أيام نتنياهو الأخيرة: هل تكتُب الحرب نهايته السياسية؟
الصواريخ الباليستية التي حملت اسمي الشهيدين "قاسم سليماني" و"عماد مغنية"، تسقط الآن في حيفا المحتلة و"تل أبيب"، والإسرائيليون بالملايين يبيتون ليلهم ويقضون نهارهم في الملاجئ.
-
تراجع نتنياهو في عيون أنصاره (أرشيف).
في خضمّ أعنف موجة تصعيد تشهدها المنطقة منذ عقود، يقف رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو أمام مفترق حاسم.. فالرجل الذي وعد الإسرائيليين بضمان الأمن داخل الأراضي المحتلة، والتمدّد خارج فلسطين، إما عبر دَرب التطبيع أو بالقوة العسكرية، بات اليوم يواجه لحظات مفصلية تبدو فيها "أيامه الأخيرة" في الحكم أقرب من أيّ وقتٍ مضى.
اليوم تلوح في الأفق نهاية مرحلة كاملة من اليمين الإسرائيلي المتطرّف، ارتبطت اسمياً وفعلياً، بزعيم حزب الليكود، بنيامين نتنياهو؛ فالضغوط الداخلية تتراكم مع نمو الأصوات المعارِضة، وبداية تفكّك تحالف قوى اليمين بشقّيه القومي والحريديمي، أما على المستوى الخارجي، فالعاصمة "تل أبيب" باتت شوارعها صورة مصغّرة من شوارع قطاع غزة، بعد أن أنهكتها الصواريخ الباليستية الإيرانية، وهو المسار العسكري الذي لجأت إليه طهران رداً على الضربة الغادرة التي اغتالت عبرها "إسرائيل" علماء وقادة عسكريين إيرانيين في صباح الثالث عشر من حزيران/يونيو.
على جبهتين: غزة وإيران
في آنٍ واحد، يُقاتل "جيش" الاحتلال على جبهتين؛ واحدة في قطاع غزة حيث تواصل آلة القتل الإسرائيلية حصد أرواح الفلسطينيين، من دون أن يمنع ذلك فصائل المقاومة من مواصلة عملياتها؛ وأخرى أشدّ خطورة ضدّ إيران، وقد اندلعت بعد عملية "الأسد الصاعد"، والتي صارت في نظر الشارع الإسرائيلي اليوم بمثابة مغامرة غير محسوبة، كانت لخدمة أجندة نتنياهو الشخصية، وجلبت دماراً واسعاً على المدن والبلدات الإسرائيلية.
قليلون من يدركون حجم ما يعنيه قصف "تل أبيب" بالصواريخ، فمنذ النكبة الفلسطينية، كانت "إسرائيل" تحارب خصومها على أراضيهم تقريباً، فمثلاً، حرب السادس من أكتوبر 1973، والتي كان النصر فيها من نصيب العرب، كانت تدور في سيناء المصرية والجولان السورية، أي خارج "إسرائيل" عملياً، لكن اليوم، بات الأمر مختلفاً كلياً.
الصواريخ الباليستية التي حملت اسمي الشهيدين "قاسم سليماني" و"عماد مغنية"، تسقط الآن في حيفا المحتلة و"تل أبيب"، والإسرائيليون بالملايين يبيتون ليلهم ويقضون نهارهم في الملاجئ. كلّ ذلك يجري في "بلدٍ" تمّ تسويقه لليهود الأوروبيين باعتباره "الملاذ الآمن"، الذي سيحميهم من "الاضطهاد" و"العنف". الكيان الإسرائيلي، حرفيّاً، أصابه الشلل، وقطاعات كاملة باتت خارج الخدمة، من السياحة، التي هي أكثر المجالات حساسية للاضطراب الأمني، وحتى الزراعة، التي هي أقدم المهن البشرية، مروراً بالصناعة والتجارة، بطبيعة الحال.
تسبّبت الصواريخ الإيرانية في خسائر بشرية مؤثّرة، من جرحى ومصابين، بالإضافة إلى تفجيرات ضخمة كما حدث مع استهداف مصافي نفط وشبكات للكهرباء، ذلك مع الأخذ في الاعتبار، أنّ الأخبار المنشورة في الإعلام العبري عن الخسائر تخضع للرقابة العسكرية، وهناك دعوة صريحة أطلقها المتحدّث العسكري الإسرائيلي يوم 14/6/2025/، طالب فيها بعدم تصوير الأماكن التي تضرّرت بفعل الصواريخ الإيرانية.
