة، وأعادت النظر عن العوائق الذاتية التي ما تزال تقتات من رواسب الاستعمار.