أميركا والصين... عقدة ترامب وعقيدة شي

الصين تعاطت مع أميركا انطلاقاً من الحكمة الصينية القائلة: "اهزم عدوك قبل أن يعرف أنه قد دخل في المواجهة معك"، بمعنى أنه قد فات الأوان، ومن يريد الحد من النفوذ الصيني بات كمن "يطلق النار على قدميه".

  • يرى ترامب أنه يجب وضع حد لحالة التراجع الاقتصادي الأميركي.
    يرى ترامب أنه يجب وضع حد لحالة التراجع الاقتصادي الأميركي.

لم يكن مفاجئاً ما أقدم عليه الرئيس ترامب لجهة فرض المزيد من الرسوم الجمركية على عدد من دول العالم وفي مقدمتها الصين.

ترامب يتعاطى مع القضايا السياسية بمنطق التاجر، ما يجعله أقرب إلى "السمسار" الساعي لتحقيق الربح السريع، بغض النظر عن مشروعية هذا الربح.

"فوبيا الصين"، سيطرت على ترامب كما سيطرت على غيره من الرؤساء الأميركيين خلال العقدين الأخيرين، لكن الحالة تطورت عند ترامب لتصل حد "المعضلة" التي لا يمكنه تجاهلها ولا يعرف سبيلاً إلى حلها.

ما يزيد من تلك "المعضلة" وجود الرئيس شي جين بينغ الذي يُعد نمطاً استثتنائياً في التاريخ الصيني الحديث، نظراً لصلابته وإصراره على إيصال الصين إلى المكان الذي تستحقه على الساحة الدولية.

عرقلة نمو الصين هي الهدف الأساس للولايات المتحدة، بعد أن بات احتواءها شعاراً لا يمكن تطبيقه من الناحية العملية، فكيف لعاقل أن يفكر في احتواء دولة بحجم الصين.

ينطلق ترامب من فكرة "إما الآن أو فات الأوان"، بمعنى إما مواجهة الصين فوراً، أو الإقرار بالهزيمة معها، وبالتالي تخلّي الولايات المتحدة عن عرشها في قيادة العالم.

الصين تعاطت مع أميركا انطلاقاً من الحكمة الصينية القائلة: "اهزم عدوك قبل أن يعرف أنه قد دخل في المواجهة معك"، بمعنى أنه قد فات الأوان، ومن يريد الحد من النفوذ الصيني بات كمن "يطلق النار على قدميه".

ترى الصين أن الوقت "مكسب صلب" يجب الحفاظ عليه، بمعنى أنه كلما استطاعت تأجيل المواجهة مع الولايات المتحدة فإن ذلك سيقلل من خسائرها.

المفاجأة كانت حين أقدم ترامب على "فتح النار" على الجميع وفي وقت واحد، وهو ما يضر بمصلحة أميركا التي ظهرت وكأنها تستعدي جميع دول العالم وتدفعها إلى المزيد من التقارب فيما بينها.

الصين تتعاطى بإيجابية مع أي حدث وتسعى إلى استغلاله وتوظيفه خدمة لمصالحها، فهل ستنجح في تحقيق المزيد من التعاون والتقارب مع باقي الدول المستاءة من سياسات ترامب؟

كان ترامب قد بدأ حربه التجارية ضد الصين خلال ولايته الأولى في العام 2016، لكن العجز التجاري الأميركي ازداد حينذاك من 503 مليار دولار إلى 578 مليار دولار.

يشكل الاقتصاد الأميركي 26% من حجم الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن ما يتعرض له سيؤثر على باقي دول العالم تطبيقاً لمقولة: إذا عطست أميركا أُصيب العالم بالزكام". 

الغريب أن ما أقدم عليه ترامب لا يحظى بدعم من قبل كبار الاقتصاديين الأميركيين، كما أنه قوبل برفض شعبي جرى التعبير عنه بعدد من التظاهرات التي شهدتها المدن الأميركية.

خسائر الاقتصاد الأميركي بلغت 5 تريليونات دولار خلال يوم واحد من إعلان ترامب رسومه التجارية الجديدة، ليصبح مجموع ما خسره الاقتصاد الأميركي منذ تولّي ترامب الحكم 11 تريليون دولار.

شركة أبل خسرت وحدها 250 مليار دولار خلال ساعات، وبات من المستحيل أن يفكر أي شخص في اقتناء الآيفون المرتفع الثمن جداً، خاصة وأن البدائل باتت متوفرة وبجودة تفوق جودته.

