أوروبا في ضوء اختبار غزة: انقسام في المواقف أم تناقض مع الذات؟

ينبئ الشرخ العميق بين الموقف الأوروبي الرسمي والموقف الشعبي بأنّ سيطرة اليهود الصهاينة على مراكز القرار الأوروبية نجح في تفريغ شعوبها من جوهرها الديمقراطي المزعوم.

  • مأزق تناقض أوروبا مع ذاتها.
    مأزق تناقض أوروبا مع ذاتها.

فشل الاتحاد الأوروبي في إصدار دعوة إلى وقف إطلاق النار في قمّته المنعقدة يومي 14 و15 كانون الأول/ديسمبر في بروكسل. وفي خضمّ هذه الحالة من العجز تزداد حالة الانقسام داخل البيت الأوروبي بسبب استحكام الارتباك في الموقف الأوروبي تجاه الإجرام الصهيوني في فلسطين.

ويحيلنا هذا الانقسام على الرسالة التي وجهتها كل من إسبانيا وبلجيكا وآيرلندا ومالطا، قبل أيام، إلى رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل من أجل اتخاذ قرارات أوروبية حاسمة بشأن التأزّم الآيل إلى الاحتدام في غزة. وخلف تلك الرسالة، يكمن سعي حكومات الدول المذكورة لتجاوز الحالة الأوروبية من الارتباك التي استحالت بالتدريج على حالة من التناقض مع الذات من دون أن يُجدي ذلك نفعاً. 

الواقع أنّ وضع الانقسام لم يعد مقتصراً على أوروبا وحدها، ذلك بأنّ تصويت مجلس الأمن، في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، على قرار وقف إطلاق النار في غزة، أبان شرخاً ما فتئ يتعمّق في الكتلة الجيوسياسية الغربية برمتها. فبينما استخدمت الولايات المتحدة حقّ الفيتو ضدّ مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة، امتنعت حليفتها الأقرب، بريطانيا، عن التصويت، في حين صوّتت فرنسا لمصلحة المشروع. 

يعكس هذا المشهد، إذا جرى تأمّله في ضوء الموقف الغربي الموحّد في الأيام الأولى لطوفان الأقصى، حالةً من التزعزع والتفكّك، اللذين أصابا مواقف الدول المشكلة لنواة الكتلة الغربية تجاه العدوان على غزة. وهي حالة ستؤول إلى الاشتداد. وأمام المشهدين الأول والثاني، تتجلى حالة تراكب الانقسامات في مواقف الغرب، تنذر المؤشرات بأنها لن تتوقف عند هذا الحد في الأيام القليلة المقبلة. 

الخروج من بوتقة التآمر المضمَر

 لا يندرج مطلب الدول الأوروبية الأربع في خانة التواطؤ غير المعلن، والذي اتّسمت به عموماً مواقف الدول الأوروبية تجاه العدوان الصهيوني على غزة وتبعيتها الصريحة للمواقف الأميركية، كما يبدو بيّنا أنّ فيه سعياً للخروج من حالة التماهي المطلق مع مواقف المحتلّ وسرديته، التي انبثق منها ما شهدناه من دعم أوروبي غير مشروط لحكومة نتنياهو، عبّر عنه تكرار المسؤولين الأوروبيين الحرفي للخطاب الصهيوني.

حريّ بنا، في هذا السياق، أن نذكّر بما يلي: إنّ المُنصت لخطاب القادة الأوروبيين، فون ديرلاين وسوناك وماكرون، في الأيام الأولى التي تلت طوفان الأقصى، يكاد لا يميّزه من خطاب وزراء كابينت الحرب الصهيوني، كنتنياهو أو غانتس أو غالانت، بسبب شدّة تطابقهما، بل إن بعض المقترحات الأوروبية، كتلك التي قدمتها فرنسا في الأسبوع الثاني من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، انطوى على مزايدات فاقت في استعدائها للمقاومة الفلسطينية مستوى عداء الكيان الصهيوني لها وإرادته تدميرها.

