أيها اللبنانيون.. الخطر الوجودي الداهم الذي لا يحدثونكم عنه
يوفّر هذا النوع من الأزمات فرصاً للتدخل والاستثمار الأمني والسياسي ضد البلد المنكوب، ويسمح بممارسة ضغوط سياسية وفرض إملاءات وشروط عليه.
-
أيهما أولى بالمعالجة.. المياه أم السلاح؟
بات لبنان على مشارف مرحلة حرجة تهدد أمنه القومي. لا يتمحور الحديث هنا حول الموقف من مسألة سلاح المقاومة والمتغيرات التي نتجت عقب الحرب الإسرائيلية على لبنان وتبعاتها. إذا لم يتم تدارك الأمر بشكل عاجل، سوف يجد البلد نفسه أمام خطر وجودي ربما يتخطى الأخطار الوجودية المطروحة اليوم على طاولة النقاش الرسمي والشعبي.
حتى الآن، تتغافل الأجهزة المعنية في الدولة ومؤسساتها عن الالتفات إلى مسألة المياه، لكن قريباً سوف يتحوّل هذا المصدر الحيوي إلى عنصر ندرة في حال استمر تجاهل المشكلة، مع ما يستتبع ذلك من مخاطر أمنية واجتماعية. هل في الأمر مبالغة؟
أيهما أولى بالمعالجة.. المياه أم السلاح؟
لا ينفصل شحّ المياه في لبنان عن موجة الجفاف المتصاعدة التي باتت تعاني منها مناطق واسعة من الشرق الأوسط. لكن ثمة اختلاف كبير في هذا المجال بين لبنان وبين غيره من دول الجوار. بلد حباه الله بنعم الثلوج والينابيع والأنهار يفرط فيها بكل رعونة وغباء، وفي أوقات الشدة التي تتطلب إدارة استثنائية للحفاظ على ما تبقى منها. قريباً، سيعزّ الحصول على هذه الموارد إذا استمرت سياسة الدولة اللبنانية قائمة على المنوال نفسه ولم تضع خطة تحرك عاجل، هي أولى من ناحية المخاطر الوجودية على غيرها من المخاطر.
من بين المخاطر المطروحة اليوم على أجندة السياسة والإعلام والرأي العام تلك التي تتفرّع من مسألة سلاح المقاومة ربطاً بالتطورات التي أفضت إليها الحروب الإسرائيلية على المنطقة. هذا الاستطراد، ليس الهدف منه التطرّق إلى مسألة السلاح إلا من زاوية الخطاب الرسمي والحزبي المستعجل لنزع السلاح بحجج مختلفة تندرج تحت عناوين تلافي المخاطر، وتحقيق مصلحة لبنان وبسط سلطة الدولة.
من بين مجموعة ذرائع، تحاجج الأطراف التي تسعى إلى نزع سلاح المقاومة، أن البلد غير قادر على تحمّل أكلاف ضغوط الولايات المتحدة، التي قد تلجأ إلى مجموعة خطوات وإجراءات عقابية تضيّق الخناق على البلد، وتشرّع عليه أبواب المخاطر الأمنية والاقتصادية، في حال لم يبادر إلى تنفيذ رغبات واشنطن و"إسرائيل".
تحاجج المقاومة، في المقابل، بأن كلفة نزع السلاح تبقى أعلى من كلفة الاستسلام للمطالب الأميركية والإسرائيلية. في المقام الأول، لا توجد أي ضمانات أن تلك المخاطر ستختفي بعد نزع السلاح، وأكثر من ذلك ستبرز مخاطر أخرى إضافية وربما طلبات أخرى، لن يكون لبنان عندها في موقع القدرة على المفاوضة أو التملص منها ولو بالحد الأدنى، بعد أن تكون انتُزعت منه كل أوراق القوة. وطرحت المقاومة رؤيتها المنفتحة على معالجة هذا الملف، لكن في إطار مصلحة لبنان مع لحظ المخاطر المحدقة، وضمن استراتيجية أمن وطني.