المديونية الأميركية تزداد بوتيرة غير مسبوقة

بعد الحرب العالمية الأولى كانت الولايات المتحدة الأميركية أكبر دائن للعالم، وبعد الحرب العالمية الثانية كان الاقتصاد الأميركي أكبر اقتصاد في العالم ويشكل حوالى 45% من الاقتصاد العالمي.

اليوم، باتت أميركا أكبر دولة مديونة في العالم والاقتصاد الأميركي في أسوأ حالاته، ما يستوجب ضرورة التصدي لتلك المشكلة.

محاولة إنقاذ الاقتصاد الأميركي ستحتاج إلى إجراءات لن تلقى قبولاً شعبياً لكونها تؤثر على "حالة الرفاه" التي اعتادها المواطن الأميركي، رغم عدم امتلاك بلاده لمقوماتها، ما أوقع الاقتصاد الأميركي في حجم دين عام يزداد بوتيرة غير مسبوقة.

كان الدين العام الأميركي أقل من تريليون دولار في العام 1984، وازداد إلى أن أصبح 36 تريليون دولار في العام 2024، بعد أن كان 23 تريليون دولار في العام 2019.

بمعنى أن الدين العام ازداد 56% خلال خمس سنوات، ووصل إلى 117% من الناتج المحلي، وبتبسيط للموضوع نقول أن حصة كل مواطن أميركي من الدين العام تبلغ اليوم 107 آلاف دولار، وببساطة فإن حجم الدين العام الأميركي بات اليوم يساوي حجم أكبر خمس اقتصادات دولية - تلي الاقتصاد الأميركي- مجتمعة.

أغلب الدين العام هو ديون محلية، أما الدين الخارجي فتعد اليابان الدولة الأولى الدائنة للولايات المتحدة الأميركية، ثم تليها الصين.

أسباب كثيرة أوصلت الاقتصاد الأميركي إلى ذلك، منها زيادة حجم الإنفاق الحكومي، وسياسة الرعاية الصحية، وأزمة كوفيد 19، وطباعة الدولار بكميات كبيرة، والمحافظة على سعر الدولار مرتفعاً من دون أن يكون ذلك متناسباً مع حجم النمو في الاقتصاد..إلخ.

يرى ترامب أن أصدقاء الولايات المتحدة يسرقونها، مستفيدين من سياسة التسهيلات الجمركية التي تقدمها أميركا، مطالباً أن تكون المعاملة بالمثل، وهو إجراء قد يبدو من الناحية النظرية مطلباً محقاُ، بينما الواقع عكس ذلك.

لماذا أقدم ترامب على ذلك؟

يرى ترامب أنه يجب وضع حد لحالة التراجع الاقتصادي الأميركي، وهو ما يتفق عليه معظم الاقتصاديين، الذين يتفقون معه من حيث "النظرية الاقتصادية"، لكنهم يختلفون معه في السياسات، أو طريقة المعالجة.

المشكلة أن ترامب يسعى لأن تبقى الولايات المتحدة هي المسيطرة على العالم، لكنه وفي الوقت نفسه لا يريد تحمل نفقات قيادة العالم.

سياسة ترامب تقوم على جعل الجميع يتحمل نفقات قيادة العالم، باعتبار الجميع مستفيداً من ذلك، فمن دون أميركا سيبدو العالم مليئاً بالفوضى وفقاً لرؤيته. 

ساوى ترامب بين أصدقاء أميركا وأعدائها، وهو أمر مستغرب، والأكثر غرابة هو مساواته بين الدول ذات الاقتصادات المتطورة والدول الفقيرة، في تصرف قد يبدو غير مدروس من الناحية السياسية.

ترى الصين أنها المستهدف الأساسي من تلك الاجراءات، وأن موقع الصين اليوم وحجمها يحتمان عليها المواجهة وعدم السكوت، وخاصة أن ترامب لا يفهم سوى هذا المنطق.

تمتلك الصين الكثير من أوراق القوة، فاقتصادها متنوع تشكل الصناعة حوالى 50% منه، وتشكل الخدمات 35%، بينما تشكل الزراعة 15% من حجم الاقتصاد الصيني.

لدى الصين ثروة دولارية هائلة، وهي ثاني أكبر دائن للولايات المتحدة بعد اليابان، لكنها قامت في السنوات الأخيرة بالتخفيض التدريجي لودائعها الدولارية في أميركا، واتجهت لشراء الذهب وغيره. 