أمّا أولاف شولتز، المسكون هو وحكومته بعقدة الذنب أمام اليهود، فقال مخاطباً نواب البوندستاغ: "إنّ هناك مكاناً واحداً فقط لألمانيا في هذه اللحظة؛ المكان إلى جانب إسرائيل". واستكمالاً لصورة المباركة الأوروبية للإجرام الصهيوني في حقّ الفلسطينيين، نذكّر أيضاً بموقف كل من النمسا وكرواتيا والمجر وجمهورية التشيك، والتي كانت على رأس المصوّتين ضدّ مشروع "قرار عاجل ودائم لوقف إنساني لإطلاق النار في غزة"، في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

بيد أنه ضمن هذا المشهد، المفعم بصور التزكية الأوروبية للجرائم الصهيونية ضدّ الفلسطينيين، هناك صوت الحكومة الإسبانية، الذي اختار النأي عن حالة التبعية المطلقة للأطروحات الصهيونية وموجة التأمرك الجارفة في السياسات الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي. وإن بدا الصوت الاسباني هامشياً داخل الكتلة الأوروبية، إلّا أنه ظل متبايناً ومستقلاً. لذا، كان السعي لتطويقه بالصمت والتعتيم، لكنه مع الوقت ارتدّ عاملَ استقطاب لدول أخرى، نرى كيف انزاحت مواقفها بالتدريج نحو موقف إسبانيا وبعض من خطابها. إن هذا هو أول ما تنبئنا به رسالة سانشيز (إسبانيا) ودي كرو (بلجيكا) وفارادكار (آيرلندا) وأبيلا (مالطا)، والتي صيغت بنبرة احتجاج، مطالبة بموقف أوروبي حاسم بشأن الوضع في غزة. 

لقد سبق للوزيرة الإسبانية للحقوق الاجتماعية، إيونا بيلارا، أن طالبت بما هو أكثر مما جاء في الرسالة. ففي ردّها على إعلان نتنياهو أنّ "الأمم المتحدة غير مرغوب فيها في إسرائيل"، طالبت بيلارا أوروبا باتخاذ أربعة قرارات: "تعليق العلاقات الدبلوماسية بإسرائيل؛ فرض عقوبات اقتصادية صارمة عليها، كما سبق أن فعلت مع روسيا؛ حظر توريد الأسلحة إليها؛ تقديم نتنياهو وقادته المسؤولين عن قصف المدنيين إلى محكمة الجنايات الدولية". 

دوافع ظاهرها سياسي وجوهرها أمني

 بالتدريج، تكبر دائرة الممتعضين من اللاحسم، الذي يميّز موقف الاتحاد الأوروبي تجاه العدوان على غزة، وإنّ أول ما يُستنتج من رسالة الدول الأربع إلى رئيس المجلس الأوروبي أن حالة الامتعاض بلغت مبلغاً بات غير ممكن التغاضي عنه. فما الذي أنتج امتعاض إسبانيا والدول التي سارت على خطاها، ودفعها إلى مراسلة شارل ميشيل؟ 

 إنّ ما يوجب هذا السلوك هو الإحساس بالخطر الداهم على شرعية الحكومات الأوروبية، إن لم تُؤْثِر التماهي مع مواقف شعوبها، بدلاً من الإذعان لنزعات التأمرك والتصهين، والتي أصابت سياسات كلّ الدول الأوروبية الخارجية تقريباً، وخصوصاً بالنسبة إلى الحكومات القريبة من تيارات اليسار. وفي الحالة المعاكسة، لن تكون حكومات منقوصة الشرعية، أو بلا شرعية، فحسب، في نظر شعوبها مستقبلاً، بل ستضطر أيضاً إلى التعامل مع سيل من ضغوط الشارع، يؤكّد منحاها التصاعدي في الدول الأوروبية أنها ستؤول إلى ما هو أكبر وأخطر، وستنجب مزاجاً جماهيرياً، سمته ترقّب الفرص للانتقام. 

