"كوفيد - 19".. إلى أين سيذهب؟ وإلى متى سيبقى؟

قد تحصل أخطاء عندما ينسخ الفيروس شريطه النوويّ. وإن كانت هذه الأخطاء مقترنة بعدم تمكّن أنزيمات تصحيح أخطاء النسخ من القيام التام بمهماتها، فسيؤدي هذا إلى تغيّرات أساسيّة تكوينيّة في الشريط الوراثي للفيروس، أي تحوّره.

  • ما علينا الآن فعله هو الاستمرار بمقاومة فيروس كورونا عن طريق أخذ اللقاحات

ما زالت المواجهة بين الفيروس المسبّب لـ"كوفيد - 19" والإنسان قائمة. كلاهما يحاول البقاء. في السابق، عندما كان هذا الفيروس يعيش في خلايا الخفافيش، عملت الطبيعة على أن لا تقتل الفيروسات المضيف. وكلما زاد عدد الفيروسات في خلايا هذه الثديات، أفرزت الإنترفيرون الضروري ليقضي على الكمية الزائدة منها، وليس جميعها (وي، مجلة: نيتشر، لعام 2020). هل ستفعل الطبيعة شيئاً مماثلاً عند الإنسان؟ هل سيبقى هذا الفيروس رفيقاً لنا، وسنبقى مجبرين على التعامل معه كما نتعامل مع فيروسات أخرى مثل مُسببات الإنفلونزا؟

قد تحصل أخطاء عندما ينسخ الفيروس شريطه النوويّ. وإن كانت هذه الأخطاء مقترنة بعدم تمكّن أنزيمات تصحيح أخطاء النسخ من القيام التام بمهماتها، فسيؤدي هذا إلى تغيّرات أساسيّة تكوينيّة في الشريط الوراثي للفيروس، أي تحوّره.

هناك أسباب أخرى تؤدي أيضاً إلى التحور الفيروسي. أودّ أن أذكر منها ما جاءت به الدراسات التي نُشرت مؤخراً في مجلة "نيتشر سينتفك رابورت"، إذ إنَّ خطر ظهور سلالة جديدة مقاومة للمناعة غالباً ما يحدث عندما يتم تطعيم أغلبية الناس مثلاً بمقدار 60% من دون الوصول إلى نسبة 90%. هذه هي النسبة الأخيرة التي فُرضت مؤخراً للوصول إلى المناعة الجماعية التي تُحد من انتشار المتغيرات المسببة لـ"كوفيد - 19". 

وبحسب المجلّة، كلَّما زاد عدد الملقّحين من دون الوصول إلى المناعة الجماعيّة، زادت قدرة الفيروس على احتواء المناعة ومقاومة اللقاح. تُسمى هذه الظاهرة "ضغط الاختيار"، إذ لا يبقى هناك خيار للفيروس ليتمكن من التكاثر، وبالسرعة التي كان ينتشر بها في السابق (قبل مواجهة اللقاح)، إلا بأن يُغير في تركيبته النووية ليتجنَّب المقاومة، أي المناعة المكتسبة، والتي صُممت لمقاومة التركيبة الفيروسية غير المتغيرة. 

على الرغم من أنَّ المضادات الحيويّة يتمّ تجاوزها بانتظام عن طريق تكيّف البكتيريا، فإنَّ تطور مسببات الأمراض الميكروبية وتأقلمها، مثل فيروس كورونا المستجدّ، يواجه صعوبة بالغة لتخطي فعالية اللقاحات. ولا شكَّ في أنَّ الفيروس المسبّب لـ"كوفيد - 19"، كباقي الفيروسات، يدخل في إطار نظرية التطور الداروينية التي تشمل كلّ التغيرات الوراثية للكائنات نسبةً إلى الزمن، وبركْنه الأساسي "الاختيار الطّبيعيّ". 

وقد أصبح واضحاً، ومن خلال بعض طفراته، وليس جميعها، كما جاء في كتاب "النظرية الوراثية للاختيار الطبيعي" للعالم رونالد فيتشر للعام 1930، وهو من أكبر علماء "نظرية التطور التركيبية"، أنَّ هذا الفيروس يخضع لعمليات بيولوجية تسمح له بالتكيّف. هذا يعني أن يبقى يتكاثر في الإنسان ويتعايش معه على المدى البعيد. وكما تبيّن أخيراً، إنّ السّلالة الأسرع تكاثراً والأكثر قدرةً على مقاومة المناعة لها الأولويّة في البقاء.

