أقاديشٌ رتَّلَ بيبي؟

هل يستجيب الربّ لصلوات تُتلى فوق رماد المدارس والمستشفيات ودور العبادة من كنائس ومساجد؟ كيف يمكن لقاتلٍ أن يطلب السلام، وهو من أشعل النيران في كل زاوية من غزّة؟

0:00
  • نتنياهو وفعل الإبادة في غزة.
    نتنياهو وفعل الإبادة في غزة.

وقف بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، وسط مراسم جنائزية، على قمّة الجبل المُسمّى "هرتسل"، واضعًا إكليلاً من الزهر فوق قبر شقيقه، يوني نتنياهو، الذي لقي مصرعه خلال قيادته وحدة "سيريت متكال" في عملية عنتيبي.

في حضرة كبار القادة والساسة، تلا هو وأفراد عائلته صلاة "قاديش" اليهودية، سائلين الغفران والرحمة، كأنّ السماء لا تعرف ما تصنعه أيديهم في الأرض.

أيُّ صلاة تلك التي ترتفع من فم رجلٍ خاض العشرات من حروب القتل والتهجير والتدمير لكل معالم الحياة في فلسطين ولبنان؟ كيف لابتهالٍ أن يُسمع، إذا تردَّد صداه من بين أنقاض البيوت المُهدّمة على رؤوس ساكنيها في غزة والضفة وجنوب لبنان وضاحية عاصمته بيروت؟ 

هل يستجيب الربّ لصلوات تُتلى فوق رماد المدارس والمستشفيات ودور العبادة من كنائس ومساجد؟ كيف يمكن لقاتلٍ أن يطلب السلام، وهو من أشعل النيران في كل زاوية من غزّة، وفي كل بيتٍ في جنين، وفي كل شارعٍ من نابلس، وفي كل زقاق من خان يونس؟

أراد نتنياهو لقبر أخيه أن يكون مَعلمًا للبطولة، لكن البطولة كانت – وما زالت – على الجانب الآخر، في وجه من قاوم وحدات الكوماندوز الاسرائيلي ، بأجساد المقاومين في "عنتيبي".

"عنتيبي"، أو كما أصرّت الرواية الصهيونية على تسميتها بـ"عملية تحرير الرهائن"، لم تكن بطولة كما زعمت آلة الدعاية العسكرية، بل كانت فصلًا من فصول التعتيم على الحقيقة. 

في السابع والعشرين من حزيران عام 1976، اختُطفت طائرة فرنسية كانت متجهة من تل أبيب إلى باريس، على متنها صهاينة وغربيون، في محاولة من الفدائيين الفلسطينيين وبالتعاون مع رفاقهم من "الخلايا الثورية" الألمانية، لإيصال صرخة الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال إلى مسامع العالم الغربي الصمّاء.

لم يكن الخطف هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة للضغط من أجل الإفراج عن العشرات من المعتقلين السياسيين، رجالًا ونساءً، يقبعون خلف القضبان بلا محاكمات في المعتقلات الاسرائيلية.

حُوّل مسار الطائرة إلى مطار عنتيبي في أوغندا، حيث تم فصل الركاب الإسرائيليين واحتجازهم، بينما أُطلق سراح غيرهم، تأكيدًا على أن الرسالة سياسية، لا عشوائية ولا انتقامية.

لكن "إسرائيل"، كعادتها، اختارت الدم على التفاوض. أرسلت قوة نخبة بقيادة يوني نتنياهو، ونفذت عملية عسكرية خاطفة انتهت باستشهاد جميع الخاطفين، وعدد من الجنود الأوغنديين، ومقتل رهينة فرنسية لاحقًا، أُعدمت انتقامًا. 

الرواية الإسرائيلية حوَّلت مقتل يوني إلى أسطورة قومية، ومُسحت تمامًا الخلفيات السياسية والإنسانية للفعل المقاوِم، وضُيّعت أسماء الأسرى ومطالبهم كما تُضيع الحقيقة في دخان المدافع.

