أميركا وأكلاف الكيان الصهيوني الباهظة

في ظل الحرب العدوانية الدائرة، تشهد أميركا والعالم صحوة كبيرة تناصر قضية فلسطين ورواية النكبة الفلسطينية وسقط شبه الإجماع الأميركي على دعم "إسرائيل".

  • أين
    أين "الجيش" المتفوّق الذي لا يقهر؟

بعد 9 أشهر من القتال، أسفرت عملية "طوفان الأقصى" والحرب العدوانية الإسرائيلية التي تلتها وتصدي المقاومة على الجبهات كافة بفاعلية، عن إحباط محاولة استعادة الردع الإسرائيلي، وإنهاك "جيش" الاحتلال واضطرابه وعجزه حتى عن الاستخدام العقلاني لذخائر وقنابل الدمار الأميركية الغبية والذكية، واستنفاد قوات الاحتياط، كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وعجز عن تجنيد قوات إضافية، وتراكم خسائر الاقتصاد وتأزم المالية العامة وهروب الاستثمارات الأجنبية ومئات آلاف المستوطنين إلى الخارج، ما يطرح سؤالاً جوهرياً:

أين "الجيش" المتفوّق الذي لا يقهر؟ أين الخطر الذي كان يشكله والتهديد الذي تُساق به دول عربية إلى الخضوع، ويُرغم به النظام العربي الرسمي على إعلان الهزيمة والاستسلام والتطبيع وتوقيع اتفاقيات "سلام"؟ وأين دور هذا الكيان الصهيوني في خدمة إمبريالية أميركا وهيمنتها بعد أن أصبح عبئاً ثقيلاً يحتاج إلى النصرة والدعم والتمويل على مدار الساعة، وباتت أكلافه الباهظة تفوق العائد من وجوده إن كان هناك عائد؟

منذ بدأ الانحطاط الاستراتيجي للكيان الصهيوني في حرب تموز 2006 وسقوط هيبته أمام شعوب الأمة ومقاومتها والعالم، وسقوط روايته وانكشاف أباطيله أمام مختلف الأجيال في عقر دار الغرب الإمبريالي، وفي ظل "طوفان الأقصى" وما تلاها، ازدادت أعباء استمرار الكيان على رعاته، أخلاقياً ودبلوماسياً ومالياً واستراتيجياً، وأصبحت تكلفة وجوده وحمايته تفوق فوائده حتى في المنظور الإمبريالي. 

ومن أقرب الأمثلة على ذلك، المواجهة العسكرية، نيابة عن "إسرائيل"، بين الأساطيل الأميركية والغربية وبين أنصار الله، التي قررت حظر مرور السفن التجارية المتجهة من موانئ الكيان المحتل وإليها في بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر وباب المندب، واستهدفت هذه السفن بالأسر أو بالقصف، نصرةً لشعب فلسطين في غزة، فتَشكل تحالف عسكري بحري بدعوى حماية حرية الملاحة بعنوان "عملية حارس الازدهار"، وقيل إنه يضم الولايات المتحدة وبريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا، وقد تبخر معظمه، وربما لم يبق منه سوى الولايات المتحدة وبريطانيا.

تكررت الاعتداءات والغارات الأميركية والبريطانية على اليمن، كما توالى الإنكار الغربي لعلاقة الاستهدافات البحرية اليمنية بالعدوان وحرب الإبادة في غزة، فتوسعت المواجهة، واستهدفت حركة أنصار الله سفناً تجارية وحربية أميركية وبريطانية وحاملة طائرات أميركية بالصواريخ الباليستية والطائرات والزوارق المسيرة، ناهيك باستهداف ميناءي إيلات (أم الرشراش) وحيفا بالقصف الجوي.

يقول مايك غلين في "واشنطن تايمز" مؤخراً: "أثبت الحوثيون أنهم معركة صعبة بينما يحاول الجيش الأميركي تأمين الممر المائي الحيوي، وتستمر الهجمات رغم جهود الحلفاء لإغلاق ترسانة المتمردين... لا يبدو الأمر معركة متكافئة: حركة متمردة في إحدى أفقر دول العالم تواجه أقوى قوة عسكرية في العالم وحلفاءها، عازمين على حماية ممر مائي بالغ الأهمية للتجارة العالمية. ومع ذلك، بعد أشهر من الاشتباك، لم يظهر الحوثيون في اليمن أي علامة على التراجع".

"شنت الحركة المدعومة من إيران ما يقرب من 200 هجوم ضد السفن العسكرية والتجارية التي تمر عبر البحر الأحمر منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023. وردت الولايات المتحدة وبريطانيا بضربات جوية انتقامية متعددة في عمق اليمن وأمضت أكثر من ستة أشهر في إسقاط أسراب من طائرات الحوثيين المسيرة وصواريخهم المتجهة نحو السفن التجارية في البحر". 

يضيف غلين "رغم التحالف البحري الأميركي والدولي الضخم الذي يصطف ضدهم، فإن الحوثيين يواصلون هجماتهم وينجحون في إحداث اضطراب كبير في أنماط الشحن البحري الدولي. شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها نحو 450 ضربة ضد مواقع الحوثيين على طول الساحل اليمني، بما في ذلك بعض الطلعات الجوية الأكثر كثافة في الأسابيع القليلة الماضية."

