استئناف الحرب على غزة: "تكتيك تفاوضي" أم عودة إلى شبح "التهجير"؟

استئناف الحرب على غزة تكتيك تفاوضي، أو "تفاوض بالنار"، في حدّه الأدنى، وقد يستمر أياماً وأسابيع متعددة. أما في حده الأقصى، فهو استكمال لمشروع الإبادة والتطهير والتهجير، والذي يستهدف قطع رأس المقاومة.

0:00
  • في خلفية قرار استئناف الحرب، شبح المحاكمات والتحقيقات، التي تطارد نتنياهو.
    في خلفية قرار استئناف الحرب، شبح المحاكمات والتحقيقات، التي تطارد نتنياهو.

يستأنف نتنياهو وحكومة اليمين الفاشي الحرب على غزة، مدفوعَين بعوامل واعتبارات متعددة، داخلية في الأساس، بعد أن تحصَّلا على "ضوء أخضر" أميركي، إنفاذاً لوعيد "الجحيم" المصبوب على حماس وأهل القطاع، والذي ما انفكّ ترامب يقذف به صبح مساء، ويردد صداه موفدوه وأركان إدارته اليمينية المتطرفة كذلك.

في البعد الداخلي لقرار استئناف الحرب، يسعى نتنياهو لشد عصب الائتلاف اليمين الفاشي، بعد أن أصابته بعض شروخ وتشققات، بلغت ذروتها بانسحاب "عظمة يهودية" من الحكومة، وليس سوى سفك دماء الفلسطينيين والسطو على أرضهم وحقوقهم ومقدساتهم ما يُرضي هذا اليمين الدموي، لكأننا أمام مشهد يوزع فيه رئيس الحكومة "الهدايا الدامية" على أطراف الائتلاف، فيعطي بيُمناه سموتريتش والصهيونية الدينية ما يشترطانه للبقاء في الائتلاف، من استباحةٍ لمخيمات الضفة الغربية وبلداتها، وتصعيدٍ للزحف الاستيطاني، ويعطي بيُسراه بن غفير وفريقه الأكثر تزمتاً ما يتعطش إلى رؤيته من دماء وأشلاء لنساء غزة وأطفالها، ودائماً بمباركة أميركية معلنة. فالصمت المتواطئ لم يعد مفردة في قاموس هذه الإدارة.

ينتظر نتنياهو وحكومته استحقاق إقرار الموازنة. والتصويت عليها، كما هو العرف في "إسرائيل"، تصويت على "الثقة بالحكومة"، وهو يرغب في الذهاب إلى هذا الاستحقاق، مدجَّجاً بأغلبية وازنة ومضمونة، تضمن بقاء حكومته حتى نهاية ولايتها في العام المقبل. وثمة في "إسرائيل" من يتخوف من رغبات دفينه تراود نتنياهو، عبر تأخير الانتخابات بدلاً من تبكيرها، كما تطالب أغلبية "المجتمع الإسرائيلي"، وهي مخاوف مقرونة بنيات خبيئة وخبيثة، حذّر منها قادة إسرائيليون في المعارضة، من مغبّة إقدام نتنياهو على "اللعب بجوف صناديق الاقتراع"، على خلفية إصراره على إقالة رونين بار، رئيس الشباك، والمجيء بخلَفٍ له من تيار "الصهيونية – الدينية" الفاشي، الزاحف على مؤسسات الدولة، أمنية وعسكرية، مدنية وسياسية، قضائية وتنفيذية.

ومن الدوافع الداخلية لقرار استئناف الحرب على غزة ما يستشعره نتنياهو وفريقه من مخاطر انفجار شعبي غاضب ضد سياسات حكومته، بل ضده شخصياً في الأساس. فالأصوات، التي تعالت في الأيام الأخيرة، على خلفية الإخفاق التفاوضي المُتعمّد، ورفض إقالة بار والتحضير لطرد المستشارة القضائية للحكومة، كانت تنذر بدخول الاحتجاجات الشعبية المعارضة مرحلة يصعب السيطرة عليها، أو إدارة الظهر لصيحاتها، ولاسيما بعد أن تداعت إلى المشاركة فيها قوى وشرائح جديدة، لم تنخرط في حركة الشارع من قبل، مثل رؤساء الجامعات والمجتمع الأكاديمي وأحزاب سياسية نأت بنفسها نسبياً عن حراك عائلات الأسرى والمحتجزين. وليس أفضل من الزجّ بالإسرائيليين في أتون حرب واسعة من وسيلةٍ لتفادي هذه المواجهة، وتقليص حدة الاحتشاد الشعبي في الطرق والساحات.

وفي خلفية قرار استئناف الحرب، شبح المحاكمات والتحقيقات، التي تطارد نتنياهو، والتي تتكاثر يوماً في إثر آخر، كالنبت الشيطاني. ولعل التحقيق في فضائح الفساد، وتلقّي الرِّشى، وسوء استخدام السلطة، ليس أكثرها أهمية، فهناك أيضاً قضية "الاختراق القطري" لمكتب نتنياهو، والتي يتولاها رونين بار شخصياً، وهناك شبح "التقصير" في السابع من أكتوبر، وما تلاه من سوء تقدير وإدارة لأطول حرب عربية إسرائيلية، وكل واحدٍ من هذه الملفات كفيل بإنهاء المستقبل السياسي، وحتى المصير الشخصي لـ"ملك إسرائيل".