يزخر المحيط القريب بنماذج صارخة وأدلة حية على عواقب مسارات الرضوخ. نماذج لا يخطئها عقل محايد وموضوعي، فكيف إذا ما أضيفت إليها تصريحات إسرائيلية معلنة وجلية تتحدث من دون مواربة عن مشاريع ورؤى عقائدية وإحلالية صهيونية لا تستثني لبنان؟
ربطاً بالمصالح الأميركية في لبنان، قد تتوصل بعض الاستنتاجات إلى أن جزءاً من التهديدات الأميركية يأتي في سياق التهويل والحرب النفسية. بمعزل إذا صحّ ذلك أم لا، وبمعزل عن أي خطوة قد تلجأ إليها الولايات المتحدة، فإن هذه الخطوات المفترضة التي تلوّح بها تبقى ضمن مروحة احتمالات محصورة حتى الآن في الإطار النظري، وقد تلجأ إلى تنفيذ عدد منها أو تحجم عن ذلك.. هذه مخاطر محتملة.
أما المخاطر الأكيدة والداهمة والتي ترتفع إلى مصاف المخاطر الوجودية فهي مسألة المياه التي تبتعد الدولة حتى الآن عن إيلائها الاهتمام اللازم، ويفترض أن تكون محل إجماع وطني كونها تطال كل البلد وكل مكوناته. وفق منطق السيادة والدولة والصالح العام وصون المقدرات والأمن الوطني، هل يصح السؤال حول موقع ملف المياه على قائمة الأولويات والخطاب الرسمي لمؤسسات الدولة؟
بلد ينتحر لاهياً
أواخر عام 2021، جرى استعراض جملة المخاطر الناتجة من تغيّر المناخ والتصحّر وانعكاس ذلك على الحروب والنزاعات في المنطقة في إطار مادة من جزأين.
تحت عنوان "تغيّر المناخ وانعكاسه على الصراعات في الشرق الأوسط" تم التطرّق في الجزء الأول إلى أبرز المدن والحواضر المهددة بالجفاف، ومن خلاصاته أن ما لم تغيّره الحروب والنزاعات سوف تتكفّل به غالباً التغيّرات المناخية خلال مدّة قصيرة نسبياً، ربما يحدونا الكلام بعدها إلى الحديث عما كان من وفرة في المياه وفي خيرات الطبيعة باعتباره جزءاً من ماضٍ جميل.
بعكس لبنان، فإن الدول الكبرى التي تتنافس على ريادة العالم تولي اهتماماً ملحوظاً لهذه المسألة، ليس من باب الاستعداد فقط، بل من زاوية الأمن القومي أيضاً، وما قد ينشأ عن تغيّر المناخ من فرص وتحديات.
يشير تقرير صادر قبل سنوات قليلة عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، تحت عنوان "التغير المناخي والبيئي في حوض المتوسط، الوضع الراهن والمخاطر المستقبلية"، إلى أن تغيّر المناخ في حوض المتوسط يحصل بوتيرة أسرع من الاتجاهات العالمية. ووفقاً لدراسة أجراها معهد الموارد العالمية (WRI)، ستواجه واحدة بين كل 5 دول في العالم نقصاً حاداً في المياه الصالحة للشرب بحلول العام 2040، وأكثر البلاد عرضة لمشكلة نقص المياه في المستقبل القريب هي دول الشرق الأوسط.
مشهد جغرافي سياسي جديد
في الجزء الثاني جرى استعراض مجموعة من الدراسات والتقديرات الاستشرافية التي أشارت إلى أن تغيّر الظروف المناخية بإمكانه تهديد أمن الدول وتعزيز احتمال نشوب الصراعات. عدد غير قليل من البحوث يشير إلى وجود علاقات بين تغيّر المناخ وعدم استقرار هطول الأمطار وبين النزاعات. توضح تقارير أخرى أن التداخل بين وقع المناخ والوضع الأمني يؤدي إلى تصميم مشهد جغرافي سياسي جديد.