لقد نجم إذاً عن هذه المواجهة الأميركية الباهظة مع قوة عسكرية صغيرة إنهاك عسكري للبحرية الأميركية وفشل استراتيجي وحرج جيوسياسي وإحباط شديد للقوة العظمى الوحيدة في العالم وحلفائها ونظام الأحادية القطبية الدولي ومزاعم أميركا حماية حرية الملاحة العالمية! ذلك أن التهور الطائش والاندفاع الغاشم نحو صراعات عدمية ومواجهات بلا جدوى أو مبرر، وإنكار حقائق الواقع يجعل مصداقيتها على المحك، ويعرضها لخسائر وانتكاسات غير محسوبة!

هذه نتائج "الدعم الأميركي العدمي لإسرائيل"، بتعبير المؤرخ الفرنسي اليهودي إيمانويل تود، في حرب غزة وقبلها، وتظهر كيف تتجاوز تكاليف العلاقة الأميركية بهذا الكيان الاستيطاني العدواني، حدود عقل الدولة ومنطقها ومصالحها، إلى ارتباط عاطفي Passionate Attachment، والذي حذّر منه الرئيس الأميركي الرابع، وأحد الآباء المؤسسين، توماس جيفرسون. ويستدعي عقلاء في أميركا، كالسفير جورج بول، وكيل وزارة الخارجية الأسبق، تحذير جيفرسون في سياق انتقاد انحياز العلاقة الأميركية -الإسرائيلية واختلالها.

فما هي إذاً الغاية أو المصلحة القومية العليا المتحققة من زرع هذا الكيان في المشرق العربي ودعمه وتسليحه، إن لم يكن عدواناً وإثماً وقهراً وإفقاراً واحتواء للعرب والمسلمين، بلا مبرر أو تاريخ من عداء سابق ولا عائق أمام مصالح أميركا النفطية أو التجارية أو حتى الاستراتيجية، منذ بدأت علاقاتها بهذه المنطقة في ثلاثينيات القرن الماضي؟

في ظل الحرب العدوانية الدائرة، تشهد أميركا والعالم صحوة كبيرة تناصر قضية فلسطين ورواية النكبة الفلسطينية وسقط شبه الإجماع الأميركي على دعم "إسرائيل"، وأصبحت المعارضة الشعبية الأميركية لدعم الإدارة الأميركية للكيان الصهيوني قضية رأي عام واسع النطاق في عام انتخابي حرج، لأول مرة في تاريخ العلاقة الأميركية-الإسرائيلية، وسبباً مباشراً لإحراج الرئيس، جو بايدن، وانفضاض ناخبين أساسيين رجحوه في انتخابات 2020، وأوصلوه إلى سدة الحكم في البيت الأبيض.

فتراجعت حظوظ إعادة انتخابه، خاصة في ولايات متأرجحة فاز بايدن بأغلبية أصواتها في انتخابات 2020. وتشير أحدث استطلاعات الرأي العام إلى أن نسبة تأييد هذه الولايات للرئيس السابق دونالد ترامب تفوق بعدة نقاط مئوية نسبة تأييد بايدن حالياً. وفي ضوء أداء بايدن البائس في المناظرة الرئاسية الأولى بينه وبين ترامب، في 27 حزيران/يونيو 2024، تراجعت حظوظ إعادة انتخابه أكثر، وناشده أصدقاؤه قبل خصومه، أن يتنحى عن الترشح مجدداً، ويتقاعد نهائياً من العمل السياسي، ما يعني دخول الحزب الديمقراطي دوامة خطيرة في سنة انتخابية حرجة.

لن يمر زمن طويل قبل أن تبدأ مراكز البحث والتفكير في أميركا بطرح مسألة أكلاف استمرار دعم الكيان الصهيوني وتمويله وتسليحه والدخول في مواجهات خطيرة لأجل بقائه، طرحاً جاداً، خاصة مع تحوّل توازن القوى إقليمياً لصالح محور وحركات المقاومة ودولياً نحو عودة التعددية القطبية في النظام الدولي.

في الحقيقة، لقد بدأ ذلك الطرح بالفعل منذ 20 عاماً في مقال ثم كتاب بعنوان "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط"، بقلم اثنين من كبار علماء السياسة والعلاقات الدولية في أميركا: ستيفن والت (جامعة هارفرد) وجون ج. ميرشايمر (جامعة شيكاغو).

خلص والت وميرشايمر إلى أن اختلالات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وما ينجم عنها من اضطرابات وعدم استقرار وعداء للولايات المتحدة واستهداف مصالحها يعود إلى نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن ودوره في صنع السياسة الخارجية الأميركية، والانحياز الدائم إلى "إسرائيل" والعداء لشعب فلسطين وإنكار حقوقه، ودعم استمرار الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو تناقض كل ذلك مع المصلحة القومية الأميركية.

ورغم الحملة الصهيونية ضدهما لتشويه سمعتهما الأكاديمية وإسقاط مصداقيتهما، لا يزال هذا المفكران يتمتعان باحترام وتقدير كبيرين في أوساط البحث الأكاديمي والإعلام، بل إن أفكارهما ومحاضراتهما، خاصة ميرشايمر، وجدت سبيلها كمقاطع فيديو إلى قنوات "يوتيوب"، وتلقى احتراماً بين الجمهور الأميركي غير المتخصص.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.