أكثر من 200 يوم من النقاش حول "اليوم التالي": "إسرائيل" غارقة في الفشل

تحديد ملامح "اليوم التالي" لانتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بموقف وتوجهات مجموعة من الأطراف الفاعلة في مسار الحرب الإسرائيلية الحالية.

  • ستكون
    ستكون "إسرائيل" قريباً أمام واحد من سيناريوهين في التعاطي مع ملف قطاع غزة.

رغم مرور أكثر من 200 يوم على بدء عمليتها البرية في قطاع غزة، لم تتمكن "إسرائيل" إلى الآن، حكومة ومعارضة، من طرح رؤية عملية واضحة لما سيكون عليه "اليوم التالي" لانتهاء عدوانها المدمر على القطاع.

وهذا ليس فقط نتيجة لوجود تباينات سياسية بين رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو وبين مختلف الأحزاب السياسية، سواء المتحالفة معه أو المعارضة له، وإنما لأن العملية العسكرية البرية فشلت بشكل واضح-وباعتراف حلفاء الكيان الصهيوني-في تحقيق أهدافها المتمثلة في القضاء على حركة حماس والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين. فشل تسبب بإضعاف شديد لموقف "تل أبيب" وخياراتها في رسم ملامح "اليوم التالي".

والمتابع لتصريحات المسؤولين وما تنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية من تحليلات وتعليقات في هذا الإطار، يدرك أن "تل أبيب" وضعت نفسها في مأزق كبير، فهي إن فكرت في استمرار سيطرتها العسكرية على القطاع تكن قد دخلت في حرب استنزاف كبيرة تعي تماماً فاتورة الخسائر التي سوف تدفعها لاحقاً، وإن قررت الانسحاب من القطاع بحجة أن عملية الإبادة الجماعية التي نفذتها بحق سكان القطاع حققت أهدافها، تكن بذلك قد أقرت بشكل مباشر بهزيمتها العسكرية والسياسية في مواجهة حركة حماس وسائر الفصائل الفلسطينية.

الأطراف المؤثرة

تحديد ملامح "اليوم التالي" لانتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بموقف وتوجهات مجموعة من الأطراف الفاعلة في مسار الحرب الإسرائيلية الحالية، وتالياً فإن مقاربة السيناريوهات المتاحة لـ"اليوم التالي" لا بد أن تستند إلى عملية تحليل لتطورات مواقف تلك الأطراف والعوامل التي تحكم قراءتها لما يمكن أن يكون عليه ذلك "اليوم"...

أولاً- "إسرائيل": وتبدو هنا منقسمة جداً حيال هذا الملف، وهذا الانقسام لا يظهر فقط بين الأحزاب التي تتشكل منها حكومة نتنياهو وبين الأحزاب المعارضة لها، وإنما بين الأحزاب نفسها التي تتشكل منها حكومة نتنياهو أولاً، وبين بعض الشخصيات السياسية والعسكرية التي تنتمي إلى الحزب الواحد ثانياً.

ولذلك، فإنه قد يبدو صعباً -إذا لم يكن مستحيلاً -أن تتفق "إسرائيل" على رؤية واحدة لليوم التالي لوقف الحرب. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يدفع بخيار السيطرة العسكرية للبقاء في السلطة أو في مأمن من المساءلة السياسية والقضائية حيال مسؤولية حكومته عن وقوع عملية "طوفان الأقصى"، والأهم أنه لا يكترث في أي سيناريو لحياة جنوده بدليل إصراره طيلة ما يزيد على 220 يوماً من الحرب، على إفشال أي مساعٍ لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. أما الأحزاب اليمينية فهي تدعم خيار السيطرة العسكرية وإعادة المستوطنات إلى قطاع غزة انطلاقاً من موقفها الرافض لحقوق الشعب الفلسطيني ودعوتها المستمرة إلى التطهير العرقي والإبادة الجماعية، ومن دون أن تلقي بالاً أيضاً لحجم الخسائر التي سوف يتكبدها المجتمع الإسرائيلي من جراء السير في مثل هذا الخيار.

وقليلة جداً هي الأصوات التي تدعو إلى الانسحاب من قطاع غزة والدخول في تسوية سياسية، وغالباً ما تصدر مثل هذه الأصوات عن عائلات الأسرى الموجودين في قطاع غزة والمهددين بالموت من جراء استمرار القصف الإسرائيلي العنيف على الأحياء السكنية، وكذلك عن الأحزاب السياسية الداعمة للسلام مع الفلسطينيين، وعن بعض الشخصيات العسكرية المتقاعدة، والتي باتت اليوم أكثر تحرراً وجرأة في قراءاتها وتحليلاتها المستندة إلى خبرة طويلة في العمل العسكري والاستخباري.

 ثانياً- فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية وتبدو في هذه الحرب أكثر تماسكاً وتنسيقاً في مواجهتها للعدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع، وفي مفاوضاتها مع الكيان الصهيوني التي تجري عبر وسطاء عرب وغربيين، وفي موقفها الرافض لأي سيناريوهات تعدّ لليوم التالي لانتهاء الحرب، وتحاول النيل من حقوق الشعب الفلسطيني وتقزيم مطالبه المحقة والعادلة.