ويؤكد تقرير صادر عن "اليونيسكو" أنه مع مرور الزمن، وإضافة إلى الضغوط الديموغرافية والاقتصادية والسياسية القائمة، "قد ينجم عن تأثير تغيّر المناخ على الموارد الطبيعية إضعاف قدرة الدول على الحوكمة الذاتية، بما في ذلك قدرتها على الاستجابة لحاجات مواطنيها المتعلقة بتوفير الموارد الأساسية". والحال أنّ التهديد المسلّط على هذه الشرعية من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة، ونشوب نزاعات داخلية، بل وحتى إلى انهيار الدولة.
وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي في بداية عهد بايدن أشارت، من ضمن المواضيع الأساسية التي تمثّل تهديداً للولايات المتحدة، إلى تغيّر المناخ العالمي. وتصنّف الوثيقة أزمات المناخ على أنها من بين "أكبر التهديدات"، إلى جانب مسائل أخرى، مثل الجوائح والتهديدات الإلكترونية.
من خلاصات الجزء الثاني أن أزمة المناخ وما يرافقها من ندرة في الموارد المائية تتداخل مع المشاريع الاقتصادية والسياسية والصراعات الجيوسياسية في المنطقة. يوفّر هذا النوع من الأزمات فرصاً للتدخل والاستثمار الأمني والسياسي ضد البلد المنكوب في أمنه المائي، إذ يسمح بممارسة ضغوط سياسية وفرض إملاءات وشروط عليه، أو مضاعفة التوترات السياسية والاجتماعية الناتجة من شحّ المياه.
"إسرائيل" تتربص
كان لافتاً إبريق المياه الذي وضعه أمامه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في مؤتمره الصحافي الأخير أثناء مخاطبته الشعب الإيراني حاضاً إياه على الانتفاض في وجه النظام على خلفية أزمة مياه، ليست الأولى من نوعها، تشهدها إيران اليوم وتحدث عنها بشكل معلن رئيس الجمهورية الإيراني مسعود بزشكيان.
هذه الصورة الدعائية تواكبها "إسرائيل" منذ أشهر من خلال احتلال وقضم مصادر المياه العذبة في الجولان ومرتفعات جبل الشيخ، إضافة إلى نبع الوزاني في لبنان الذي بات تحت سيطرتها.
إذا كان البعض يقيس المسألة من خلال ما يتوفر اليوم وغداً من مياه الشفة، فإن الأمر ليس بهذه البساطة. تدريجياً، تتناقص معدلات المياه الجوفية، ومعها ترتفع نسبة الملوحة وتركيز المعادن والأملاح التي تؤثر سلباً على جودة المياه الصالحة للزراعة. الأمر لن ينعكس فقط تهديداً على الأمن الغذائي إنما سيطال التنوع الإيكولوجي ويسبب نزاعات ونزوحاً من المناطق الداخلية الجافة إلى المدن.
إضافة إلى المشكلات المزمنة والمتراكمة التي يعانيها لبنان على صعيد معالجة هذا الموضوع، ومن ضمنها تلوث بحيرة القرعون وتحويل مجاري الأنهار العذبة إلى مخلفات للصرف الصحي والصناعي، عدا عن اهتراء أو غياب الشبكات التي تحول دون هدر المياه العذبة، أو غياب خطة وطنية متكاملة لترشيد استهلاك المياه والاستفادة المثلى منها، يضاعف النزوح السوري هذه الأزمة مع وجود عدد مليوني من النازحين غير معلوم على وجه الدقة يفاقم استنزاف الموارد المائية.