 علاوة على هذا، ينبئ الشرخ العميق بين الموقف الأوروبي الرسمي والموقف الشعبي بأنّ سيطرة اليهود الصهاينة على مراكز القرار الأوروبية نجح في تفريغ شعوبها من جوهرها الديمقراطي المزعوم، والذي تُباهي به الأمم كونه عنصر قوّتها الجوهري، فإذا بها، عن طريق التحالف البنيوي بين حكوماتها واللوبيات الداعمة للكيان، تكتشف حجم الاختراق الذي أصابها وحوّل دولها إلى مجّرد أدوات طيّعة في يد اللوبي الصهيوني.

من الواضح، إذاً، أن المردّ الأساسي لرسالة الدول الأربع هو خوف سياسي في ظاهره، لكنه من طبيعة أمنية في جوهره، إذ بقدر ما يدخلها السكوت الأوروبي عن الجرائم الصهيونية في دائرة الحكومات المهدَّدة شرعيتها والمنفصلة عن توجّهات شعوبها، فإنه يهدّد أمنها أيضاً، ويضعه في مواضع الخطر، إذا لم يجر التعاطي مع ارتداداته المحتملة وفق منطق استباقي يحاول في الأقل امتصاص حالة الاحتقان والغضب الجماهيري في حال استمرّ الجمود الأوروبي، وطال أمد العدوان على فلسطين. 

مأزق تناقض أوروبا مع ذاتها 

أمّا دافع توجيه الرسالة الأكبر فهو في اعتقادنا حالة تناقض أوروبا مع ذاتها، والتي باتت تتعمّق أكثر على نحو قد يكون من المستحيل تداركه مع المستقبل. لقد رأينا كيف تصمت أوروبا الرسمية حين يُقتل الرضّع والخدّج والأطفال والنساء، ورأينا إصماتَها حين قُصفت المستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس والملاجئ، ورأينا كيف أُصمتت أيضاً حين قُتل الصحافيون والأطباء ورجال الإغاثة، وكيف تقمع حكوماتها حرية التعبير والصحافة والمظاهرات السلمية بدعوى معاداة السامية، ثم قارنّا كل هذا بمواقفها وسلوكها مع أوكرانيا، فكان الاستنتاج أننا أمام إصمات أوروبي مفعم بالتواطؤ والتزكية للمحرقة في غزة، جعل القارة العجوز تبدو متناقضة مع سرديتها الحضارية التي تزعم أنها مصدر إشعاعها، ومع ذاتها وهويتها، فأيّ معنى لشعارات المشترك الإنساني وحقوق الإنسان يمكن للأوروبيين ترويجها بعد هذا، وتحديداً في الوقت الذي تتواصل تراجيديا الإبادة في غزة وكل فلسطين؟

يبدو أنّ توجيه الرسالة إلى رئيس المجلس الأوروبي ينبع من التفكير في الخلاص من هذا المأزق، والقفز من قارب أوروبي يغرق أعمق فأعمق في وحل الانحطاط الإنساني. على أنّ هذا الموقف، بما فيه من احتجاج مبطَّن على حالة الوهن التي أصابت أوروبا، لا يجب أن يُقرأ من زاوية رفض السردية الصهيونية انطلاقاً من تبني السردية الفلسطينية وسردية المقاومة. 

إنّ أقصى ما يمكن أن يُحسَب لإسبانيا وآيرلندا وبلجيكا ومالطا أنها حافظت على استقلالية قرارها، وعملت على أن تنقذ ما تبقّى من سراب الهوية الاستراتيجية الأوروبية المستقلة عن الولايات المتحدة الأميركية في زمن ارتضت فيه سائر الدول الأوروبية دور "الملحَق" لدى حكومة الكيان الصهيوني، من دون أن يعني ذلك أنها أنصفت شعب فلسطين ومقاومته، ذلك بأن تشخيصها المخلّ لفعل المقاومة يثبت أنها ما زالت مصابة بلوثة الكولونيالية التي تَحُول بينها وبين الاعتراف بأن ما يخاض في غزة وفلسطين كلّها هو مقاومة شرعية، وهو معركة تحرّر قد تخبو، لكنها لا تنطفئ.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.