تراجع نتنياهو في عيون أنصاره
واقع الحال داخل الأراضي المحتلة على مدار الأيام القليلة الماضية، يؤكّد أنّ نتنياهو قد مرّغ وجه "إسرائيل" في التراب، وأنّ اندفاعه وتهوّره، واستجابته لإلحاح بن غفير وسموتريتش، قد ورّطه في معركة مع خصم، لم يكن يعرفه جيداً، أو على الأقلّ كان يعرف ما لديه من سلاح، لكنه كان جاهلاً بما لديه من عقيدة صلبة.
قلّل الإسرائيليون من قدرة إيران على إعادة تنظيم صفوفها بعد أن استهدفوا القيادة العليا للجيش الإيراني وحرس الثورة، وتمكّنوا من اغتيال عدد منهم، حينها توهّموا أنّ الأمور قد دانت لهم، وأنهم نجحوا في تعطيل القيادة والسيطرة داخل طهران، لكنّ الدولة الإيرانية أثبتت صلابة مؤسساتها في ذلك الاختبار.
على الفور تمّ امتصاص الصدمة، وترتيب البيت من الداخل، وتصعيد قيادات من الصف الثاني، فانقلبت المعادلة 180 درجة، وجلس الملايين أمام الشاشات، يتابعون الصواريخ الباليستية، وهي تنجح في اختراق جميع طبقات أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، بالضبط كلاعب الكرة الماهر، الذي يُوصل كرته إلى مرمى خصمه.
"هآرتس" العبرية، والتي تتخذ خطاً معارضاً لسياسيات اليمين بشكل عامّ، باتت تحذّر من فرار الإسرائيليين والأجانب عبر اليخوت إلى قبرص، وتشير إلى أنّ آلاف الدولارات يتمّ دفعها بغرض نقل مجموعات لا يتجاوز عددها عشرة أشخاص من موانئ هرتسيليا وحيفا وعسقلان. المفارقة هنا، أنّ اليمين الإسرائيلي الذي كان يُصارع من أجل تهجير الغزيّين من أراضيهم، سيكون قريباً أمام مهمة إقناع الإسرائيليين أو المقيمين في "إسرائيل" بعدم تركها، والفرار منها!
المخاطر المتعلّقة بالهجرة العكسية، لطالما أثارت قلق الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أما اليوم، ومع وصول الصواريخ إلى قلب "إسرائيل"، بات فرار الإسرائيليين باتجاه دولٍ أخرى (أكثر غنى واستقراراً) كابوساً حقيقياً، سيطارد نتنياهو على مدار الساعات الأربع والعشرين، وسيعجز عن التعامل معه، ما يتسبّب في خسارته مزيداً من الأنصار. وقد طلبت الحكومة، بالفعل، من شركات الطيران عدم السماح للإسرائيليين بالسفر إلى الخارج، في حال عادت خطوط الطيران إلى العمل.
الداخل الإسرائيلي مُمزّق
قبل اندلاع الحرب، بيوم واحد تقريباً، كان الكنيست الإسرائيلي يصوّت على حلّ نفسه، بطلبٍ من المعارضة ممثّلة في حزبَي "هناك مستقبل" برئاسة يائير لابيد، و"إسرائيل بيتنا" بقيادة وزير الحرب الأسبق أفيغدور ليبرما، ذلك عقب تنامي النزاع حول مشروع قانون لتجنيد المزيد من اليهود المتشدّدين (الحريديم) في "الجيش".
لم ينحلّ الكنيست، وضاعت فرصة عقد انتخابات تشريعية مبكرة تُفضي لتشكيل حكومة جديدة، لكن جاءت النتائج لتكشف أنّ 53 نائباً، قد أيّدوا حلّ المجلس، بفارق 8 أصوات فقط عن الرافضين، وما كان هذا ليحصل لولا تكثيف نتنياهو محاولاته للضغط على حزبيّ "شاس"، و"يهدوت هتوراه" من جهة، ورئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست يولي إدلشتاين من جهة أخرى، بالإضافة إلى الجهد الذي بذله السفير الأميركي، لدى "إسرائيل"، مايك هاكابي، مع قادة من الحريديم للحيلولة دون حلّ الكنيست وإسقاط الحكومة، تخوّفاً من حدوث فراغ في القيادة الإسرائيلية.