 تقوم السياسة الصينية على مبدأ (رابح- رابح)، بينما الحرب التجارية ستكون نتيجتها (خاسر- خاسر)، بمعنى أنها ستكون لعبة عض أصابع، من يستسلم فيها أولاً سيغادر القمة.

كانت الصين بالنسبة إلى الولايات المتحدة "منافساً"، ثم أصبحت "تحدياً"، واليوم باتت "تهديداً"، وفقاً لإجماع الاستراتيجيين الأميركيين.

يوم التحرير الذي تحدث عنه ترامب لم يكن في الواقع سوى تحرر الولايات المتحدة من مبادئ العولمة وحرية التجارة وانقلابٍ على مبادئ منظمة التجارة العالمية.

أميركا أولاً تعني من وجهة نظره حتمية الحفاظ على عظمة أميركا، مهما كان الثمن الذي اعتادت الولايات المتحدة على أن باقي دول العالم هي من سيتحمل دفعه.

الصين وتحويل التحدي إلى فرصة

تاريخياً برعت الصين في تحويل التحدي إلى فرصة، مفضلة الابتعاد عن الأضواء والاستثمار في الهوامش، وصولاً لاستكمال بناء دولتها.

تلك السياسة لم تعد مجدية اليوم، فالعالم كله يراقب الصين، التي باتت تشكل بارقة الأمل للعديد من الدول المستضعفة، خاصة وأن النموذج الصيني في بناء الدولة يعد محط إعجاب الجميع.

يخطئ البعض حين يعتقد أن المرونة في السياسة الصينية هي ليونة، فبكين صلبة في الدفاع عن حقوقها، لكنها تنتهج خطاباً دبلوماسياً هادئاً في سبيل تحقيق ذلك.

الانحناء أمام العاصفة أمر تجيده الصين، لكنها ستتصدى لها إن استشعرت أن تلك العاصفة يمكن أن تقتلعها من جذورها.

العودة إلى الماضي أمر غير وارد في مخيلة الصينيين، خاصة وأن الماضي لم يكن سوى "قرن العار" من وجهة نظرهم، حين كانت الصين دولة فقيرة تعيش تحت وطأة حرب الأفيون التي فرضت عليهم، من قبل دعاة الديمقراطية الغربية.

تداخل الاقتصاد العالمي وسيطرة بكين على سلاسل الانتاج والتوريد فيه تزيد من قوتها، وتجعل من الطموح الأميركي إلى انتقال الشركات من الصين إلى أميركا أمراً مستبعداً.

فعلى سبيل المثال: هاتف الآيفون الذي تنتجه شركة أبل يتكون من 387 قطعة، تنتجها 187 شركة، 169 شركة منها تعود ملكيتها للصين. 

أزمة كوفيد 19 أظهرت للولايات المتحدة الأميركية وباقي الدول الأوربية خطورة الاعتماد على الصين، لكنها غير قادرة على الاستغناء عنها في المدى المنظور.

ترى الصين أن الرهان سيكون على المستهلك، فهو وحده القادر على اختيار المنتج الذي يناسبه، مقارنة بالسعر القادر على دفعه.

بداية التحرر للدول الأوربية

الرسوم الجمركية الأميركية فيما لو طبقت على الدول الأوربية فستدفعها إلى البحث عن بدائل، ولعل التعاون مع الصين سيكون الخيار الأفضل لديها، رغم تحفظاتها وعدم رغبتها في ذلك.

إعلان كل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية السعي لتعزيز التعاون الاقتصادي فيما بينها لمواجهة الرسوم الأميركية يصب في مصلحة بكين، ويساعدها على كسر طوق العزلة التي سعت الولايات المتحدة إلى نسجه حولها.

زيارة الرئيس الصيني إلى فيتنام تصب في هذا الاتجاه، وتشكل البداية في مسعى بكين لحل خلافاتها في منطقة بحر الصين الجنوبي.

السوق الأميركية مهمة بالنسبة إلى الصين، لكن ذلك لا يعني عدم قدرة بكين على إيجاد أسواق بديلة، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية.

الصين ستتضرر مرحلياً، لكنها على المدى البعيد ستسعى إلى تصفير مشاكلها في المنطقة، والتخلص من "لعنة الجيوبوليتيك"التي جعلتها في مواجهة مع معظم جيرانها، نتيجة للطبيعة المتغيرة في منطقة بحر الصين الجنوبي.