إسبرطة وطوق النجاة الإسرائيلي
الاستقلال الأمني هو كلمة السرّ في جملة مواقف نتنياهو الأخيرة، يريد صناعات عسكرية مستقلة عن الغرب، والسبب حتى تمكنه من خوض حروبه من دون ضغوط خارجية.
-
يتجاهل نتنياهو نموذج طيبة التي فتكت بإسبرطة، مع أنه يربط التاريخ كله بغزة.
يصلح للدولة وجيشها أن تضطر إلى اتخاذ وضعية "الفلانكس" اليونانية القديمة عبر التدرع الكلي فترة معينة من الزمن، بحيث تتحول بكليتها أو بتموضع جيشها كله داخل آلية ميدانية متراصة في حركة دفاع أو هجوم، ليتحرك أو يتوقف باعتباره كتلة واحدة، قد يصلح ذلك، لكن نتنياهو يعلم وهو يتحدث عن اقتصاد الاكتفاء الذاتي، خاصة المتصل بالصناعات العسكرية، أن وضعية "الفلانكس" هذه أفادت إسبرطة اليونانية لزمن حتى اخترقها تكتيك الجنود الطيبيين عبر ضرب قلب كتلة التدرع الكلي هذه، فتفكك جيشها لتسقط معه هيبتها وحصانتها الذاتية من دون رجعة.
يتجاهل نتنياهو نموذج طيبة التي فتكت بإسبرطة، مع أنه يربط التاريخ كله بغزة والعمل على إبادتها، ولا يريد لغزة أن تفعلها مجدداً وتفتك بقلب "تل أبيب" في لحظة سبات كتلك التي عاشها نتنياهو شخصياً في السابع من أكتوبر، لهذا هو يتعلق بالنموذج الإسبرطي وهذه المرة عبر نافذة الاقتصاد العسكري، ولا يخفى عليه أن إسبرطة همّشت كل فعاليات الحياة الاقتصادية والأدبية والعلمية، وما أبقت على شيء غير الجيش المدرع ككتلة واحدة، فهل دخل نتنياهو في تصريحاته الأخيرة هذه حالة من المكاشفة لأول مرة، وهو يعترف بعزلة كيانه وبأن الآتي لن ينفع معه ما نفع مع ما مضى في سالف شهور الحرب وهو يواصل تسعيرها من دون تردد؟
يقول نتنياهو على غير عادته إنه "سيتعين علينا بشكل متزايد التكيف مع خصائص اقتصاد الاكتفاء الذاتي، إنها كلمة أكرهها، أنا من دعاة السوق الحرة، لقد عملت على قيادة "إسرائيل" نحو ثورة السوق الحرة، لكننا قد نجد أنفسنا في وضع تعرقل فيه صناعاتنا العسكرية، سيتعين علينا تطوير صناعات الأسلحة هنا"، وأضاف أنه "سيتعين علينا أن نكون مثل أثينا وإسبرطة العظمى، ليس لدينا خيار آخر، على الأقل في السنوات المقبلة، سيتعين علينا التعامل مع محاولات العزل هذه، ما نجح حتى الآن لن ينجح من الآن فصاعداً".
إذاً، هو طوق النجاة يبحث عنه نتنياهو في فصول التاريخ اليوناني، بعد أن أعيته غزة وصمود شعبها ومقاومتها، وسط بحر متلاطم من القتال الإسرائيلي على سبع جبهات، ونتنياهو لا يريد النجاة إلا عبر الحرب لماذا؟ لأن كيانه دخل عزلة بدأت تلقي بثقلها في حيوية الكيان، فما تفعله أميركا وستظل تفعله لم يعد ينفع، والشعب الأميركي بدأ على غير مزاج زعمائه كحال أوروبا والعالم، وليس بمقدور نتنياهو التراجع عن حربه، إذاً ليتحول كل الكيان الإسرائيلي إلى جيش يقاتل بلا هوادة، وهو يتحدث عن سنوات مقبلة على الأقل، لا فقط أسابيع معركة الحسم في مدينة غزة كما، وصف عملية عربات جدعون2 بعد فشل المرحلة الأولى منها.
سبق نتنياهو تصريحه الأخير هذا بتصريح على النقيض منه، تفاخر فيه بقوة الاقتصاد الإسرائيلي ونجاح عملة الشيكل الإسرائيلي بتجاوز الأزمات، وتبوؤ كيانه الموقع الثاني بعد الولايات المتحدة في استثمارات التكنولوجيا، هكذا تحدث إلى وسائل الإعلام منتشياً، ثم إذا به عندما عقد مؤتمره مع المحاسب العام لوزارة المالية ينسى ما تفاخر به ليواجه حقائق ما صنعته يداه، فإذا بطوق النجاة الإسبرطي وتدريع الدولة يرتد في وجهه، فماذا يفعل خاصة بعد ما تسببت به تصريحاته الأخيرة من هزة قوية في الاقتصاد الإسرائيلي؟
الكلام يمسحه الكلام، والغور في عمق التاريخ اليوناني بحثاً عن طوق نجاة في لحظة الحقيقة، يكون علاجه بقليل من مستحضرات التجميل الإعلامي الغربي، ونتنياهو بارع في الكذب ويثق بأكاذيبه ما دام ثمة أضواء ساطعة تبهر العقل الأميركي الأوروبي، وتجعله في حالة ذهول في حضرة الكيان الذي يدافع عن حضارة الغرب في وجه برابرة الشرق.
وقف نتنياهو في خاتمة تناقضاته ليضع لمسته الأخيرة قائلاً "نشأ سوء فهم على ما يبدو أنه هزّ سوق الأسهم، الأسواق تُدرك قوة الاقتصاد الإسرائيلي، وجدوى الاستثمار في "إسرائيل"، وهذا مهم لمستقبلنا وأمننا". وأضاف "لقد أذهل الاقتصاد الإسرائيلي العالم أجمع خلال العامين الماضيين، لا أقلل من شأن محاولات تقييدنا اقتصاديًا، لكن العالم يريد المنتجات الإسرائيلية، في عالم الإنترنت والذكاء الاصطناعي وجميع المجالات الأخرى، تُعتبر "إسرائيل" عاملًا رائدًا، وسيعمل اقتصاد السوق هنا كما كان يعمل حتى الآن، وإذا كان هناك درس واحد تعلمناه من هذه الحرب، فهو أننا نريد أن نكون في وضع لا نُقيّد فيه، أن تدافع "إسرائيل" عن نفسها بقواتها وأسلحتها، نريد تحقيق الاستقلال الأمني".
الاستقلال الأمني هو كلمة السرّ في جملة مواقف نتنياهو الأخيرة، يريد صناعات عسكرية مستقلة عن الغرب، والسبب حتى تمكنه من خوض حروبه من دون ضغوط خارجية، خاصة من تصاعد العزلة التي تأكدت في تصريحه الأخير على الرغم من كل محاولات التخفيف، ما يعني تعزيز العزلة عبر الاقتصاد العسكري الذاتي، وهو مسكون بتاريخ إسبرطة وقدرتها على القتال لعقود من دون توقف، لماذا القتال ولو بقصف بلد الوسيط؟ بحسب نتنياهو لأن المطلوب على وجه الحقيقة رؤية "إسرائيل الكبرى" كحلم تاريخي توراتي روحاني يداعب مخيلته، وهي هنا تبسط حدودها من النيل إلى الفرات رغماً عن الدول الحليفة المحيطة من القاهرة حتى عمان وعلى ضفاف أنقرة وبغداد.