الأوضاع الاجتماعية والسياسية داخل "إسرائيل"، تؤكّد وجود مشكلة متعلّقة بـ "الحريديم"، فعددهم آخذ في الازدياد، إذ يمثّلون 13% من الإسرائيليين، لكنهم فعلياً 20% من يهود "إسرائيل"، هذا يعني أنّ واحداً من كلّ خمسة "إسرائيليين فعليّين"، لن يخدم في "الجيش"، كما أنّ معتقده بالأساس لا يعترف بالصهيونية، لأنه يربط "عودة اليهود إلى فلسطين، وقيام دولتهم، بظهور المسيح"، كلّ ذلك بالإضافة إلى أفكار الحريديم المناهضة للعصرنة والمدنية والعلم الحديث.
تتفاعل تجمّعات الحريديم السياسية مع جهاز "الدولة" الإسرائيلي بنوع من البراغماتية، وتشارك في الكنيست والحكومات، من دون أن تكون معنية بأيّ شيء يتعلّق بالسياسة الداخلية أو الخارجية، فهي، فقط، تهدف إلى الحفاظ على تمويل المدارس الدينية (اليشيفوت)، وضمان الإعفاء من الخدمة العسكرية لطلاب التوراة؛ وعندما يشعر زعماء الحريديم السياسيين أنّ اليمين الصهيوني، والممثّل في "الليكود" و"الصهيونية الدينية" و"العظمة اليهودية"، قد يهادن التيار العلماني، على حساب مكتسباتهم، يصبحون على استعداد لفضّ التحالف، وبالتالي تنفصم عرى اليمين الإسرائيلي، وهو ما كان متوقّعاً أن يحدث قبل أيام، ولا يزال مرشّحاً للحدوث.
من جهة أخرى، فإنّ تصاعد الحرب، والأضرار التي سبّبتها الصواريخ الإيرانية، ستسمح لأصوات اليساريين الإسرائيليين بالعلو مجدّداً، فهؤلاء لطالما طالبوا بعقد صفقة مع حركة حماس، لوقف الحرب واستعادة الأسرى، واتهموا نتنياهو بأنه دمّر صورة "إسرائيل" في العالم، وتمادى في جرائمه، ما دفع مختلف المنظّمات الدولية لنبذ الحكومة الإسرائيلية والتعامل معها كنظير معاصر لألمانيا النازية؛ واليوم، ستُضاف تهمة جديدة لنتنياهو، وهو أنه جلب لـ "إسرائيل" الهزيمة على أيادي الإيرانيين، بمعنى آخر سيكون التنكيل السياسي بـ "الملك بيبي" يسيراً للغاية.
الرهان على واشنطن لن يُفلح
الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، رجل أعمال في نهاية المطاف، وقد بنى مشروعه الانتخابي على تحسين دخل المواطن الأميركي، عبر حمايته من "المهاجرين" الذين يستفيدون من برامج الدعم الاجتماعي، ويسلبونه وظائفه، بالإضافة إلى تقليل الإنفاق على المجهود العسكري خارج الولايات المتحدة.
لهذا تلاسن ترامب أكثر من مرة مع زيلينسكي رئيس أوكرانيا، والذي يطالب بزيادة الدعم الأميركي، كما قرّر سحب قواته من سوريا، وحتى عندما حشد قواته باتجاه باب المندب، وشنّ حرباً على حركة أنصار الله في اليمن، لم يصمد سوى أسابيع معدودة، وسحب قواته، من دون تحقيق أيّ هدف يذكر.
هذا لا يعني أنّ واشنطن في معرض التخلّي عن "تل أبيب"، فكلّ ما جرى من وقت اغتيالات طهران، والضربات التي طالت مواقع نووية، كان البيت الأبيض على علم به، لكن ربما الأهداف مختلفة، فإدارة ترامب تريد كسر شوكة الإيرانيين عبر "إسرائيل"، وإرغامهم على القبول بالتوقيع على اتفاق يحظر عليهم تخصيب اليورانيوم، مع القبول ببقاء العقوبات الاقتصادية على حالها.
