السبسي .. العلاقة بأزمات المنطقة

وحتى في ما يخصّ المقاومة الإسلامية اللبنانية - حزب الله- حين تم تصنيفها على أنّها "منظمة إرهابية"، فقد صرَّح الراحِل بعد أن شُنَّت حربٌ إعلامية ضخمة ضد الحزب آنذاك، بأنّه يعرف الحزب على أنّه حركة مقاومة ضدّ العدو الصهيوني وأنّ قتاله في سوريا أمر لا يعنيه.

الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي (رويترز)

رَحَلَ رجلُ السياسة المُحنَّك ورجل الدبلوماسية التونسية الأقوى وأحد أعمدة التاريخ التونسي وخاصة منذ الاستقلال وإعلان قيام الجمهورية، محمَّد الباجي قايد السبسي الذي عرَفَه العالم بأسرهِ بذكائه السياسي ودرايته بخبايا وأسرار غُرَف السياسة العربية والدولية، وانجلى هذا كله في دقَّة تصرّفاته وقراراته في علاقته بأزمات المنطقة التي أصبح فيها رئيساً في وقتٍ عصيبٍ جداً على تونس بحدّ ذاتها وعلى باقي الدول.

ففي علاقته بالجارَة ليبيا المُشتعِل ميدانها منذ 8 سنوات، فقد تمتَّع بالذكاء السياسي الكبير، فدَعم الإستقرار ودعا إلى الحوار وأكدَّ على استقلال ليبيا ووحدة أراضيها والحفاظ على سيادتها، وجَعَلَ أرض تونس مكاناً لرعاية الحوار وصَنَعَ علاقة طيّبة مع طرفيّ النزاع في ليبيا من دون تفضيل طرفٍ على الآخر. ومن أهمّ مُميِّزات سياساته مع ليبيا أنه لم يفكِّر يوماً أبداً بأن يدخل في أتون الحرب المُستعِرة هناك أو يقذف بأبناء بلاده الذين اعتبرهم طيلة فترة حُكمه كرئيسٍ "أولاده" في خِضَّم حربٍ لا تُبقي ولا تَذَر ونتيجتها خاسِرة تماماً. كما أنّه تمتَّع بحِنكةٍ سياسيةٍ كبيرةٍ حيث دعا المُتصارعين في ليبيا إلى الحوار ورَفْض كل أنواع وأشكال الصِراعات ودعا إلى حقن الدماء ورصِّ الصفوف.

أمّا في علاقته بما يجري في سوريا، فصحيح أنّ الرئيس الراحِل (رَحِمَه الله) لم يوفِ بكامل وعوده الإنتخابية في ما يخصّ عودة العلاقات مع سوريا، إلاّ أنّه كان أفضل بكثير من الرئيس المؤقّت الذي سبقه، حيث أنّ الفقيد السبسي دعا دوماً طرف الحكومة السورية في دمشق والطرف الآخر إلى الحوار، وأيَّد وَقْف كل أشكال العُنف في سوريا وأكّد على وقوفه إلى جانب استقلال سوريا وأمنها والحفاظ على سيادتها وطهارة ترابها، والتأكيد على قَطْعِ دابِر الإرهاب واجتثاثه، ودعا إلى عدم زيادة توتير الوضع فيها ورفض تماماً الدعوات لما يُعرَف بـ "الجهاد" في سوريا. كما وجَّه بمُلاحقة كافة الإرهابيين إما الخارجين من تونس والمتوجّهين إلى سوريا للقتال أو أيضاً للقبض على العائدين من سوريا لارتكابهم جرائم في تونس. إلاّ أنّ الضغوط الكُبرى على تونس وهي بلد شهد ثورة وكل قرار مُتَّخذ فيها تكون له تداعيات كبرى حول العالم ، فقد حال هذا الأمر نتيجة الضغط إلى عدم تنفيذه الوعد بإعادة العلاقة الدبلوماسية رسمياً مع دمشق، إلاّ أنّه تمّ الحديث في بعض وسائل الإعلام أنّ التنسيق الأمني موجود بين تونس ودمشق.

وعن الأزمة اليمنية ، فقد كان الموقف مُرجَّحاً أكثر على مستوى التصريحات إلى دعم حرب التحالف السعودي-الإماراتي على اليمن، إلاّ أنّ ما صَدَمَ الكثيرين أنّه رغم العلاقة الوطيدة بين السبسي ودول الخليج، إلاّ أنّ تونس لم تُرسل مقاتلين أو جنوداً إلى اليمن ولو على مستوى مُستشارين فقط كما فعلت غيرها من الدول ، وأنّ الفقيد السبسي لم يفرض على الإعلام التونسي تأييد طرف على طرف. وحتى في أزمة الصحافي خاشقجي, صحيح أنّ السبسي تصرَّف بخطأ باستقبال وليّ العهد، إلاّ انّه أعطى للإعلام التونسي الحق في التعبير عن رأيه في القضية ولم يفرض على الإعلام أيّ أمر، كما أنّه لم يواجِه التظاهرات ضد السعودية في قضية خاشقجي بل ترك الجماهير الشعبية تُعبِّر عن رأيها بكل شفافية.

وحتى في ما يخصّ المقاومة الإسلامية اللبنانية - حزب الله- حين تم تصنيفها على أنّها "منظمة إرهابية"، فقد صرَّح الراحِل بعد أن شُنَّت حربٌ إعلامية ضخمة ضد الحزب آنذاك، بأنّه يعرف الحزب على أنّه حركة مقاومة ضدّ العدو الصهيوني وأنّ قتاله في سوريا أمر لا يعنيه. حيث عبَّر سماحة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله عن امتنانه لموقف رئيس الجمهورية التونسية وشكره على هذا الموقف في أحد خطاباته.

لذلك سيكتُب التاريخ لهذا الرجل أنّه تمكَّن بذكائه وخبرته السياسية ودرايته بخبايا العلاقات الدبلوماسية، أنّ يُحافظ على علاقته بجميع الأطراف وعدم الرضوخ لأيّة ضغوطات أو إملاءات رغم ما تمرّ به تونس من أزماتٍ إقتصاديةٍ وإجتماعيةٍ، ويُجنِّب تونس التي أحبَّها وخدَمها كما قال منذ نعومة أظافره الدخول في أتون صِراعات لا رُبْحَ فيها وستتكبَّد فيها تونس خسائر كُبرى كما فعل الرئيس المؤقّت الذي حَكَم قرطاج قبله.