الانتقال من "النظام  التحالفي" إلى "النظام التأسيسي"

لقد جاء الرئيس المُنتهية ولايته عبد العزيز بوتفليقة على صهوة نموذج سياسي توافقي منذ اعتلائه سدّة السلطة في الجزائر سنة 1999 إلى ساعة رسالته الأخيرة، ولقد كان النموذج الممكن ضمن الحشاشات والتشتّت الذي تلا "الانقلاب على الجبهات الثلاث" جاء توافقياً وما لبث أن أضحى يحكم "بنظام  تحالفي"لسلسة من الأحزاب الكبيرة والصغيرة وبعض الحزبيات المجهرية.

المخاطر  وفكرة الفلول؟

جاء بوتفليقة على صهوة نموذج سياسي توافقي منذ اعتلائه سدّة السلطة في الجزائر سنة 1999

ربما ما يهمّني  هو "التحالف الرباعي  الرئاسي "الذي بزغ واستمر مسانداً منذ "العهدة الرابعة" وإن كان قبلها لم يكن واضحاً تماماً، ولتعريفه فقد كان تحالفاً رباعياً رئاسياً بامتياز  قائماً على موزاييك سياسي اختلط فيه الإسلامي مع الديمقراطي مع العلماني مع الحزب الوطني "جبهة التحرير الوطني"، وفي الحقيقة لقد كانت تركيبة مهمة للحكم في الجزائر لو أنها وسّعت في سياقات أخرى من دون إقصاء.

تحالف شكّل ما يسمّى  في الجزائر بـ "المولاة" رفقة خمسة عشر من الأحزاب الأخرى التي تعرف ب، "مجموعة 15" وقد  رتّبت هذه الموالاة على المضي  في الحكم  في ما كان يسمّى "العهدة الخامسة"، وأن كل شيء انتهى صبيحة 22 شباط/ فبراير  على صراخ الشوارع بما حملته الحناجر "لا للعهدة الخامسة"  قبل أن يتدخل "الفلول" لإعلاء  "فكرة إسقاط النظام".

والجدير ذكره أن جميع هذه التطوّرات كانت خلف ما يسمّى المعارضة في الجزائر، والتي عندما كان المتظاهرون يملأون الشوارع والمدن كانت في اجتماعات ماراتونية لم تسفر عن شيء، بل ملفات الإرتآس التي وضعت للمجلس الدستوري كانت ستشمل أسماء كبيرة من المعارضة لولا صراخ المتظاهرين الذي اشتد وفصل الأوضاع بأن الجزائر ذاهبة إلى تأسيس نظام سياسي جديد، لا الموالاة ولا المعارضة ستملأ جوانبه، بل إن طرفاً آخراً بدأ يرسل رسائله السياسية ولم يكشف عن وجهه بعد؟ وهم المتظاهرون السلميون الجزائريون الذينبدأ يلتف حولهم بعض الأسماء ممَن يمكن تسميتهم بـ "الفلول".

مقدّمات الخروج على النظام ؟

كان ذلك  زمناً سياسياً وانقضى قبل 22 شباط/ فبراير تميّز رأساً بحملات "المعارضة  النرجسية" ضد "الموالاة الصمّاء"، كما شكّل نشطاء ما يسمّى الربيع العربي الآفل جزائرياً هجمات عبر التواصل الاجتماعي كانت شرسة مسّت شؤوناً ليست تماماً بظلال سياسية، بل كانت ضربات على الجذر السياسي رأساً، وطعناً في جدارة الرئيس بعد مرضه، وكفاءة الحكومة   باستعمالهم للصورة السيّئة جداً لرئيسها "أحمد أويحيى" بين الجزائريين، كما شكّل البقاء الطويل عشرين عاماً لأسماء من قبيل "عمار غول" و"عمارة بن يونس" الذي لم تُنس له جرأته في إطلاق جملته النابية تلك، كل هذه المعطيات مهّدت للخروج الكبير الذي تجاوز المعارضة والموالاة ووضع الرئاسة في  وضع لا تحسد عليه؟

كما يجب الحديث عن فضائل ما بثّه الزمن البوتفليقي عبر عهداته، والذي فتح المجال التعبيري السياسي ولو كان محدوداً، ورخّص للتظاهرات في حدود معينة خارج العاصمة طبعاً، والأهم أنه صفّى الرؤية الوطنية من الذين كانوا سيلعبون خلف الستائر من العصب واللوبيات، الأمر الذي أظهر الاستيقاظ الشعبي أو ما يسمّى بالحراك واضح الوجه واليد واللسان.