في المقابل تريد "تل أبيب" ما هو أكثر، فهي تدرك أنّ طهران، بمثابة عمود خيمة محور كامل، تنخرط ساحاته في الصراع مع "إسرائيل" بشكل متكرّر من جنوب لبنان إلى العراق إلى صنعاء، وأنها إذا أرغمت إيران على تغيير سياساتها، والتخلّي عن دورها المناصر للحقّ الفلسطيني، فهذا يعني انفراط عقد المحور، ويثمر ذلك خلو منطقة الشرق الأوسط من الأعداء، فتكون الحقبة الإسرائيلية قد بدأت، ويمكن لحكومة الاحتلال لها أن تسود وتسوس كيفما تشاء.
الطموح الإسرائيلي، من حيث المبدأ، لا يحظى بمعارضة أميركية، فواشنطن أيضاً تريد تغيير كلّ ما ترتّب على الثورة الإيرانية منذ عام 1979، لكنّ إدارة ترامب، تدرك جيداً أنّ تلك المحاولة، تعني وضع القيادة الإيرانية أمام تهديد وجودي، سيُرغمها على الإضرار بالمصالح الأميركية على نحوٍ غير مسبوق، ولدى إيران القدرة على فعل ذلك وأكثر، سواء عبر خلاياها الاستخباراتية ومؤيّديها خارج حدودها، أو عبر ترسانتها الصاروخية، التي هي الأكبر والأكثر تنوّعاً في الشرق الأوسط، مع الآلاف من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز، التي تمّ تطويرها بالاعتماد على النماذج السوفياتية، وبقدرات ذاتية، وبالتعاون مع دولٍ تتبنّى نهجاً معارضاً للهيمنة الأميركية، مثل كوريا الشمالية، ذلك وفقاً لتقرير صدر عام 2021 عن مشروع Missile Threat التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية - CSIS.
وتملك القوات الإيرانية أنواعاً متقدّمة من الصواريخ، مثل "فتّاح 2" و"سجيل" و"خرمشهر" التي يصل وزنها إلى 2 طن، وبعضها مُجهّز بمركبات قابلة للمناورة، ومزوّد بزعانف تحكّم ونظام ملاحة دقيق عبر الأقمار الاصطناعية. والمؤكّد، باعتراف الخبراء العسكريين الإسرائيليين أنفسهم، أنّ إيران لم تستخدم بعد أسلحتها الأكثر تطوّراً، ومن المرجّح أنها تدخّرها لمراحل لاحقة أو لضربة قاضية.
المعلومات المتعلّقة بالإمكانات العسكرية الإيرانية، تعني أنّ التصعيد الأميركي، والدخول المباشر في حرب، على طريقة جورج بوش، سيُفضي، من دون شكّ، إلى اندلاع حرب إقليمية واسعة، ثم عالمية، ستنخرط فيها كلّ الدول الكبرى، حتى تلك التي تحاول النأي بنفسها عنها. والواضح، بمراقبة طريقة عمل الإدارة الأميركية الحالية، أنه سيكون من الصعب عليها أن تستجيب للمتطرّفين الإسرائيليين، وأفكارهم الانتحارية، التي تنشد النصر حتى لو استدعى الأمر "هدم المعبد على رؤوسهم ورؤوس أعدائهم على طريقة شمشون".
لا بديل عن رحيل الحكومة الإسرائيلية
ضاق العالم بالحكومة الإسرائيلية الحالية، ولم يعد هناك استعداد لتحمّل بقائها حتى انتهاء فترة ولايتها نهاية العام المقبل، والتصريحات الصادرة عن العواصم الأوروبية أكدت ذلك طوال الشهور الماضية، فهناك رؤية عامّة تؤكّد أنّ عودة الهدوء إلى المنطقة، بات مرهوناً بتحجيم نشاط اليمين الصهيوني داخل "إسرائيل"، إذ لم تقتصر صراعات قياداته على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، مع خصوم الكيان التقليديّين، بل امتدت إلى دول "الاعتدال العربي"، والتي لديها اتفاقيات لتطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، منها مصر والأردن، خاصة مع تصاعد الحديث عن تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار، خلال العام الفائت.
إنّ سقوط حكومة نتنياهو، ووقف الحرب في غزة، بالإضافة إلى ضمان حقّ إيران في استكمال مشروعها النووي السلمي، وعدم الرضوخ للشروط الأميركية، سيكون بمثابة انتصار كبير لمحور المقاومة، فرضته صواريخ طهران الباليستية، التي عبرت لمسافة أكثر من ألف كيلومتر، وهبطت في الأراضي المحتلة، فأصبحت للمرة الأولى، صور الدمار تُنقل من "تل أبيب"، لا غزة.