وكما جاء في بيانات فصائل المقاومة الفلسطينية، تعقيباً على قرار استئناف الحرب، فإن نتنياهو يجعل دماء الفلسطينيين وأشلاءَهم "قاربَ نجاة" للخروج من بحر متلاطم الأمواج، يكاد يبتلعه ويهدد مصير حكومته، ومصير "الفرصة التاريخية النادرة"، والتي لاحت في أفق المشروع اليميني الفاشي في شقّيه: الأول، المتعلق بالقضاء على الفلسطينيين ومقاومتهم ومشروعهم الوطني، والثاني، المتعلق بإعادة صياغة "الدولة اليهودية"، على صورة الفاشيين الجدد ومقاساتهم، وعلى نحو يُنهي حقبة "الصهيونية – العلمانية – الليبرالية"، التي ميّزت مراحل النشأة والتأسيس وما تلاها.

أما في البُعد الخارجي، فإن ما يفعله نتنياهو ليس سوى صورة فجّة عمّا يفعله ترامب، أو يهدد بفعله. نتنياهو يفتح أبواب الجحيم على غزة وحماس، إنفاذاً لوعيد ترامب، وهو قرر السبت الماضي أن يستأنف الحرب، تزامناً مع تهديد الموفد ستيف بيتكوف بأن الفرصة المتبقية لحماس قصيرة للغاية، قبل أن تنقلب الطاولة على رؤوس قادتها، في تناغم بدد ما أشيع عن "نهاية شهر العسل" بين واشنطن و"تل أبيب"، واتساع الفجوة بين "البيت الأبيض" و"الكرياه".

والمؤكَّد أن ترامب وفريقه وإدارته لا يأبهون، من قريب أو من بعيد، لعبث نتنياهو بالنظام السياسي الإسرائيلي، وفي ظني أن الانقلاب، الذي ينفذه الرجل على النظام السياسي الإسرائيلي، نظام الصهيونية – العلمانية – الليبرالية، وعلى نحو فجّ ومتسارع، إنما يقع وقعاً حسناً على أسماع سكان البيت الأبيض، الذين يفعلون شيئاً مماثلاً، ويقودون انقلاباً على النظام، وعلى أميركا التي نعرف منذ مئة عام، في أقل تقدير.كلاهما يضفي ملامح استبدادية على نظام الحكم لديه، وكلاهما امتنهن ويمتهن مقاربات خارجة على القانون الدولي والإنساني، وما استقرت عليه منظومة العلاقات الدولية من ضوابط ومحددات. إنهما وجهان للعملة القبيحة ذاتها.

حرب مفتوحة أم محدودة؟

يصعب الجزم كيف ستتفاعل تطورات الميدان. هنا في غزة، وهنا فقط، سيرتسم الجواب عن هذا السؤال، فلا أمل لغزة بإسناد خارجي كفيل بتغيير وجهة الحرب واتجاهاتها، بعد كل ما تعرض له حلفاؤها في فترة عام ونصف عام، التي مرت، من ضربات موجعة، ولا أمل يُرتجى من "صحوة عربية"، رسمية أو شعبية، لم تحدث طوال سبعة عشر شهراً، وليس ثمة سبب يدعو إلى الاعتقاد أنها ستحدث في الفصل الأخير من حرب التطويق والتطهير والإبادة.

على أن من المرجح، في أقل تقدير، أن تتواصل فصول استباحة الدم الفلسطيني إلى حين اجتياز حكومة نتنياهو استحقاق الثقة والتصويت على الموازنة، ما يعني أن غزة قد تذهب إلى حرب من عدة أسابيع، وربما ما هو أبعد من ذلك، أخذاً بنظر الاعتبار أن إسرائيل قررت، على ما يبدو، إعادة إنتاج السيناريو المتَّبَع في لبنان في غزة، كأن تواصل عمليات القصف الجوي وتنفيذ اختراقات برية محدودة، وعلى نحو متواصل، ترتفع شدته وتنخفض، وفقاً لمجريات السياسة الداخلية الإسرائيلية، ومقتضيات التفاوض المتنقل بين القاهرة والدوحة وجولات ويتكوف وأعوانه.

الجنرال إيال زامير، الذي يأتي متحمساً على رأس المؤسسة العسكرية، لمواصلة فنون القتل والتدمير للفلسطينيين وما تبقى من ممتلكاتهم، يعتمد، على ما يبدو، "تكتيك الصدمة والترويع"، مراهناً على أن قدرة "حاضنة المقاومة" على الصمود والثبات، بعد شهرين من الهدوء النسبي (ارتقى خلالهما 155 شهيداً)، ستكون أضعف كثيراً مما كانت عليه زمن الحرب الممتدة. وهذا التكتيك، على ما نعتقد، يلائم المستوى السياسي في "تل أبيب"، وفي واشنطن أيضاً، فمشروع "التهجير"، الذي تراجع ولم يُدفَن، قد يعود إلى الإطلالة برأسه البشع مجدداً، ولاسيما أن محاولات الشريكتين الاستراتيجيتين لإيجاد وجهة جديدة للمهجرين قسراً عن ديارهم، لم تتوقف بعد أن أقفلت في وجهها أبواب مصر والأردن، بل تواصلت لتشمل السودان والصومال و"أرض الصومال" وسوريا وغيرها من الدول الهشّة. وإدارة ترامب تَعِد قادة هذه الدول، التوّاقين إلى الحصول على "شرعية" و"اعتراف" دوليين، بمكافآت وجوائز ترضية.

استئناف الحرب على غزة تكتيك تفاوضي، أو "تفاوض بالنار"، في حدّه الأدنى، وقد يستمر أياماً وأسابيع متعددة. أما في حده الأقصى، فهو استكمال لمشروع الإبادة والتطهير والتهجير، والذي يستهدف قطع رأس المقاومة وتشريد أهلها، توطئة لاستكمال المهمة في الضفة الغربية. أمّا الحسم بين أيٍّ من السيناريوهين ستكون له الغلبة، فإنما يعود إلى صمود أهل غزة وثبات مقاوميها، لا شيء غير ذلك.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.