فيما يأتي الفساد الذي صاحَب الطفرة المالية محرّكاً مريعاً للفقراء والناقمين، فقد غدا الفساد المبرِّر الوحيد حين تضيق الوسيلة السياسية في مجابهة الزمن البوتفليقي، والفساد بدأ يظهر أنيابه بعد العهدة الثانية والتي ارتبطت ببداية مرض الرئيس، قد تكون هذه باختصار مجموع الدوافع التي جعلت الجزائريين يخرجون في تظاهرات شهد لها العالم وأضحت فخراً وطنياً للشباب والنشطاء والمعارضة والموالاة، بل أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أبدى اعتزازه بالخروج الجزائري السلمي الرائع.

"النظام التأسيسي" والفلول المُتربّصون؟

لقد انقضى الزمن القديم  وربما ما تلا  22 شباط/ فبراير  هو زمن جديد من أجل جزائر جديدة، زمن ليس للجمهورية الثانية أو الثالثة أو تلك الأسماء السياسية الرنّانة الغامضة، بل  زمن للتأسيس لعلاقات سياسية بين الحكومة والشعب، وإرساء حدود قانونية والاتفاق على دستور جديد لا يجرأ على الاقتراب منه  صوناً للأجيال القادمة وحرية الإعلام واستقلالية القضاء. وفي الخضم تتصاعد فكرة "المجلس التأسيسي" وأن الندوة التي دعت إليها الرئاسة يجب أن تكون بمهام تأسيسية الأمر الذي يفتح الأبواب على هذه المقاسات أمام الآراء والأفكار المتباينة والمتناقضة في أحايين كثيرة، لأن الندوة التأسيسية ستكون من دون شروط مسبقة، وأن جميع الأطياف السياسية ستقدّم وجهات نظرها للبناء الجديد، وهذا قد يفتح في هذه المرحلة الحرجة احتمالات للمخاطر العُظمى على الكيان الوطني نفسه، لأن الدولة التي مضت منذ زمن طويل في اختيارات محدّدة استطاعت أن تطوى بعض الملفات التي يُستعصى حلّها، فإذا أعيد فتحها ستفتح معها القلائل والفتن بما لا يخدم المستقبل، بل يجب الانطلاق من أوراق محدّدة أصلية عن الإصلاحات السياسية في العدالة والتمثيلية النيابية وضمان الاقتراع العام، وحرية الإعلام واستقلال القضاء ووضع القوانين والهيئات الحقيقية لــ "محاربة الفساد"، ضمن الممكن جزائرياً أيضاً؟  لأن ملف الفساد في ذاته ملف ملغم بالكثير من المحاذير، وربما "فكرة العفو المالي" المُقنّن وفق اشتراطات محدّدة سيُساعد  في الخروج من هذا الملف الملغم بأقل الأضرار على ضوء  تجارب مماثلة. ثم إن ما يشغلني كثيراً  هذه الأيام، هو تلك الوجوه القديمة التي قفزت إلى الشاشات والحوارات لإبداء الرأي والتحليل في جدارة ما حدث، وبالتالي فهي وجوه في محاولات للتمركز على مفاصل المستقبل القريب، هذه الوجوه لم أجد لها تعريفاً يفيها سوى مصطلح "الفلول"، وقد تناوله نشطاء على التواصل الاجتماعي، و أنه المصطلح المعرف الشافي الكافي، فهم جميعاً وجوه من بقايا العقد التسعيني، وكان هذا ميزة مشتركة بينهم، فمنهم من كان برلمانياً ومنهم من كان في المجلس الانتقالي، ومنهم من كان رئيساً للحزب منذ 25 عاماً، ومنهم الوزير والإطار الوزاري السامي ، وكلهم مارسوا أو وافقوا أو مرّروا ما أساء لمَن خرجوا يوم  22 شباط/ فبراير العظيم. وعلى هذه المقاسات، وبهذه الصفات فالفلول متورّطون في المأساة الجزائرية منذ الماضي القريب تماماً كرئيس الحكومة المُقال ووجوه الموالاة الأربعة، فلا مكان لهم في بناء الغد الجديد على ما أعتقده؟ ولا مكان لهم في الصفوف الأولى التي تبقى حكراً على الشباب الصاعد الصافي  السريرة من الأحقاد والضغائن والحسابات الضيّقة.