أزمة النزعة الإمبراطورية الأميركية

يؤمن بأن الأمة الأميركية تحتاج إلى ترتيب بيتها من الداخل بدلاً من الهوس بخطر الاتحاد السوفياتي، وإظهار القدرة على رعاية "علاقة سليمة حقيقية بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان ونفسه".

  • يتساءل نقّاد السياسات عن الحكمة وراء محاولة إعادة تشكيل العالم على صورة تريدها أميركا.
    يتساءل نقّاد السياسات عن الحكمة وراء محاولة إعادة تشكيل العالم على صورة تريدها أميركا.

تواتر الحديث في العقدين الأخيرين عن سيادة العدمية الإمبريالية التي يعبر عنها أميركياً بالهوس المزمن بالحروب الأبدية، ولقيت هذه المسألة اهتماماً لدى نخبة أميركية تخشى عواقب هذا النزعة الإمبراطورية الإمبريالية. 

يرى مفكرون أميركيون علة التجربة الأميركية في المشروع الإمبراطوري (الإمبريالي) الكامن داخلها، ويمثل نقيض مشروع جمهورية لكل مواطنيها، تمارس نفوذها في العالم عبر (الحلم الأميركي) و(المثال الديمقراطي) و(قيم الحرية) و(تقرير المصير) والقوة الناعمة. 

حملت الجذور الأولى للمشروع الأميركي ملامح المشروع الإمبراطوري الإمبريالي التوسعي التدخلي، فالدستور الأميركي يعطي الرئيس صلاحيات تنفيذية شبه إمبراطورية، والإرث الاستيطاني الضارب بجذوره في التجربة الأميركية مستلهماً مزاعم الوعد الإلهي وأرض الميعاد في العهد القديم يكرس الطبيعة الاستيطانية التوسعية للمشروع الأميركي. 

أحزان إمبراطورية

وتفاقم النزعة التدخلية الأميركية فكرة الاستثناء الأميركي في الوجدان الأميركي البروتستانتي (الأبيض)، وتقول باستثنائية أميركا والثورة الأميركية، وإنها الثورة الحقيقية الشرعية الوحيدة وما غيرها فوضى، وإن قيام الولايات المتحدة مرتبط بدور هام موكل إليها في الأجندة الإلهية، وفي مصير البشرية. 

على هذه الخلفية، قام أكثر من مشروع فكري لدراسة ومتابعة وتقييم المشروع الإمبراطوري الأميركي منذ نهاية القرن الماضي، وبرزت أعمال لعدد من المفكرين الأميركيين، من بينها كتاب السياسي المحافظ باتريك بيوكانَن: "جمهورية لا إمبراطورية"، وكذلك مؤلفات المفكر والأكاديمي الراحل تشالمرز جونسن (1931-2010)، وهو الأبرز، والذي أسس مع آخرين مشروعاً بحثياً بعنوان: "مشروع الإمبراطورية الأميركية"، وتشمل مؤلفاته: "النكسة: تكاليف وعواقب الإمبراطورية الأميركية"، و"أحزان إمبراطورية: النزعة العسكرية، والسرية، ونهاية الجمهورية"، و"أيام الجمهورية الأميركية الأخيرة". 

وشارك كذلك في تأسيس هذا المشروع المفكر توم إنغلهارت، وهو يُصدر بانتظام نشرة فكرية بعنوان Tom Dispatch، ونُشر له كتابان: "نهاية ثقافة النصر: أميركا في الحرب الباردة وخيبة أمل جيل"، و"الطريقة الأميركية في الحرب: كيف أصبحت حروب بوش حروباً لأوباما؟"، ويشمل أقرانه المفكرين المعارضين للنزعة الإمبراطورية الإمبريالية: آدم هوتششايلد، ريبكّا سولنِت، خوان كول، وأخيراً وليس آخراً أندرو باسيفيتش، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن، والكولونيل السابق في الجيش الأميركي، ومؤلف كتابي: "النزعة العسكرية الأميركية الجديدة" و"قواعد واشنطن: مسار أميركا إلى الحرب الدائمة".

