الانقلاب الفاشل بعيون تركية

المشهد الضبابي المُسيطر على "أخبار ونتائج الانقلاب" خارج تركيا، لم يكن كذلك داخلها، التضارب في المعلومات كان سيّد الموقف هنا وهناك، لكن المواطن التركي وبالرغم من التطوّرات المُتسارعة، التقط إشارات عدّة تشي بفشل العملية وضعف حجم التأييد شعبياً ورسمياً وعسكرياً لها، فتابعها وتفاعل معها من مشهد "إطلالة السكايب" إلى لحظة "المؤتمر الصحفي" في مطار اسطنبول وعينه على مستقبله ما بين المشهدين.

تركيا.. الانقلاب الذي لم يكتمل

علمت بما حدث لحظة خروجي متأخّراً من المكتب، يقول صديق تركي تابَع الأحداث على الأرض بعين "الصحافي"، وصلت إلى ساحة "تاكسيم" وكان السوّاح هناك كمن لا يدري بما يجري من حولهم،  الشارع مليء بالرّواد كعادته في مثل هذه الساعة، فجأة تغيّر المشهد مع وصول العديد من المواطنين إلى الساحة التي يوجد فيها ٣ مجمّعات أساسية للشرطة، ومع بدء تجمعهم وصلت 3  مدرّعات للجيش، فجآة ومن دون سابق إنذار وخلال دقيقتين فقط بدأ اطلاق النار، الذي بدا واضحاً أنه لم يكن اشتباكاً بقدر ما كان عملية "إرهاب مُتبادَل" بين الشرطة والجيش حيث  إن الطرفين يتجنّبان إطلاق النار بشكل مُباشر على بعضهما البعض.

 

مع اشتداد حدّة الصُراخ وإطلاق النار، يتابع الزميل التركي، كان السواح الأجانب قد فروا من الساحة بشكل كامل، وصلت دفعة جديدة من المدنيين (الأمن والاستخبارات)، وأصبح عدد الموالين أكثر من عدد الانقلابيين مُضافاً إليهم مَن كان موجوداً أصلاً على شكل بائع متجوّل أو زائر عادي للساحة، فاستسلمت قوة الجيش وسلّمت أسلحتها ومدرّعاتها، وكانت تلك الإشارة الأولى إلى وجود خَطب ما، سوء تنسيق، ضعف في التواصل مع قيادة الانقلاب أو عدم رغبة في التصادم وسقوط الدماء، كلّها احتمالات تمر بذهن المُتابع، لكنني أيقنت أن هؤلاء ليسوا بوارد "فتح معركة".

 

مرّت ساعتان تقريباً على تسارع الأحداث في الشارع، ننتقل من الساحة إلى الشوارع القريبة، فنجد أن جنود الجيش (الإنقلابيين) بحال صدمة، فمشهد الجموع التي بدأت تطوّقهم كان مفاجئاً، لعلهم لم يعلموا بإطلالة "السكايب" التي دعا خلالها أردوغان الشعب للنزول إلى الشارع ومساندة "الشرعية"، بل لعلّهم لم يعلموا بأي شيء آخر غير التعليمات التي تلقّوها منذ خروجهم إلى الشوارع.

            

لبّى الآلاف دعوة أردوغان وتوجّهت الحشود نحو ساحة "تاكسيم"، كانوا خليطاً من الفئات العُمرية، كبار في السن وشباباً، ذكوراً وأناثاً، كنت تشاهد من مكانك أبواب المباني والمنازل تُفتح ويخرج منها من يتّشح بالعلم التركي ويُجدّ السير نحو أقرب تجمّع للمواطنين.

