مقايضة أميركية: سد النهضة مقابل التهجير

أحد ملامح المقايضة بين تسوية أزمة سد النهضة مقابل التهجير يتضح في التزامن -خلال أسبوع- بين حديث ترامب عن أزمة سد النهضة وزيارة دافيد برنياع، رئيس الموساد، لواشنطن.

  •  سد النهضة مقابل التهجير.
    سد النهضة مقابل التهجير.

طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل مفاجئ، ومن دون سابق إنذار ومن دون وجود مباحثات أو مفاوضات، "إمكانية التوصل إلى حل سريع" في أزمة سد النهضة الإثيوبي. وفي منتصف حزيران/ يونيو الماضي، خرج ترامب بتصريح مثير للجدل قال فيه إن "الولايات المتحدة موّلت بشكل غبي سد النهضة الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، والذي أثار أزمة دبلوماسية حادة مع مصر".

وذكر ترامب أزمة سد النهضة ثلاث مرات خلال أقل من شهر، الأمر الذي يُثير عدة تساؤلات عن أسباب إثارته أزمة سد النهضة، وفي هذا التوقيت بالذات، فما دوافع ترامب من ذكر سد النهضة؟ وهل يرتبط التركيز الأمريكي بقضايا إقليمية ودولية؟ وهل هناك مقايضة أمريكية تقوم على تسوية أزمة سد النهضة مقابل قبول مصر بتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء؟

 وهل طرح ترامب تسوية أزمة سد النهضة مقابل أن تغض القاهرة الطرف على المشروع الإسرائيلي المتعلق ببناء مدينة خيام في رفح تمهيداً لتنفيذ مخطط التهجير؟ هل تتقاطع تصريحات ترامب المتكررة حول سد النهضة بالمتغيرات الحاصلة، والتي تتقاطع بموضوع التهجير، كالترويج الإسرائيلي مثلا بأن إثيوبيا وليبيا وإندونيسيا قد تقبل بتهجير سكان قطاع غزة إليها؟

قبل الإجابة عن التساؤلات السالفة، تجدر الإشارة إلى أن واشنطن استضافت خلال ولاية ترامب الأولى جولة مفاوضات عام 2020، بمشاركة البنك الدولي، وترامب شخصياً كان راعياً للمفاوضات في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 - شباط/ فبراير 2020، ولكنها فشلت في الوصول إلى اتفاق بعد تغيب إثيوبيا يوم التوقيع، فيما وقعت مصر بالأحرف الأولى، وغضب ترامب حينها من الموقف الإثيوبي ومنع جزءاً من المساعدات التي أعادها الرئيس جو بايدن بعد ذلك. وبالتالي جزء من تصاعد وتدحرج وبقاء أزمة سد النهضة دون حل أو اتفاق قانوني مُلزم السبب فيه هو إدارة ترامب.  

وتاريخياً، فإن مشروع سد النهضة كان مخططاً أمريكياً، إذ إن مكتب الاستصلاح الأميركي هو مَن قام بالدراسات العلمية للمشاريع المائية في حوض النيل الأزرق 1958-1964، ومنها سد النهضة.

يلاحظ أنه منذ عودة ترامب للرئاسة في ولايته الثانية والرجل يميل الى منطق الصفقات ويُسيطر عليه هاجس القفز بين القضايا مدعياً إمكانية حلها بمجرد تصريحه عن رغبته في حلها، ويرى أنه بمجرد حديثه عن أي أزمة يمكن حلها، حتى وإن كانت أزمة مزمنة وذات أبعاد استراتيجية ومصيرية، وبمنطق الصفقات الذي يحكم النسق العقيدي لترامب يتعامل مع كل القضايا، بما فيها قضية أزمة سد النهضة، التي بالمناسبة فوّض إدارتها سابقاً لوزارة المالية لا وزارة الخارجية الأمريكية.

 وبالتالي حديث ترامب عن ضرورة تسوية أزمة سد النهضة وسريعاً ظاهره جيد، ولكن باطنه ذو احتمالين؛ الأول: أن الأمر لا يعدو كونه مجرد حديث لترامب، كما يتحدث عن الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة وغيرها من القضايا، والثاني: أن وراء حديث الرجل تختفي صفقة أو مقايضة، ذلك أن هذا هو المنطق الوحيد الذي يحدد قرارات ترامب: منطق الصفقات. وذلك دون اغفال أن الدافع الشخصي لترامب لاستدعاء ملف سد النهضة هو تقديم نفسه كصانع سلام يتطلع إلى جائزة نوبل للسلام!

فما هي حيثيات الصفقة وشواهدها؟ وما هي حظوظها؟ هل يُمكن أن تُمرر مصر وغزة مثل تلك المقايضة؟ ثم هل باتت تلبية الرغبات الإسرائيلية أحد أهم محددات السياسة الخارجية الأمريكية؟ وهل يصبح منطق الصفقات هو المحدد الضابط لحركة النظام العالمي بقيادة واشنطن وادارة ترامب؟

إن أحد ملامح وشواهد المقايضة بين تسوية أزمة سد النهضة مقابل التهجير يتضح في التزامن -خلال أسبوع- بين حديث ترامب عن أزمة سد النهضة وزيارة دافيد برنياع رئيس الموساد لواشنطن، في إطار سعي "تل أبيب" للحصول على مساعدة إدارة ترامب في إخراج الفلسطينيين من غزة.

