الانتخابات الحزبية في سوريا: "البعث" أمام مرحلة مفصليّة وتحديات كبيرة

عمل الرئيس بشار الأسد، منذ العام 2000، على تطوير مؤسسات حزب البعث، ودفعها باتّجاه مواجهة تحديات عصر "العولمة". واتّسمت المرحلة الجديدة، بعثيّاً، بتقديم الوجوه الشابة ذات الكفاءات العلمية العالية.

  • حزب البعث أمام مرحلة مفصليّة وتحديات كبيرة.
    حزب البعث أمام مرحلة مفصليّة وتحديات كبيرة.

بعد نيل معظم الدول العربية استقلالها عن المستعمر، أواسط القرن الماضي، شهدت الحياة السياسية في معظم تلك البلدان، نشاطاً سياسيّاً غير مسبوق، وتنافساً كبيراً بين أحزاب نشأت وصعدت وقاتلت كي تجد لها مكاناً بين "الجماهير"، وقوّة تُمكّنها من بلوغ السلطة لتحقيق أهدافها. وقد اصطبغت تلك الفترة بالمدّين القوميّ والاشتراكيّ، وكانت مواضيع مثل الوحدة العربية والتعليم والتنمية ومكافحة الفقر الذي كانت تختبره وتعانيه الغالبية العظمى من أهل المنطقة، تدخل في منطلقات وشعارات وأهداف معظم تلك الأحزاب. 

في تلك الظروف الجديدة والصعبة جدّاً، نشأ "حزب البعث العربي الاشتراكي" في سوريا، عام 1947، وانطلق تحت اسم "حزب البعث العربي"، قبل أنْ يندمج مع "الحزب العربي الاشتراكيّ" في العام 1952، ويعتمد اسمه الرسميّ المعروف حتى اللحظة، متخذاً أهداف "الوحدة والحرية والاشتراكية"، شعاراً له. 

استطاع حزب البعث خلال وقت قصير جدّاً، بسبب النشاط الواسع لقياداته وكوادره، أنْ يحجز له مكاناً مهمّاً في الشارع السوري، ثم في الإقليم العربي بشكل عام. ففي الانتخابات التشريعية التي حصلت في العام 1954، حجز البعث 22 معقداً في البرلمان السوريّ، وبدا كقوّة سياسية وشعبية جدّية صاعدة بقوة، وبدأ بافتتاح أفرع له في عدد من البلدان العربية، أهمها العراق والأردن ولبنان. 

مرّ البعث بمراحل عصيبة ومفصلية في تاريخه، فبعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، في شباط/فبراير من العام 1958، حلّ البعث نفسه وانخرط في دولة الوحدة التي تُشكّل أولى أهدافه، لكنّ وقوع الانفصال في أيلول/سبتمبر من العام 1961، أعاده بقوة إلى النشاط والعمل السياسيّ، الذي أفضى إلى تسلّمه السلطة في آذار/مارس من العام 1963. 

عرفت الأعوام اللاحقة صراعات داخلية مريرة، شهد البناء الداخليّ للبعث خلالها اصطفافاً وتكتّلات ومنافسات محمومة بين القيادات، فعمد العسكريون البعثيون في العام 1966 إلى القيام بعمليّةٍ داخلية أطاحت بقيادات سياسية بعثية رفيعة، على رأسها أبرز مؤسسي الحزب، ميشال عفلق، والقيادي منيف الرزّاز، ورئيس الجمهورية في ذلك الوقت، أمين الحافظ.

وقد أدّت تلك العملية إلى انقسامات جديدة في جسم الحزب، حيث أعلن البعثيون العراقيون الانفصال عن الحزب الأم، وبات هناك "بعث عراقيّ" و"بعث سوريّ". وكانت تلك أقوى الضربات التي تلقّاها الحزب في تاريخه، خصوصاً أنها جاءت من داخل حصنه.

وفي حزيران/يونيو من العام 1967، شنّ كيان الاحتلال الإسرائيليّ، بمساعدة مباشرة مؤثّرة من الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية، عدواناً واسعاً على جميع الجبهات المجاورة لفلسطين المحتلة، واحتلّ أراضي عربية جديدة في سوريا والأردن ومصر ولبنان، وجاءت "نكسة حزيران" لتفاقم  الخلافات بين أوساط القيادة الجديدة للحزب في سوريا، لينتهي الأمر في 16 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1970، بقيام وزير الدفاع، اللواء طيّار حافظ الأسد ورفاقه، بحركةٍ داخلية، أُطلق عليها "الحركة التصحيحية"، أطاحت بالقيادة القائمة، ليبدأ عصر جديد للبعث في سوريا والمنطقة. 

