قمة آسيان-الصين-الخليج... نموذج جديد لصحوة "الجنوب العالمي"
يواجه الجنوب العالمي تحديات متعددة، من أبرزها تصاعد الحمائية التجارية والأحادية. ومن شأن تعزيز التعاون الآسيوي أن يرفع من قدرة هذه الدول على الصمود.
-
ما الفوائد المرجوة من القمة الثلاثية؟
في 27 مايو/أيار، عُقدت في كوالالمبور بماليزيا قمة ثلاثية غير مسبوقة جمعت بين الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ودول مجلس التعاون الخليجي.
وقد وصفت الأوساط الدولية هذا الاجتماع بأنه يمثل "صحوة الجنوب العالمي" — ففي الوقت الذي تنشغل فيه الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية جديدة، وتغرق فيه أوروبا في أزمة طاقة، تعمل الدول الآسيوية على بناء "حلقة تكاملية مغلقة" قائمة على تكامل الموارد والأسواق والتكنولوجيا، للحفاظ على نظام التجارة متعددة الأطراف والدفاع عن المصالح المشتركة لدول الجنوب العالمي.
لماذا بادرت ماليزيا إلى اقتراح القمة الثلاثية؟
تُعد الصين وآسيان من أبرز الكيانات الاقتصادية المؤثرة عالمياً. فالصين تحتل المرتبة الثانية بين أكبر اقتصادات العالم، بينما تُعد آسيان خامس أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة، الصين، الاتحاد الأوروبي واليابان.
وتربط الجانبين علاقات تجارية واقتصادية وثيقة؛ إذ كانت الصين وآسيان أكبر شريكين تجاريين لخمسة أعوام متتالية حتى عام 2024، وبلغت نسبة التجارة مع آسيان 15.9٪ من إجمالي التجارة الخارجية للصين. وفي 20 أيار/مايو الجاري، أعلن الجانبان استكمال مفاوضات النسخة 3.0 من منطقة التجارة الحرة بين الصين وآسيان.
أما دول مجلس التعاون الخليجي، فهي بدورها تملك قوة اقتصادية لا يُستهان بها، إذ تحتل المرتبة الأولى عالمياً في احتياطيات النفط والغاز، ويبلغ نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي. في عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الخليج 288.09 مليار دولار، وفي عام 2023، حلّت دول الخليج في المرتبة السابعة كشريك تجاري لآسيان، حيث بلغ حجم التبادل التجاري 130.7 مليار دولار، ويأمل الجانبان رفعه إلى 180 مليار دولار بحلول عام.
كان اقتراح عقد القمة الثلاثية من مبادرة ماليزية، إذ عُقدت في تشرين الأول/أكتوبر 2023 أول قمة بين آسيان ومجلس التعاون في السعودية. وباعتبار أن ماليزيا تتولى رئاسة آسيان لعام 2025، أعلن رئيس وزرائها أنور إبراهيم في شباط/فبراير الماضي أن بلاده ستستضيف القمة الثلاثية في أيار/مايو. يُذكر أن أول قمة بين الصين ودول الخليج عُقدت في كانون الأول/ديسمبر 2022 في السعودية، بينما يعود بدء الحوار بين الصين وآسيان إلى عام 1991.
جاءت المبادرة الماليزية في إطار سعيها إلى دمج الأسواق الثلاثة والاستفادة من مكامن القوة لدى كل طرف، من التكنولوجيا ورأس المال إلى الطاقة والموارد البشرية، بما يسهم في بناء حلقة تعاون متكاملة تستطيع مواجهة التقلبات الاقتصادية العالمية من خلال تعزيز سلاسل التوريد والإنتاج إقليمياً وعبر الأقاليم.
ما الفوائد المرجوة من القمة الثلاثية؟
تشير البيانات إلى أن إجمالي سكان الدول الثلاث يتجاوز 2.1 مليار نسمة، ويقترب إجمالي ناتجها المحلي من 25 تريليون دولار. وتمتاز الأطراف الثلاثة بميزات اقتصادية متكاملة: الصين بقوة صناعية وتكنولوجية، آسيان بتكاليف العمالة المنخفضة، والخليج العربي بموارد الطاقة ورأس المال.
لذلك، فإن التعاون الثلاثي من شأنه أن يولّد أثراً اقتصادياً مضاعفاً يفوق التعاون الثنائي. وفي ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة، يشكل هذا التعاون درعاً في وجه المخاطر الخارجية. كما رأت بعض وسائل الإعلام الآسيوية أن التحالف الثلاثي قادر على إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي.
اليوم، يواجه الجنوب العالمي تحديات متعددة، من أبرزها تصاعد الحمائية التجارية والأحادية. ومن شأن تعزيز التعاون الآسيوي أن يرفع من قدرة هذه الدول على الصمود. القمة الثلاثية تُؤسّس لشبكة تجارة حرة أوسع، وتُعيد هيكلة سلاسل التوريد، وتُعزّز الكفاءة، وتقوّي المناعة الاقتصادية الجماعية في وجه الصدمات الخارجية.