يتضافر شحّ المياه مع حلقة متكاملة من العناصر والمتغيرات التي يغذي بعضها الآخر، وتتفرع المشكلة إلى مشكلات. على هذا الأساس يؤدي تراجع منسوب المياه في الأنهار إلى التوقف عن توليد الطاقة الكهرومائية، وإلى تقلص الأراضي المزروعة، الأمر الذي يؤثر على النظام البيئي الذي تتفاقم عوارضه مع اشتعال المزيد من الحرائق في الغابات، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من التصحّر وإلى ظهور حشرات وأمراض، تساهم في تقليص المساحات الحرجية والأراضي المزروعة ما يؤدي إلى مزيد من التصحّر.
الواقع الحالي
وفق المؤسّسة العامّة لتشجيع الاستثمارات في لبنان "إيدال"، يمتلك لبنان حالياً أعلى نسبة من الأراضي الزراعيّة في الشرق الأوسط قياساً إلى مساحته. لكن، بحسب دراسة لمنظّمة الأغذية العالميّة "فاو"، سيفقد لبنان بحلول عام 2060 غالبيّة أراضيه الزراعيّة التي ستتحوّل إلى مناطق صحراويّة جافّة، إذا لم يعمل فوراً على مواجهة هذه التغيّرات، وذلك من خلال تبنّي سياسات صارمة صديقة للبيئة.
يبدو هذا التقدير متفائلاً أمام ما توضحه البيانات الحديثة والتي تبعث أكثر على القلق والتشاؤم. منظمة "الفاو" نفسها أشارت إلى أن إنتاج الحبوب الأساسية، مثل القمح والشعير والذرة، انخفض بنسبة 38.4% خلال عام 2024.
بدورها، أشارت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني التابعة لوزارة الطاقة في تقرير صدر في مارس/آذار الماضي إلى أن لبنان يعاني هذا العام من أسوأ أزمة جفاف منذ أكثر من 65 عاماً، وسط تخوفات من تداعيات سلبية تنعكس على القطاعات الحيوية، وأبرزها الزراعة والصحة والغذاء والطاقة.
وفق التقرير السنوي لعام 2025 الصادر عن المصلحة، فإن العجز المائي في البلاد يتفاقم سنوياً بسبب غياب مشاريع تطوير الموارد والمحافظة على النوعية. ووفقاً للتقرير، فإن سوء إدارة الموارد المائية والتلوث يقلصان الكمية القابلة للاستخدام إلى أقل من ربع المتاح.
وفي مشهد يعكس عمق الأزمة، انخفض مستوى مياه أكبر بحيرة في لبنان (بحيرة القرعون) والتي تتغذى من نهر الليطاني إلى أدنى مستوى لها منذ إنشاء سد القرعون عام 1959، وتظهر المشاهد تراجع مخزون المياه في البحيرة إلى مستويات غير مسبوقة.
مقارنة الأرقام كاف للدلالة على عمق الأزمة، ففي حين يتراوح المعدل العام لكمية المياه الوافدة من نهر الليطاني إلى بحيرة القرعون ما بين 320 إلى 350 مليون متر مكعب في السنوات المطرية الغزيرة، تراجعت هذه النسبة من 183 مليون متر مكعب في تموز/يوليو 2024 إلى 63 مليون متر مكعب في تموز/يوليو 2025 وفق مصلحة الليطاني، في حين سجل الحد الأدنى سابقاً 63 مليون متر مكعب.
وتلحظ إحدى الدراسات العلمية التي نُشِرت عام 2021، وجود انخفاض حاد في تدفق 12 نهراً بنسبة تجاوزت 23% مقارنة بعام 2015، كما تلحظ جفاف بعض الأنهار لأكثر من 9 أشهر في السنة، واختفاء 60٪ من الينابيع، وذلك لأسباب تعزوها الدراسة بشكل أساسي إلى التغيرات المناخية.
وفي حين توقعت الدراسة أن يتعرض لبنان لنقص شديد في المياه بدءاً من العقد المقبل، فإن مجموعة تقارير علمية تقاطعت على وجود نسب هدر في شبكات توزيع المياه وصلت إلى 50% في بيروت، وإلى 65% في القرى الأبعد، فيما يستقر المعدّل العالمي المقبول عند نسبة 4 %.