اختلفت دمشق قليلاً

زائر دمشق هذه الأيام يلحظ أنها نفضت عنها غبار الحرب والقذائف، ولبست على عجل حلة الانتخابات التي وإن كانت تضفي جواً من العبثية والفوضى إلا أنها تعكس تبدلاً في المزاج العام.

لم تخسر دمشق سحرها وفي عيون أبنائها إصرار كبير على الحياة.
منذ منتصف آذار عام 2011 ذكرى التظاهرة التي شهدتها مدينة دمشق في حي الحريقة التجاري، تبدّلت أحوال أقدم عواصم العالم وبدا أنها لن تبقى على حالها.

رغم أن آثار الأزمة لم تبدُ على دمشق حتى النصف الأول من عام 2012، إلا أن سكان المدينة عرفوا مذاك أن حياتهم لن تكون بمنأى عن رياح "الربيع العربي" الدامي، وأنهم لن يشعروا – حتى ولو لفترة مُعيّنة - بدفء الحياة في شتاء دمشق، ولن يتمتّعوا بنسيم غوطتها العليل في الربيع، ولا بأصوات ورق الصفصاف والحور على ضفاف بردى من منبعه في سهل الزبداني مروراً بدمّر والربوة ووصولاً إلى عمق الغوطة الشرقية.

يومها وتحديداً في السابع عشر من تموز 2012 وصلت الاشتباكات والمعارك للمرة الأولى إلى أطراف العاصمة، ودخلت فعلياً إلى بعض أحيائها وكانت دمشق وسكانها في أسوأ أيامها..

لا أنسى ذلك اليوم حين هرب الناس من أطراف العاصمة إلى وسطها، تركوا وراءهم بيوتهم وأحياءهم وحتى أحلامهم باتوا لياليهم الأولى في الطرقات والحدائق العامة، كان سكان أحياء وسط العاصمة مذهولين لا يدرون ما يفعلون، فإما أن يتركوا مدينتهم الحبيبة أو يجلسون منتظرين حتى يصل المُسلّحون إليهم، وهم يشاهدون آلاف الهاربين.. ولكنهم استوعبوا الصدمة سريعاً، تمسكوا بمدينتهم وهبّوا لمساعدة النازحين، فُتحت مدارس العاصمة وبعض مؤسساتها الخدمية لاستقبال النازحين وعملت لجان أهلية على خدمتهم وتأمين ما يحتاجون.

تجاوزت دمشق تلك المحنة وردّت هجوم "تتار العصر" عنها، ولكنها لم تسلم لاحقاً من نيران قذائهم ومتفجراتهم، وعاشت على وقع القتل اليومي المتنقّل بين الأحياء والشوارع، خلت بعض أحيائها من سكانها كونها كانت هدفاً يومياً لقذائف المُسلّحين وحقدهم، وتضاءلت الحركة نسبياً في غالبية شوارعها وخصوصاً في المواعيد المرتبطة بأحداث سياسية، حيث لا ينسى أبناء دمشق استقبال مدينتهم أكثر من 150 قذيفة وصاروخاً محلي الصنع في يوم واحد هو يوم الانتخابات الرئاسية في الثالث من حزيران عام 2014.

بقيت الحال على ما هي حتى إعلان الهدنة في 27 شباط الفائت، عندها بدت دمشق وكأنها تخرج من نار الحرب وتتلمّس طريقها بحذر، خرج الناس من منازلهم وعادوا لى ممارسة ما اعتادوا على فعله قبل خمس سنين، فعاد الألق إلى منطقة الربوة وهي تستقبل الدمشقيين في مطاعمها ومقاهيها الممتدّة على طول نهر بردى، وقد شهدت في أيام العُطل ازدحامات غير اعتيادية، كما نشطت الحركة التجارية نسبياً في أسواق الحميدية والحمرا وعاد بائعو الورد يتنقّلون بين السيارات ويبيعون الزهور للمارّة.

عادت الاحتفالات والمناسبات لتخرج من الأماكن المُغلقة إلى شوارع دمشق العامة، وكانت مناسبة أحد الشعانين عند الطوائف المسيحية أولى تلك المناسبات يومها شهدت كنيسة "سيّدة دمشق" في حي العباسيين على بعد مئات الأمتار من متاريس الحرب في حي جوبر، شهدت احتفالاً كبيراً تحت سماء آذار الصافية وبحضورٍ كبيرٍ مماثل لما كانت عليه الحال قبل خمس سنوات.

أتت مناسبة الانتخابات التشريعية والحملات الانتخابية بعدها لتُخرج الدمشقيين نهائياً من دوامة الحرب، فاكتسحت صور المرشّحين الشوارع والجدران، حتى أن الربيع الذي أصبح في أوجه بدا وكأنه يطل خجولاً برأسه من وراء اللافتات واللوحات الكبيرة التي حملت صوراً ضخمة للمرشّحين ولبعض القوائم الانتخابية.

 

في بداية أيار عام 2012 كنت أتمشى ليلاً في بعض الأحياء الشرقية لدمشق، وقبل أن أصل المنزل سمعت بضع رصاصات تخترق هدوء الليل، أحسست حينها أنني سأكون محروماً من متعة السهر مع دمشق والتنزّه في شوارعها ليلاً حتى إشعار آخر وكان ما أحسسته صحيحاً.

واليوم بعد 4 سنوات عدت لأتمشى في شوارعها، اختلفت دمشق قليلاً، وتغيرت بعض معالمها، ولكنها لم تخسر سحرها، وتلمح فيها وفي عيون أبنائها إصراراً كبيراً على الحياة.