قال رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم خلال القمة: "نحن بحاجة إلى التعاون كوسيلة للتحوط من المخاطر الخارجية". والمقصود بتلك "المخاطر" هو التهديد الأميركي الأخير بفرض "رسوم جمركية مماثلة"، الأمر الذي يشكّل تحدياً كبيراً لاقتصادات آسيان المعتمدة على التصدير.
وأكد الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الصين على استعداد للعمل مع آسيان ودول الخليج من أجل توظيف ما سمّاه "أثر 1+1+1 أكبر من 3"، وضخ زخم جديد في مسيرة التنمية والازدهار المشترك بين الأطراف الثلاثة.
المحاور الأساسية للقمة الثلاثية
أصبحت قضايا الطاقة وسلاسل التوريد من أبرز محاور الاهتمام في القمة الثلاثية، إذ تجاوزت الأطراف العلاقات التقليدية في بيع وشراء النفط والغاز، واتجهت نحو تعاون شامل يغطي سلسلة الصناعة بأكملها، بدءاً من الاستكشاف والتطوير، مروراً بتقنيات الهيدروجين الأخضر، وصولاً إلى أنظمة تخزين الطاقة.
على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، تمتلك الصين والآسيان ودول مجلس التعاون الخليجي أساساً راسخاً للتعاون. وتُسهم مبادرة "الحزام والطريق"، واتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، ومفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي، في تعزيز التفاعل والتكامل بين الأطراف الثلاثة بشكل مستمر.
في مجال سلاسل التوريد، يسهم التعاون الثلاثي في بناء سلسلة توريد متكاملة. لطالما كانت دول مجلس التعاون الخليجي من كبار موردي الطاقة عالمياً، لا سيما النفط والغاز، في حين تتمتع الصين بميزة تنافسية قوية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والمنتجات الصناعية.
وفي المقابل، يُشكّل "التكامل بين التكنولوجيا الصينية والتصنيع الآسياني" نظاماً مستقِراً نسبياً لسلسلة التوريد. ومن خلال هذا التكامل، يمكن للأطراف الثلاثة في المستقبل بناء سلسلة توريد أكثر ترابطاً، سواء في الصناعات التقليدية أو مجالات قوى الإنتاج الحديثة، بما يعزز أمن سلاسل الإنتاج والإمداد.
وفي الوقت ذاته، تساهم أسواق الاستهلاك الآخذة في النمو داخل الصين ورابطة الآسيان في تشكيل جانب الطلب في المنطقة، ما يُضفي على السوق الإقليمي طابعاً أكثر توازناً واستقراراً. وبذلك، سواء من ناحية إعادة هيكلة سلاسل الإنتاج والتوريد أو من حيث تحديث الطلب الاستهلاكي، تتشكل بنية سوقية مستقرة نسبياً بين الأطراف الثلاثة. ويأتي هذا التوازن كدعم مؤسسي شامل في ظل التحوّل الجاري في أنماط الإنتاج والتجارة العالمية.
إلى جانب ذلك، أعلنت الصين خلال القمة عن تطبيق سياسة الإعفاء من التأشيرة بشكل أحادي لمواطني المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان والكويت ومملكة البحرين.
ومع الإمارات العربية المتحدة وقطر، اللتين تطبقان منذ عام 2018 سياسة الإعفاء المتبادل من التأشيرات، تكون الصين قد حققت "تغطية شاملة" للإعفاء من التأشيرة مع جميع دول مجلس التعاون الخليجي. ومن شأن هذه الخطوة أن تعزز بدرجة أكبر التعاون والتبادل بين الصين والدول الخليجية، سواء على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، أو في مجالات التبادل الثقافي والإنساني.
أهمية القمة الثلاثية
الأهم من ذلك أن هذا النوع من التعاون لا يتسم بالإقصاء، ولا يشكل تحالفاً في مواجهة أطراف أخرى. وكما صرّح رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، فإن تعزيز التعاون مع الاقتصادات الناشئة مثل الصين، ودول الخليج، ومجموعة "بريكس"، لا يعني الانحياز إلى طرف، بل هو وسيلة للحفاظ على الأهمية الاستراتيجية في عالم متعدد الأقطاب.
وفي ظل الظروف الدولية الراهنة المتسمة بالتقلبات والتعقيدات، فضلًا عن ضعف النمو الاقتصادي العالمي، فإن إنشاء منصة تبادل وآلية تعاون ثلاثية يُعد إنجازاً كبيراً في مسيرة التعاون الاقتصادي الإقليمي. ومن خلال هذا الترابط والتعاون الوثيق، تستطيع الأطراف الثلاثة بناء دائرة اقتصادية نابضة بالحيوية وقطب جديد للنمو، ما يُضفي أهمية كبيرة على ازدهارها الاقتصادي، ويدعم التنمية السلمية في آسيا والعالم أجمع.