إلى اللقاء في الشهادة

كان التشييع امتداداً للمعركة. جبهة المقاومة وجمهورها يؤكدان بقاءها واستمرارها، تقودها دماء الشهداء، وعلى رأسها دماء سيد شهداء الأمة.

0:00
  • كان تشييع السيد نصرالله امتداداً للمعركة.
    كان تشييع السيد نصرالله امتداداً للمعركة.

لم يكن الحشد، الذي حضر تشييع سماحة "السيد الأمة" مستغرباً، فمن على هذه الأرض يستحق أن تحج الجماهير إلى مقامه أكثر من سيد شهداء الأمة. ولم يكن لجمهور المقاومة أن يخذل نفسه، وهو الذي بذل كل غالٍ في سبيل أرضه ومقاومته.

بكينا، وهل تبكي الرجال إلا لمصارع الرجال؟ ومن أكرم من سماحة السيد الشهيد تُذرف من أجله العيون دمعاً، وتنزف القلوب دماً.

كان صباحاً مشمساً، عكس ما أشاعته التنبؤات الجوية "المغرضة" عن إعصار سيضرب المنطقة. حضر الجمهور بالملايين ولم يحضر الإعصار. لم تُثن التهديدات الصهيونية، ولا إلغاء رحلات الطيران، هذه الجموع، بل رفعت درجة التحدي، حتى إن البعض أمضى ليلته في محيط موقع التشييع، في انتظار صباح وداع خيرِ من سيتوسّد تراب هذه الأرض. مع بدء مراسم التشييع، سرَت في الجو نسمة باردة، كأن قشعريرة الموت سرَت من الجسدين الطاهرين إلى أجساد المشيعين. سمعنا صوته يخطب، ارتعشت القلوب والأجساد، وصرخت امرأة: "السيد رجع".

في كل مكان ترفرف الأعلام، من فلسطين، والعراق، وتركيا، والأردن، وآيرلندا، والبرازيل، وإيران. على امتداد البصر، تخفق الرايات الصفراء والخضراء، وبضع رايات تحمل شعار المطرقة والمنجل. لم يأت كل هؤلاء ليكونوا جمهوراً في وداع رجل سياسة أو دين فحسب، بل جاءوا أيضاً ليودّعوا أباً وأخاً وصديقاً، وفي داخل كل منهم قناعة راسخة بأن له قصة وعلاقة خاصة مع سماحة السيد الشهيد، على رغم أنه لم يلقَه في حياته.

عرف التاريخ كثيراً من القادة، الذين تركوا أثراً كبيراً في تجارب أوطانهم وحياة شعوبهم. بعضهم كان سياسياً أو مفكراً لامعاً، والبعض الآخر كان قائداً عسكرياً فذاً. قليلون هم القادة الذين جمعوا الفكر والسياسة والعمل العسكري في الميدان، فتحولوا إلى رموز وأيقونات نضالية. غيفارا، فيديل كاسترو، هوغو شافيز، والسيد حسن نصر الله، من طينة هؤلاء القادة، بل يتميز عنهم بأنه لم يستلم منصباً سياسياً في قيادة الدولة. كل الذين حضروا دفعهم حب القائد الشهيد، وإيمانهم الراسخ بأنه قدّم حياته مع رفاقه القادة الشهداء، في سبيل حفظ أرضهم وكرامتهم.

نحن، القادمين من بلاد الخوف والإحباط والاتفاقيات مع العدو، لم نعرف في حياتنا شيئاً يشبه ما رأيناه في محيط إستاد كميل شمعون؛ الملايين على قلب رجل واحد، وهتاف واحد، ودموع أينما نظرت، وتحدٍّ للعدو تكاد تلمسه بيديك. اختلطت في صدورنا مشاعر الفرح والحزن؛ حزن على شهيد بحجم أمة، وفرح بجمهور يعلن أن المقاومة هي خياره الوحيد، فيلوّح بقبضته لمقاتلات العدو، التي حلقت فوق موقع التشييع، وهو يهتف: "هيهات منّا الذلّة... الموت لإسرائيل".