وأهمية الموقف الموحد لفصائل المقاومة تتمثل في الدعم الشعبي الواسع الذي تتلقاه، وفي اتفاقها جميعاً على مقاومة أي محاولة إسرائيلية للسيطرة العسكرية والمدنية على القطاع بأي شكل كان، الأمر الذي يعني أن "تل أبيب" ستكون مجبرة بعد فترة زمنية قلّت أو كثرت على اتخاذ قرار الانسحاب من طرف واحد، كما فعلت من جنوب لبنان في العام 2000، ومن القطاع نفسه في العام 2005. وكما فعلت حليفتها الأقوى عالمياً من العراق، أفغانستان، الصومال، لبنان، فيتنام، وغيرها من الدول التي حاولت احتلالها والتدخل في شؤونها الداخلية.

ثالثاً- الإدارة الأميركية: رغم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي المعلن وغير المحدد الذي تقدمه إدارة بايدن لـ"إسرائيل" في حربها المدمرة على القطاع بحجج مختلفة، فإن واشنطن ترفض تصورات اليوم التالي التي تعدّها حكومة نتنياهو أو تلك التي تطالب الأحزاب السياسية اليمنية المتشددة بتطبيقها، فهي تدرك أن إعادة احتلال القطاع من شأنها أن تدفع المنطقة نحو مزيد من التوتر وعدم الاستقرار والإضرار المباشر بالمصالح الأميركية، هذا إلى جانب الموقف الشعبي المناصر للقضية الفلسطينية داخل الولايات المتحدة، والذي سيكون مرشحاً لمزيد من التوسع والتفاعل من جراء تجاهل الإدارة الأميركية لمطالبه أو العمل على نقيضها.

وواشنطن هنا تفضل سيناريوهات بغطاء عربي في محاولة لإضفاء الشرعية على ما تعدّه لقطاع غزة، فكانت طروحاتها متركزة على إرسال قوات عربية تارة، أو إصلاح السلطة الفلسطينية وتسليمها إدارة القطاع مع تعهد بعض الدول العربية بإعادة إعمار القطاع تارة أخرى، لكن جميع تلك الطروحات تواجهها صعوبات عديدة تجعلها غير قابلة للتحقق.

رابعاً- الدول العربية وهذه يمكن أن تقسم إلى قسمين: الدول التي ترفض أي شكل من أشكال الاعتراف أو التطبيع مع الكيان الصهيوني وتصر على استعادة الفلسطينيين حقوقهم المشروعة كاملة وفقاً لما أقرته القوانين والقرارات الدولية، وتالياً فإن هذه الدول ترفض المشاركة أو مجرد الموافقة على أي سيناريوهات تفصل على المقاس الإسرائيلي.

أما القسم الثاني فهو يضم الدول العربية التي تربطها علاقات مباشرة أو غير مباشرة بـ"إسرائيل"، بيد أن تخوّف هذه الدول من حالة الاحتقان الشعبي التي تجتاح المنطقة وردة الفعل المتوقعة يجعلها تبعد نفسها عن أي مشاريع إسرائيلية تحضر لقطاع غزة. وهذا ما عبّرت عنه تصريحات بعض المسؤولين العرب الذين نفوا ما جرى تسريبه عن مشاركة قوات عربية لحفظ الأمن في القطاع أو دخول بعض الدول في عملية إعادة إعمار برعاية إسرائيلية-أميركية.

خامساً- الموقف الشعبي العالمي الآخذ، وعلى خلاف ما كان يعتقده بعض الساسة الغربيين من أنه ليس أكثر من حالة مؤقتة فرضتها الصور والأخبار المروعة الواردة من قطاع غزة، في التوسع والانتشار، لا سيما بعد الحراك الطلابي الذي شهدتها كبريات الجامعات الأميركية والغربية، وعليه فإن محاولة "إسرائيل" فرض سيطرتها المدنية والعسكرية على القطاع بشكل أو بآخر في وقت يطالب العالم بإنهاء احتلالها للأراضي العربية المحتلة من شأنه أن يزيد من دائرة التضامن مع الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي من ناحية، ويضغط أكثر على الحكومات الغربية لوقف أشكال دعمها للكيان المحتل من ناحية أخرى. 

الأقل سوءاً للاحتلال

ستكون "إسرائيل" قريباً أمام واحد من سيناريوهين في التعاطي مع ملف قطاع غزة بعد انتهاء عدوانها:

- الأول: التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في تحديد مستقبل إدارة شؤون القطاع وأوضاعه الأمنية والاقتصادية. ومثل هذا السيناريو ستكون له تبعات كبيرة على الأمن الإسرائيلي.

فمثلاً سماح "إسرائيل" لقواتها العسكرية والأمنية القيام بأعمال اقتحامات في مدن القطاع كما تفعل في مدن الضفة الغربية يعني تحويل عناصرها وجنودها إلى أهداف مباشرة لعناصر المقاومة المدربين والمسلحين بشكل مختلف عن نظرائهم في الضفة الغربية، فضلاً عن عودة الصواريخ المحلية لدك المستوطنات بصورة أكثر كثافة من السابق، فليس هناك ما يخافه الفلسطينيون بعد كل هذا الدمار الذي لحق بمدنهم وقراهم في القطاع.

- الثاني: الانسحاب من قطاع غزة وفق مفاوضات غير مباشرة مع فصائل المقاومة والدخول في مرحلة تهدئة لفترة زمنية معينة، أمر إن تحقق فهو كفيل بإزالة كابوس مخيف يقلق جنود الاحتلال وقادتهم، لكنّ ذلك لن يضمن تهدئة طويلة الأمد ما دام حصار القطاع قائماً، وما دامت عملية استهداف المقاومين والاعتداء على المقدسات الدينية مستمرة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.