إجمالاً، يتفاوت المفكرون المناهضون للمشروع الإمبراطوري أيديولوجياً بين محافظين وليبراليين ويساريين، لكنهم غير متصهينين، ولا قبول لهم بالأوساط الصهيونية، وخصوصاً اللوبي الإسرائيلي والمجمع الصناعي العسكري وأنصارهما في الكونغرس والبيت الأبيض.

إجماع واشنطن

يقول باسيفيتش إن العالم أصبح أصغر من أي وقت مضى، وأكثر تعقيداً وخطورة. لذلك، يصبح ضرورياً للدولة (الأميركية) أن تكثف الجهود المبذولة لـ"الحفاظ على أمن أميركا"، وفي الوقت نفسه دفع قضية السلام في العالم. يتطلب تحقيق هذه الأهداف توجيه الولايات المتحدة مزيداً من الأموال لتطوير وسائل قوة جديدة، لتكون متأهبة لحملات جديدة تعتبر ضرورية لإحلال السلام (أو لتحرير) أصقاع مضطربة في العالم.

على أحد المستويات، يمكن ببعض الصعوبة حساب تكلفة هذه الجهود. أحد المقاييس هو مئات مليارات الدولارات التي تضاف سنوياً إلى الدَيْن القومي، والعدد المتزايد من الجنود الأميركيين القتلى والجرحى.

على مستوى أعمق، نجد أن تكاليف الخضوع لإجماع سياسات واشنطن تتحدى القياس! فهناك عائلات مزقها فقدان أفرادها، وجنود يحملون ندوباً جسدية أو نفسية، واستمرار بيروقراطية ثقيلة الوطء تقتات على جو السرية والمواراة والخداع الصريح، وتشويه الأولويات القومية (يمتص المجمع الصناعي العسكري الموارد القومية)، والتدمير البيئي الذي يأتي نتاجاً للحرب والاستعداد لها، وسلب الثقافة المدنية عندما تتحمل مجموعة صغيرة من الجنود أعباء شن الحروب الدائمة، فيما تدعي غالبية المواطنين تبجيل أفراد هذه المجموعة، حتى لو كانوا يتجاهلونها أو ينتفعون بخدمتها.

لا شك في أن التبرير الذي يمكن تقديمه هنا، وهو على الأرجح ما سيكون بالفعل، يقول إن واجبات قيادة الولايات المتحدة عالمياً تتطلب منها أن تتولى بنفسها معالجة مشكلات باكستان واليمن والصومال، بقدر ما كان عليها التصدي لمشكلات أفغانستان والعراق.

تقويض الجمهورية

تشير أدلة قليلة إلى احتمال أن لهذه الجهود تأثيراً إيجابياً، ولكن لا يوجد دليل مطلق يشير إلى أن جهود الولايات المتحدة تعزز السلام العالمي. أما إن كان هدف واشنطن الحقيقي -وهو المرجّح- شيئاً أقرب إلى السيطرة أو الهيمنة، فسنجد أدلة وفيرة تظهر أن المشروع يُعد مشروع هزيمة ذاتية.

يتساءل نقّاد السياسات الأميركية عن الحكمة والجدوى وراء محاولة إعادة تشكيل العالم قسراً على صورة تريدها أميركا، فهم يعتقدون أن مجرد المحاولة هو سعي للفساد في أحد أشكال الإمبريالية والنزوع نحو العسكرة، ما يقوض المؤسسات الجمهورية الأميركية. وليس هذا في رأي حزب واحد، بل وجهات نظر متعددة تتبنى هذا الرأي، وتصر على أنه إذا ما كان للولايات المتحدة مهمة ما، فمهمتها أن تكون نموذجاً للحرية لا أن تفرض هذا النموذج. 