كان التشييع امتداداً للمعركة. جبهة المقاومة وجمهورها يؤكدان بقاءها واستمرارها، تقودها دماء الشهداء، وعلى رأسها دماء سيد شهداء الأمة. جبهة متّحدة من مسلمين ومسيحيين، من عرب وأجانب، من فقراء وأغنياء. في الجهة المقابلة، جبهة العدو، حيث احتشد المشككون، والمهدِّدون، والكاذبون، تقودهم أوهامهم بإمكان القضاء على المقاومة ونزع سلاحها. بدأ الزحف منذ الليلة السابقة للمعركة، في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم الثالث والعشرين من شباط/فبراير، وانتهى مساء اليوم نفسه، معلناً انتصار الدم على السيف. 

أُصيب العدو وحلفاؤه بالذهول من هول المشهد، فانتقلوا إلى ساحات الإعلام. خارج لبنان، انطلقت أصوات إعلام الأنظمة تهدد من حضروا التشييع بالويل والثبور، وتتهمهم بـ"العمالة" لإيران، وطالب البعض باعتقالهم وسحب جنسياتهم. أما داخل لبنان، فتعامت القوى المعادية للمقاومة عن لحظة التشييع، وأطلقت أبواقها، مطالبةً بفرض الشروط الصهيونية على المقاومة، حتى وصل هذا السجال إلى قبة البرلمان اللبناني، عبر مطالبة بعض النواب بنزع سلاح المقاومة من جنوب الليطاني وشماله، وتحويل المقاومة إلى حزب سياسي، متناسياً ـ بل لعله فعل ذلك متواطئاً ـ أن العدو ما زال يحتل نقاطاً وأراضيَ داخل لبنان.

يطالب البعض المقاومة، عن حسن نية أو سوئها، بالعودة إلى الحرب لتأكيد انتصارها، ويرى من ساءت نيته في قبول المقاومة وقف إطلاق النار تأكيداً لهزيمتها وضعفها، فيحاول استغلال اللحظة التي صنعتها أوهامه ليطرح مشاريع التطبيع مع العدو، وسحب سلاح المقاومة، وفرض المعادلات الاستعمارية على منطقتنا. ما يغيب عن أوهام هؤلاء أن الحرب فعل استثنائي في سياق المقاومة، تفرضه شروط محدَّدة كتلك التي حدثت في حرب تموز أو طوفان الأقصى، أما الأصل فيكون في خوض حرب العصابات، عبر مجموعات صغيرة تهاجم مواقع العدو هجمات سريعة، فتحقق الإصابات المطلوبة، وتنسحب مباشرة. تدرك المقاومة جيداً الفجوة الكبيرة بين إمكاناتها وإمكانات العدو العسكرية، لذلك هي تعمل على تجنب الحرب المفتوحة، والتركيز على حرب التحرير الشعبية.

هذه الحرب لا تُخاض بالسلاح فقط، بل تحتل الشعوب دوراً مركزياً فيها. هذا ما رأيناه في تحرير الشعب اللبناني مدنه وقراه في جنوبي لبنان، وتحرير فلسطينيي غزّة مدن الشمال الفلسطيني، في ترجمة عملية لمفهوم المقاومة الشعبية. هذه الجماهير غير قابلة للترهيب أو الترحيل، لأن علاقتها بالأرض ليست علاقة ملكية فحسب، وعلاقتها بفكرة المقاومة ليست إيماناً موقتاً مرتبطاً بلحظة الاحتلال وفكرة التحرير فقط، بل إن الأرض أيضاً هي القاعدة التي تقف عليها، والمقاومة هي مشروعها للتحرير والتحرر من هيمنة الاستعمار ونهبه ثرواتها، والعلاقة بينهما ثابتة وغير قابلة للانفكاك.