الانتخابات الأردنية في السياق الإقليمي

انتصر حزب جبهة العمل الإسلامي لغزة و"صناديق رصاص" مقاومتها، فانتصر الأردنيون لها في "صناديق الاقتراع"... تلكم حقيقة يجهد الثرثارون في تجاهلها والحط من تأثيراتها.

  • هل التجربة الأردنية قابلة للتكرار في دول أخرى؟
    هل التجربة الأردنية قابلة للتكرار في دول أخرى؟

فوز الإسلاميين في الانتخابات النيابية الأردنية (2024) استأثر باهتمام الدوائر السياسية والإعلامية في عواصم الإقليم والعالم ذات الصلة... مردّ هذا الاهتمام يعود لسببين اثنين: الأول؛ حجم الكتلة التصويتية للجماعة الإسلامية وذارعها السياسي، والثاني؛ ما يتكشّف عنه هذا "الاكتساح" من حقائق في بنى مجتمعاتنا العربية، وما يمور في دواخلها من تفاعلات، وما قد يترتّب عليه من نتائج وتبعات، وتحديداً في ضوء الحرب على غزة وفلسطين... والأهم من كل هذا وذاك، ما إذا كان من الممكن النظر لهذا الفوز المفاجئ، بوصفه نموذجاً قابلاً للتكرار في دول ومجتمعات عربية أخرى.

في السبب الأول؛ يمكن القول إن الكتلة التصويتية للحزب والجماعة، راوحت طيلة السنوات العشرين الفائتة بين حدَّي المئة ألف والمئتي ألف، تقريباً.... هذه المرة حصد الإسلاميون قرابة النصف مليون صوت، من أصل ما يربو قليلاً عن مليون وثلاثمئة ألف صوت تحصّلت عليها القوائم الحزبية/الوطنية في عموم البلاد، والبالغ عددها 25 قائمة، توزّعت على مختلف ألوان الطيف السياسي الأردني، من أقصى اليمين الديني والوطني إلى أقصى اليسار (الماركسية اللينينية)... هذه الأرقام لم تتحصّل عليها الحركة الإسلامية الأردنية منذ نشأتها المتزامنة مع استقلال الأردن في أواسط أربعينيات القرن الفائت.

وتضافرت جملة من العوامل الأخرى، في تظهير هذا الفوز، منها على سبيل المثال لا الحصر، اتساع الفجوة بين الإسلاميين والحزب الثاني الفائز في الانتخابات، فكانت أربعة أضعاف على مستوى عدد الأصوات وعدد المقاعد في مجلس النواب، من دون احتساب الفائزين في "الدوائر المحلية" الذين تأتي بهم في الغالب، أصوات عشائرهم وعوائلهم الممتدة، وليس أحزابهم بالضرورة.... ويمكن ملاحظة أنّ حزب جبهة العمل الإسلامي، منفرداً، قد جاء بما يقلّ قليلاً عن مجموع المقاعد التي حظيت بها جميع الأحزاب المحسوبة على "الدولة"، أو كما توصف في المغرب الشقيق "أحزاب المخزن والأعيان"، وكلّ ذلك في التنافس الحزبي على المستوى الوطني.

وكان للهزيمة المدوية التي منيت بها الأحزاب اليسارية والقومية، وأحزاب "يسار الوسط" والتيار المدني الديمقراطي، التي أخفقت جميعها في اجتياز عتبة الحسم، والحصول حتى على عدد "مشرّف" من الأصوات، كان لهذه الهزيمة أثراً في "تظهير" فوز الإسلاميين، والبرهنة من جديد، على أنهم الحزب الأكبر، والقوة الأكثر تنظيماً، لا في صفوف المعارضة وحدها، بل وفي صفوف "أحزاب الموالاة" كذلك.

تأثير غزة

ليس ثمة من تفسير لهذا "التسونامي" الإخواني، خارج تأثيرات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ولاحقاً على الضفة الغربية، وتماهي الحزب والجماعة في خطابهما مع خطاب حركات المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حركة حماس، واستنفار الحزب والجماعة لفروعها (82 فرعاً في عموم البلاد)، طيلة عام الحرب، للتظاهر والاعتصام والاحتجاج، لقد شغلوا الساحات والميادين والشوارع، من دون كلل أو ملل.

البعض رأى في سلوك الحركة الإسلامية، ضرباً من ضروب "الانتهازية واقتناص الفرص"، عبر امتطاء موجة التعاطف الشعبي مع شعب فلسطين ومقاومته، وغالباً ما يأتي هذا "الاتهام" في سياق حملات "شيطنة الحركة" التي لا تتوقّف، مع أن وظيفة الحزب السياسي، أي حزب سياسي، هي بالضبط التقاط اللحظة المناسبة لمخاطبة "جماهيره" والتعبير عن نبضها... ثم لماذا يريد هذا البعض، أن يجرّد الحركة من شعورها المتضامن مع حماس والمقاومة وغزة، ألم تتهم الجماعة ذاتها، بأنها "جزء عضوي" من حماس، ألم تُدفع دفعاً لـ "فك الارتباط التنظيمي والإداري" مع حماس؟... تارة تتهم الجماعة بأنها مرتبطة بحماس، وأخرى تتهمها بأنها تمتطي صهوة المقاومة بحثاً عن "شعبية رخيصة"!