من هؤلاء المعارضين: جورج كينان الدبلوماسي الشهير الذي تحول لاحقاً إلى مؤرخ، وهو محافظ ثقافياً، وصاغ مبكراً استراتيجية احتواء الاتحاد السوفياتي عندما كان سفيراً في موسكو، والسيناتور وليم فولبرايت، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وهو ليبرالي عالمي التوجه ومؤلف الكتاب الشهير "غطرسة القوة"، والناقد الاجتماعي المؤثر كريستوفر لاش، وهو يقدم نفسه كمفكر راديكالي، ورابعهم زعيم حركة الحقوق المدنية، القِس مارتن لوثر كنغ، الشخصية الأخلاقية الأكثر تأثيراً في القرن الأميركي.

إمبراطورية العالم الجديدة

كتب كينان إلى أحد معارفه أثناء الحرب الكورية أن الأميركيين كانوا يعرضون حديقتهم للأذى لفترة طويلة جداً. وكان قد كتب: "يبدو لي أن بلدنا تشوهه عيوب كثيرة -وبعضها خطير جداً- ونحن مدركون لوجودها على مستوى شامل، لكننا نفتقد التصميم وقوة المجتمع المدني اللازمين لتصحيحها". وهنا يكمن الخطر الحقيقي. 

وأضاف: "ما يجب أن يكون على المحك هنا هو واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه مُثلِنا القومية". في إحدى محاضراته، عاد كينان إلى هذا الموضوع، وقال إن المراقبين من الخارج يرون أميركا على أنها لا هدف فيها اجتماعياً مرئياً أعلى من الإثراء الذاتي للفرد، ويحدث هذا الإثراء الذاتي بالمقام الأول في سلع مادية وأدوات تثار الشكوك حول فائدتها في تحقيق رضا أعمق في الحياة، وهذه رؤية تفشل في بثّ الثقة أو الحماسة.

كان كينان يؤمن بأن الأمة الأميركية تحتاج إلى ترتيب بيتها من الداخل بدلاً من الهوس بخطر الاتحاد السوفياتي، وإظهار القدرة على رعاية "علاقة سليمة حقيقية بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان ونفسه". ويمكن للأميركيين "عندها، وللمرة الأولى، أن يكون لديهم ما يقولونه للناس في أي مكان آخر"، وربما يصيرون أيضاً "مصدر إلهام للآخرين".

بعد عقد على مقولات كينان، وفي خضم حرب أخرى مثيرة للشكوك، انتقد السيناتور فولبرايت تداعيات الاعتقاد بأن رخاء ورفاه الولايات المتحدة نفسها يتطلب التدخل المستمر في شؤون الدول الأخرى، فكتب فولبرايت: "ليس من واجب ولا من حق الولايات المتحدة أن تصنف كل مشكلات العالم على أن حلها يحتاج لتطبيق قواعد واشنطن".. "تحدث أشياء كثيرة في أماكن كثيرة لا تخصنا أو لا تعنينا أو هي على أي حال خارج نطاق قوتنا أو مواردنا أو حكمتنا". لقد مضى وقت طويل جداً بالنسبة إلى الولايات المتحدة "لتكرّس نفسها لكي تفعل فقط الخير الذي يمكنها القيام به في العالم بالجهود المباشرة أو بقوة القدوة والمثال الذي تقدمه"، وأن تتخلى عن "فكرة التبشير المليئة بمزاعم كونها رجل الشرطة بين دول العالم".

وافقه على ذلك كريستوفر لاش الذي قضى عشرات السنين في تشريح الثقافة الأميركية بجرأة، قائلاً: "الوعد الحقيقي الذي تقدمه الحياة الأميركية نجده في الأمل في أن تكون الجمهورية التي تتمتع بالحكم الذاتي مصدراً لإلهام بقية العالم أخلاقياً وسياسياً، وليست مركزاً لإمبراطورية العالم الجديدة". للحديث بقية إن شاء الله.