وفي هذا السياق، ولاستكمال ما سبق، يبيّن فيتشر في كتابه أن هناك استراتيجية مثاليَّة لتأقلم الفيروس في بيئة معيَّنة، أسماها "التحور الإيجابي للفيروس"، لتزيد من سرعة انتشاره إلى أن يصل إلى قمَّة تكاثره. وبالطبع، يوجد تحوّر غير إيجابي للفيروس يمنعه من الوصول إلى هذه القمة. 

ويواصل فيتشر نظريته بالقول: "كلَّما اقترب الفيروس من الحدّ الأمثل، أي الوصول إلى قمّة تأقلمه، قلّت الطفرات التكيُّفية". والجدير بالذكر أنَّ التطوّر يحصل أيضاً من دون أسباب تأقلميّة، بل بحسب أحداث الانتشار العشوائي.

أودّ أن أذكّر أنَّ الكثير من الفيروسات وصلت إلى قمّة تأقلمها، ولم يعد التحور التأقلمي يهمّها، بينما لا يزال الفيروس المسبّب لـ"كوفيد – 19" بعيداً عن هذه القمّة، ولا يزال يبحث عنها، وسيبقى يتحوّر، ربما لسنوات، وسنتعامل معه مرْغمين، إلى أن يجد توازنه. 

أودّ أن أطمئن القرّاء، ورغم كلِّ ما سمعناه عن التحوّر وعن متغيرات هذا الفيروس، إلى أنّه أقلّ تحوراً وأبطأ انتشاراً من غيره من الفيروسات الأخرى ذات الشريط الوراثي "أر أن أي". وعلى سبيل المثال، 10 مرات أقل انتشاراً من الفيروس المسبب الإيدز، وعدة مرات أقل من الفيروس المسبّب للإنفلونزا. أيضاً، هذا الفيروس ليس من طبيعته أن يتطوّر ويتأقلم ليصبح أسرع انتشاراً، وفي الوقت نفسه أكثر ضراوةً عما سبق. 

وفي هذا الصّدد، أودّ أن أكرّر ما كتبته سابقاً، عندما أشرت إلى أنه ليس من المستحيل أن تحصل البشرية، وفقاً للاستراتيجيّة المثاليّة لتأقلم الفيروس، على السلالة الأسرع انتشاراً والأقل ضراوة، ما سيريحنا من عناء الوباء القاسي لبعض السلالات الأكثر وباءً.

 لهذا، ما علينا الآن فعله هو الاستمرار بمقاومة فيروس كورونا عن طريق أخذ اللقاحات، وربما قريباً أخذ العلاج المناسب، فرغم هبوط فعالية اللقاحات ضد المتغيرات الأخيرة المعروفة بسرعة انتشارها، كمتغيّر دلتا، ما يقوض استراتيجية القضاء على الفيروس عن طريق التطعيم، فإنَّ تلقّي اللقاح يبقى أمراً ضرورياً للحماية، وخصوصاً لدى الفئة الضعيفة، كما أن اللقاحات تحول دون التدفّق إلى المستشفيات، وتقلّل من الوفيات.

أودّ أن أنهي مقالي بكلمة تحية واحترام لما جاء به مؤخراً أستاذ الفيروسات البلجيكي الدكتور يوهان نيتس، إذ ردّد ما قاله قبله العديد من أصحاب الإنسانيّة المطلقة: بدلاً من إعطاء الجميع الجرعة الثالثة، أي لغير الضعفاء والمستحقين أيضاً، علينا إعطاؤها لتحصين الناس في أجزاء أخرى من العالم، أي في أفريقيا مثلاً، إذ لم يتم، حتى الآن، تطعيم إلّا القليل من شعبها. ما لم نقم بهذا الفعل لعوامل إنسانية، فعلينا القيام به من منطلق المصلحة الذاتية، من أجل تجنّب ظهور متغيرات جديدة أكثر عدوى، وربما أكثر بطشاً مما سبقها.

أعلنت منظمة الصحة العالمية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 تسجيل إصابات بمرض الالتهاب الرئوي (كورونا) في مدينة ووهان الصينية، ولاحقاً بدأ الفيروس باجتياح البلاد مع تسجيل حالات عدة في دول أخرى حول العالم.