أكثر من عشرين غارة وهمية في سماء المدينة، الطائرات الحربية تخترق جدار الصوت بطريقة استعراضية، لم يكن ثمة حاجة لاستهداف المنطقة بقربنا، يؤكّد الصديق التركي، المنطقة سياحية بامتياز، ولم يعد للجيش تواجد هنا، أما على الجهة الأخرى لناحية الجسور فقد كان الجيش يقطعها من جهة الوسط والشرطة من بدايتها، والناس في الوسط أو على الأطراف تتابع وتنتظر، قبل أن تبدأ الجموع بالتوجّه نحو منطقة "حربية" و"عثمان بيه" لتطويق ثكنات الجيش الموجودة هناك، خليط كبير من كل الانتماءات والأطياف بشكل لا يمكن تخيّله ويسهل فهمه، خوف البعض من استبدال الإسلاميين الذين يعرفهم في السلطة بإسلاميين لا يعرف كيف سيتصرّفون إن وصلوا (خاصة بعد اتهام جماعة فتح الله غولن بالوقوف وراء الانقلاب)، كما أن خشية البعض الآخر من استغلال الأكراد للحظة الانقلاب كانت حاضرة، أما البعض الآخر فكانت دوافعه اقتصادية بحتة، وضعه الاجتماعي الذي يحلو له أن يشبّهه بالدول الأوروبية لا يبدو أنه مُتحمّس لتغييره كرمى لعيون أحد، لا بل أنه لا يُصدّق أن هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي الحالي يمكن أن يُعيد تركيا إلى "زمن الانقلابات".

 

 إعلامياً، كانت المفاجأة بالنسبة للزميل التركي كما لغيره من الزملاء العرب الموجودين في أنقرة صادمة، إذ أجمع عدد كبير منهم على استغراب ما حصل، فبعد سيطرة عناصر من الانقلابيين على التلفزيون الرسمي، كان واضحاً أن قنوات المعارضة استلمت المبادرة، وتصدّت إعلامياً لهم، كان المشهد مفاجئاً لكنّه حقيقي، لم تُسكِت سيطرة الانقلابيين على التلفزيون الرسمي أصوات المعارضين، لا بل انبرت تلك القنوات للاتصال برموز الدولة وايصال صوتهم إلى الناس، وهذا الأمر كان له الأثر الكبير في زيادة عدد المندفعين إلى الشوارع.

 

في القراءات الإعلامية لفشل الانقلاب يختلف المشهد قليلاً بين زميل وآخر، قلّة التنسيق الواضحة كما يعبّر أحد الزملاء، وفشل الانقلابيين في إحداث صدمة كافية تدفع باقي الجيش للانضمام لهم كما يؤكّد آخر، وغياب الضبّاط الكبار عن مراكزهم خارج أنقرة بسبب توجّههم إلى المحافظات لقضاء العطلة، وبالتأكيد وجود القوات الخاصّة والاستخبارات التي تولّت ملاحقة الانقلابيين واستعادة السيطرة على التلفزيون الرسمي ومنعهم من بث بيان الانقلاب .. كلها أسباب اجتمعت ضدّهم وسرّعت في فشل انقلابهم.

 

بقاء عدد كبير من ضبّاط الجيش على الحياد، عزّز وضع أردوغان، وقد لا يكون السبب عائداً لمعارضتهم للانقلاب فلكل حساباته، ولعل نسبة كبيرة منهم فضّلت الانتظار ومعرفة مآل الأمور، قبل أن يُعجّل في قرارهم مسارعة القوات الخاصة والاستخبارات إلى تطويق أكبر عدد من الثكنات العسكرية بدعم من الشرطة والمواطنين.

           

عاد أردوغان لى اسطنبول، بدأت الوقائع تدفع المتردّدين إلى حسم خياراتهم، ولم يكن غريباً أن يختار عدد كبير منهم "صف الدولة" المضمون، حتى بالنسبة للمواطن التركي الخائف من "المستقبل المجهول" في بلد مُحاط بالاضطرابات وتغزوه الارتدادات من وقت إلى آخر، خوف يدفع أقصى المتحفّظين على طريقة حكم أردوغان للتمسّك بوضعه الحالي  من دون أن ينسى من وقت إلى آخر طرح أسئلة من نوع "غريب.. لماذا.. في اليوم التالي للإنقلاب كانت كل وسائل النقل مجانيّة.."؟!.