البعض الآخر، يريد أن يُقيم تماثلاً بين موقفه المتعاطف مع الشعب الفلسطيني، وبدرجة لا تذكر مع حماس، للقول بأنه لا يجوز لفريق أن "يحتكر" حبّ الشعب الفلسطيني والتضامن معه، ضارباً عرض الحائط، بحقيقة أنّ ثمة فرقاً، بين تضامن بات شغل الجماعة الشاغل، وبين تضامن "مناسباتي" لا يتعدّى الوقفات الرمزية بين الحين والآخر.

لكنّ مجادلي الجماعة وخصومها، يتفقون على أنها بالغت في "تقديم" الأجندة الفلسطينية على الأجندة الوطنية الأردنية، ورغم أنني لا أرى تعارضاً بين الأجندتين، سيما وأن العدو الصهيوني، لا يرى سبباً لعدم استهداف الفريقين، إلا أن الأهم أن الانتخابات أظهرت، أن الشعب الأردني، في غالبيته، قد دعم هذا الترابط بين الأجندتين، وأظهر وعياً بمقولة "حتى نؤكل يوم أكل الثور الأبيض"، وأنّ رهان الجماعة على "أثر العامل الغزّي" كان في محله فيما رهانات الآخرين، ذهبت جفاءً... وعندما نقول "الشعب الأردني"، نقصد بذلك الشعب بمختلف أطيافه ومنابته ومرجعيّاته، فقوائم الجماعة الوطنية، حظيت بأصوات وازنة، في مناطق لم تنافس عليها "محلياً"، وفي بيئات معروفة بطابعها القبلي والعشائري.

انتصر الحزب والجماعة لغزة و"صناديق رصاص" مقاومتها، فانتصر الأردنيون لها في "صناديق الاقتراع"... تلكم حقيقة يجهد الثرثارون في تجاهلها والحط من تأثيراتها... وأحسب أن للأمر تبعات أبعد، يتعيّن على الجميع إدراكها، إن أراد أحدهم أن يستخلص "درس الانتخابات" وأن يبني على الشيء مقتضاه.

على الدولة بمؤسساتها المختلفة، مراجعة مقارباتها المعتمدة حيال إسلاميي بلادها، المدرسة الإخوانية بخاصة... يوم الاقتراع والفرز، وما اتسم به من شفافية ونزاهة، يمكن أن يشكّل نقطة البدء في مشروع المراجعة، التي يتعيّن أن تقوم على الاحتواء والإدماج، بخلاف المقاربات الاستئصالية لدول شقيقة، قائمة على الإلغاء والإقصاء.

وعلى اليسار (البرتقالي بخاصة) والقوميين، وبالأخص التيار المدني ويسار الوسط، أن يتعلّم الدرس جيداً، فمراجعاته لا ينبغي أن تقتصر على "الشكليات" و"الإجراءات"، والجهود التي يبذلها بعض أركانه لاقتراح قوانين انتخابية جديدة، لا هدف لها سوى تقليص مساحات الفوز أمام الإسلاميين، يتعيّن عليها أن تبذل المزيد لإعادة صياغة مواقفه ورؤيته حيال معسكر معادٍ لا يقتصر على "تل أبيب" وحدها، بل يمتد لعواصم استعمارية عديدة، وأن يستعيد "طريقته في المشي" بعد أن حاول تقليد مشي الغراب، فأخفق في تقليده ونسي مِشيته.

وثمّة حاجة وجودية تنتظر المجتمع المدني، في الأردن والدول العربية، تتمثّل في صياغة نظرية جديدة لمغزى ودور هذا المجتمع، بآلاف المؤسسات التي يتشكّل منها، والذي بدا ملحقاً هامشياً بأجندات يفرضها "نادي الدول والمنظّمات المانحة"، يسهم عن قصد حيناً وغالباً من دونه، في "تفتيت" الأجندة والأولويات الوطنية، ويشغل البلاد والعباد، بهموم ليس من بينها استكمال التحرّر الوطني واستكمال السيادة وتقرير المصير، وتلكم رسالة يتعيّن أن تصل للمجتمع المدني الفلسطيني أولاً، ولكن المجتمعات المدنية العربية، معنية بها كذلك.

هل التجربة الأردنية قابلة للتكرار في دول أخرى؟

مطلع كانون الثاني/يناير الفائت، أثار "ثريد" نشره كاتب هذه السطور، لغطاً في دوائر مسؤولة عديدة، يومها قلنا في "قراءة استشرافية" لتبعات طوفان الأقصى إقليمياً على المديّين المتوسط والبعيد، إن المستقبل القريب سيشهد عودة "الإسلام السياسي"، بعد عقد أو يزيد، من المطاردة والملاحقة، وبالذات "الطبعة الإخوانية" منه، ذلك أنّ بقية الطبعات "الجهادية" وكثير من مدارس "السلفية" أظهرت عزوفاً بائساً عن التفاعل مع الحدث الفلسطيني، وبعضها واصل حروبه "الدونكيشوتية" مع أطراف عربية وإقليمية انتصرت لغزة، كما في اليمن ولبنان وإيران وغيرها.