"عَنتيبي" لم تُروَ قصتها في كُتُب الصهاينة، ولم تُتلَ في صلوات نتنياهو وسارة ويائير وأفنير. 

أما الجبل، فليس كما وسَموه. "جبل هرتسل" لم يكن دومًا بهذا الاسم. مقزز كيف أن الصهاينة يسرقون أسماء وأمكنة الجبال والسهول والأنهر. خطفوا العناوين الفلسطينية إلى سجلات رواياتهم.

"هرتسل" جبل فلسطيني، مسيحيّ الجذور، يعرفه الحجّاج الأوائل باسم "جبل القديسين"، حيث كانت تقام الصلوات منذ القرون الأولى للميلاد. بُنيت على سفحه كنائس بيزنطية، واحتضن في ترابه رهبانًا ونسّاكًا، ونُقشت على صخوره رموز دينية ما زال بعضها ظاهرًا حتى اليوم، رغم محاولات الطمس والتغيير. 

هذا الجبل كان شاهدًا على عبادة الله قبل أن يُنسب إلى مشروع استيطاني.

المؤرخون الحقيقيون يعرفون "هرتسل". ساعدتهم على المعرفة الحفريات القديمة التي كشفت عن قبور تعود لرهبان سريان ومسيحيين من الفلسطينيين الأوائل، ممن عاشوا حياة الزهد والصلاة، وارتبطت حياتهم وسِيَرُهم بطقوس أسبوع الآلام والصعود المقدّس.

نتنياهو حوّل مكانًا روحيًا مقدّسًا إلى مسرحٍ للاحتفاء بمجرم حرب. هكذا كان شقيقه، وهذا ما هو عليه من يصلّي عليه اليوم. صلاة محوَّرة من فم رجلٍ مزوَّر في أرضٍ يزوّرون تاريخها. تزوير وتَحويرٌ  لا يصمدان أمام ذاكرة الأرض.

في هذا المشهد، يلتقي الزيف بالتاريخ. أراد نتنياهو أن يُشيّد " قاديش" على مذبحة. نسي أن المجازر لا تُمحى بصلاة، وأن المجد لا يُصنَع من دخان المدافع.

يضع نتنياهو الزهر على قبر شقيقه بيد، فيما دماء الأبرياء تنهمرُ من يده الأخرى. كلتا يديه دماء. قصف المدارس. قصف الخيم. قصف المعابد. قصف الحياة. أهذا تأبينٌ أم تجاهلٌ متعمَّد لكل من سقط بفعل جيشٍ هو ربيب داعش؟

لنا أن نسأل، لا بمرارة، بل بدهشة إنسانية صافية: هل تُبارَك ذكرى يشارك فيها من يتحمل مسؤولية خنق الحياة في غزة؟ هل يسمع الله الصلاة، إذا خرجت من فمٍ لم يعرف غير إعطاء أوامر القتل؟

النسيان للأفراد. الشعوب لا تنسى. ومن حُفر اسمه فوق أجساد الأبرياء، لن يجد له مقامًا في ضمير الأرض. أما التراب، فإن سُرق على غفلة، فهو يحنّ لأصحابه كلّ حين.
البطولة، كل البطولة، هي لمن صمد... لا لمن قصف، ولأن الأرض تحفظ أسماء من ماتوا لأجلها، فإنها لا تفتح ذراعيها للغزاة، مهما أقاموا فوقها النُصُب والمزارات والصلوات.

تلك الحجارة التي حاولوا أن يصنعوا منها سردية بطولة، ترتجف كلما مرّت فوقها أقدام طفلٍ ناجٍ من المجازر، لأن الحقيقة أثقل من الرُكام، وأصدق من أفلام التوثيق.

لم تكن "عملية عنتيبي" إلا واحدة من محطات القهر، حيث أُريد للعالم أن يرى وجهًا واحدًا للحكاية، بينما وُئدت الروايات الأخرى في ليلٍ طويل. لكن الليل لا يدوم. وكل دعاء خرج من تحت الأنقاض سيجد صداه، يوماً، في عدالة لا تتبدّل، وإن طال انتظارها. لأن ما يُكتب بالدم لا يُمحى بالحبر.