وإبلاغ برنياع للمبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف بأن إثيوبيا وإندونيسيا وليبيا أبدت استعدادها لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين من غزة، وأن واشنطن يجب أن تُقدم حوافز لتلك الدول للموافقة على إعادة توطينهم. ويبدو أن إدارة ترامب كان لها موقف مغاير، وهو توطين الفلسطينيين في سيناء بدلاً من نقلهم إلى إحدى الدول الثلاث المذكورة، أو أن حديث ترامب يقع ضمن التلويح بالضغط على إثيوبيا من خلال سد النهضة حال رفضها استقبال الفلسطينيين.  

ومن بين الشواهد أيضاً أن حديث ترامب عن سد النهضة تزامن مع لقاء قائد القيادة المركزية الأمريكية مايكل كوريلا والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وقد تطرق اللقاء إلى عدد من الملفات الإقليمية، من بينها الهدنة في قطاع غزة. ويبدو أن المحادثات المصرية الأمريكية الموسعة والمهمة التي جرت، تطرقت إلى وعد ترامب بالتدخل لحل أزمة سد النهضة، إضافة إلى الوضع في قطاع غزة، وجهود الوساطة المصرية لإيجاد حل للحرب والذهاب إلى الهدنة. 

وفي الرؤية الأمريكية للوساطة المصرية، يتبلور الموقف الأمريكي الداعم للمخطط الإسرائيلي المسمى مدينة الخيام الإنسانية في رفح، وهو عبارة عن معسكر اعتقال، وكانت القاهرة قد أعلنت رفضها القاطع لمثل هذا المخطط. وبالتالي فإن هناك علاقة ما بين تحولات الموقف الأمريكي من سد النهضة وبين قبول مصر وموافقتها على مخطط مدينة الخيام برفح الفلسطينية تمهيداً لتنفيذ مخطط التهجير لاحقاً.

وبالفعل، عُرض على القاهرة حسم أمريكي لأزمة سد النهضة وإبرام اتفاق مكتوب ومُلزم يُنظم عملية التشغيل ويُراعي المخاوف المصرية بشأن السد وتدفق المياه، مُقابل دعم مصري للخطة الإسرائيلية بإقامة مدينة الخيام في رفح الفلسطينية، عبر تقديم الدعم اللوجستي للسلطة الفلسطينية التي ستتولى إدارة المدينة، عقب انتقال سكان القطاع إليها، وكذلك تسهيل عملية ما تسميه واشنطن بالتهجير الطوعي، قد لا يكون توطيناً في سيناء، وهذا مطلب مخفف لتقليل المخاوف المصرية، وبالتالي المطلب الأمريكي يشترط ألا تعارض القاهرة إقامة مدينة الخيام في رفح جنوب القطاع كخطوة أولية لمخطط التهجير الذي يخطط لتنفيذه وتمريره في اليوم التالي للحرب على غزة.

إن حظوظ وفرص المقايضة الأمريكية المُعلنة بخصوص سد النهضة والمسكوت عنها بخصوص التهجير ومدينة الخيام معدومة ولن تمر لعدة اعتبارات يمكن إيجازها في التالي: أولاً: أن العرض الأمريكي غير واضح وتصريحات ترامب فضفاضة ولا يوجد موقف أمريكي واضح من أزمة سد النهضة أو كيف يُمكن حلها، بل إن الولايات المتحدة هي التي دعمت ومولت وأيدت بناء سد النهضة، ولم تراعِ مصالح مصر. وبالتالي عرض ترامب هو عرض وهمي وابتزازي أكثر مما يبدو كوسيط.

 ثانياً: العرض الأمريكي "سد النهضة مقابل التهجير أو إقامة مدينة الخيام في رفح" يهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر، وهو ما لا يمكن أن تقبل به المؤسسة العسكرية المصرية، ثالثاً: العرض الأمريكي يهدد تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وتهجير سكان قطاع غزة، وهذا لا تقبل به مصر، والأهم أن الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وفصائله لن يقبل به، ولن يمرره إطلاقاً، ولا سيما بعد صبره وصموده ومواجهته الإبادة المتواصلة لأكثر من 650 يوماً.

 رابعاً: العرض الأمريكي مساومة وابتزاز يستعيد المنطق الاستعماري أكثر من كونه عرض وساطة لتسوية قضية مصيرية مهمة تتعلق بحياة شعوب المنطقة "مصر وغزة". خامساً: ترامب يُريد إحداث تغيير ديمغرافي في غزة نتيجته تطهير عرقي وجريمة حرب، مقابل ابتزاز شعب مصر ومصيره المتعلق بمياه الشرب، وكلاهما استخفاف بشعوب المنطقة. سادساً: مقايضة الأمن المائي لمصر مقابل حق الشعب الفلسطيني في أرضه وتهجيره هو استخفاف بالقانون الدولي، وهو يُقدم منطقاً مشوهاً في محددات العلاقات الدولية والنظام العالمي منطقه المقايضة والصفقات، حتى إن كان الأمر يتعلق بمصير شعوب بأكملها. وبالتالي هذه رشوة لن تمر لأنها تضع الأمن المائي لمصر مقابل التهجير، وكلاهما مرفوض. 

ختاماً، هذه المقايضة لن تمر، ولكنها تختصر الطريقة التي تفكر بها إدارة ترامب في تسوية وإدارة الصراعات والأزمات الدولية. أما تصريحات ترامب عن سد النهضة، فإنها تؤسس وتمهد لتحولات إقليمية عميقة عنوانها الضغط المائي مقابل التنازل السياسي، والابتزاز بدل الوساطة.