وقلنا من ضمن ما قلناه، إنّ اللاعبين "اللادولاتيين – Non-State Actors" الذين انتصروا لغزة والمقاومة الفلسطينية، سيحظون بأدوار أكبر مما حظوا بها في مجتمعاتهم والإقليم، معطوفاً عليها، ثقة وسمعة تخرجهم من "المحلية" إلى "الإقليمية"... الانتخابات الأردنية، كانت التمرين الأول، بالذخيرة الحيّة، لصحة هذه التوقّعات، البديهيات، التي لا تحتاج لـ "عبقرية" خاصة للوصول إليها، ولم نكن نلتفت إليها لولا ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة التي أثارتها.

وحين نقول "عودة الإسلام السياسي"، نقصد بذلك جناحيه أو مدرستيه، السنّية والشيعية، ومن "بركات" طوفان الأقصى أنه أسهم في تجسير الفالق الزلزالي المذهبي الذي ضرب المنطقة، قبل "عشرية الربيع العربي" وبالأخص أثناءها... وحين نقول "الإسلام السياسي" نضيف إليه "المسلح" في بعض الدول والمجتمعات العربية، على أنّ تفاعل حركات الإسلام السياسي مع الحدث الفلسطيني، لم يكن متشابهاً، وجاء متأثّراً بالسياقات الوطنية، وما تواجهه دول ومجتمعات عربية من انقسامات واصطفافات، ومثلما تحدّثنا عن تنامي احتمالات نكوص وتراجع "شعبية" حركات سلفية وجهادية، تزامناً مع نجاح حماس الإسلامية – الإخوانية، في إعادة الاعتبار للحركة الوطنية الفلسطينية، وفي استحداث المصالحة المطلوبة في تيارات قومية وعلمانية عربية مع الإسلام السياسي، فإن جماعات إخوانية عربية، تبدو مهدّدة اليوم في شعبيتها ونفوذها، بفعل استنكافها عن الانخراط في أنشطة وفعّاليات متضامنة مع غزة ومساندة لها، ودائماً لحسابات محلية. 

ففي اليمن، وبسبب النزاع الإخواني – الحوثي، جاء أداء الحزب اليمني للإصلاح باهتاً... وبدل أن يتجه الإخوان لجسر خلافاتهم مع أنصار الله، أو طيّها مؤقتاً على أقل تقدير، رأينا أحد رموزهم في أحد مؤتمرات التضامن مع الشعب الفلسطيني، يتغافل عن الترحّم على شهداء اليمن الذين سقطوا بالقصف الأميركي – البريطاني، في حين استذكر برحمته، شهداء فلسطين والعراق ولبنان وسوريا.

لقد جهد إخوان اليمن، في التمييز بين موقف متضامن مع حماس والمقاومة وفلسطين، تمليه عليهم مرجعيّتهم الإخوانية من جهة، وحروبهم المتنقّلة مع أنصار الله الحوثيين... لكن هذه المقاربة لم تصمد طويلاً، ولو أنّ إخوان اليمن شاركوا أنصار الله مساندته للفلسطينيين، حتى من خنادقهم الخاصة (على قاعدة السير منفردين والضرب في اتجاه واحد: العدو الصهيوني)، لربما تداركوا جزءاً من خساراتهم، لكنهم صرفوا الوقت كله، في السعي للبحث عن "الدوافع الخفية" للحوثي الكامنة وراء تصدّيه للسفن المتجهة صوب الموانئ الإسرائيلية... خسر الإصلاح وفاز أنصار الله.

إخوان لبنان، لم يفعلوا الأمر ذاته، تجاوزوا وبعض مشايخ السنّة، خلافاتهم السابقة مع الحزب، وانخرطوا في المعركة (بحدود قدراتهم أو ربما بما يفوقها)، وأحسب أن موقف الجماعة اللبنانية، برمزيّته، سيكون له أثر طيّب في تجسير "الفالق الزلزالي" الذي تحدّثنا عنه.

تفاعل الجماعات الإخوانية، جاء متفاوتاً مع الحدث الغزّي، لا مطرح لاستعراضها في هذه المقالة، وعواقبه على هذه الجماعات ومجتمعاتها، لن تستحدث الأثر ذاته، لكن مما لا شك فيه أنّ من انتصر لفلسطين، بالفعل لا بالقول، سيخرج كاسباً من هذه المحطة، ومن استنكف وظلّ على حساباته الصغيرة، حسابات "الحواري" و"عقلية البقّال الصغير"، سيخسر كثيراً، ففلسطين، برغم المزاعم والادعاءات كافة، ما زالت حاضرة بقوى في الضمير الجمعي للشعوب العربية، وما زالت بوصلة الرأي العام ومهوى أفئدة ملايين العرب والمسلمين، شاء من شاء وأبى من أبى.