كانت الفترة التي تسلّم فيها الرئيس الراحل، حافظ الأسد، مقاليد الحكم في سوريا، واحدة من أصعب المراحل في تاريخ البلاد، فالانقسامات السياسية واسعة جدّاً، وتداعيات النكسة لا تزال ماثلة وتخيّم على الواقع السوري والعربي عموماً، ما زاد من اتّساع الفجوة وحالة انعدام الثقة بين المواطن العربي وقياداته السياسية والعسكرية والحزبية، وبالتالي كان الأسد أمام اختبار كبير وعصيب، فشرعَ بسرعة في ترتيب أوضاع الجيش وتطويره وتسليحه، كما دفع باتّجاه تفعيل دور حزب البعث في المجتمع. 

فجاءت "حرب تشرين التحريرية" التي بادر الجيش السوريّ وشقيقه المصريّ لشنّها معاً ضد كيان الاحتلال الإسرائيليّ، أولى تلك النتائج وأهمّها، وقد تمكّن الأسد بالفعل، وخلال فترة وجيزة، من إعادة ثقة الشعب بجيشه وقيادته العسكرية. 

وبموازاة ذلك، وجّه الأسد مكاتب البعث وقياداته وكوادره باتّجاه العمل بين الجماهير من خلال المؤسسات التي عنيت بشؤون التعليم والصحة والزراعة والصناعة، وبدأت نتائج هذا العمل تظهر تباعاً من خلال بوادر التنمية التي تجلّت في العديد من المجالات المؤثّرة في البلاد. واستطاع البعث من خلال ذلك، اجتذاب شرائح واسعة من طبقات الشعب، خصوصاً في أوساط العمال والفلاحين والطلبة، وأبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة عموماً. وجاء سعي القيادة البعثية في سوريا، إلى إعادة اللحمة مع الشقيق العراقي، العام 1979، ليعزّز تلك الثقة بتوجّهات القيادة الحزبية وأهدافها، لكنّ البعث تلقّى ضربة أخرى حين جرى إفشال تلك المحاولة وهي في مهدها. 

وفي الوقت الذي شرعت قيادة "البعث العراقي" بخوض حرب ضروس مع جمهورية الثورة الإسلامية الوليدة في إيران، اتّخذت القيادة السياسية والحزبية في سوريا، قراراً تاريخيّاً بإعلان حلفها مع نظام الثورة الإسلامية الذي تبنّى القضية الفلسطينية كما لم يفعل أي نظام عربي آخر. ولعلّ تداعيات ذلك القرار الفاصل، لا تزال ماثلة وتنعكس على مسار النضال في سبيل تحرير فلسطين والمنطقة من الاحتلال وقوى الهيمنة، حتى هذه اللحظة، بل إنّ أقوى وأنصع تجليّاتها، تحدث الآن، في زمن "طوفان الأقصى". 

رسّخ البعث في تلك الحقبة، أي في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، من خلال الأحلاف التي عقدها مع قوى التحرّر في المنطقة والعالم، والتوجّهات التي أعتمدها داخليّاً، من مكانة وموقع سوريا في الواقع العربي والدوليّ، وقد زاد هذا الأمر من شدّة عداء القوى الاستعمارية والرجعية لها. 

وقد كان لافتاً جدّاً أن يتبارى بعثيون وقوميون سوريون وإسلاميون ويساريون، في القيام بعمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإسرائيليّ في لبنان، وكان بارزاً وفارقاً هذا التبنّي الرسمي، السياسي والحزبي، السوريّ لحالة المقاومة الصاعدة، بالقول والفعل، من خلال العمل الميدانيّ والسياسيّ مع الحليف الإيراني. وقد ختم الرئيس حافظ الأسد حياته بعد أنْ شهد إحدى نتائج ذلك الجهد الطويل المشترك، عند دحر المقاومة الإسلامية في لبنان، عام 2000، لقوات الاحتلال الإسرائيلي، وطردها ذليلةً خارج الحدود.

عمل الرئيس بشار الأسد، منذ العام 2000، على تطوير مؤسسات حزب البعث، ودفعها باتّجاه مواجهة تحديات عصر "العولمة". واتّسمت المرحلة الجديدة، بعثيّاً، بتقديم الوجوه الشابة ذات الكفاءات العلمية العالية، ونجح الحزب في تخطّي عقبات كثيرة بعد بروز أشكال جديدة من المواجهة مع أدوات القوى الغربية في الداخل، وخصوصاً منظّمات "المجتمع المدني" التي تلقّت دعماً غربيّاً كبيراً في شتى المجالات، كي تبرز وتؤثّر في الشارع السوري على حساب البعث. لكنّ أكبر تحدّ واجهه الحزب بعد دخول الألفية الجديدة، تجلّى في الهجمة الاستعمارية التي استهدفت سوريا من خلال ما سُمّي بـ "الربيع العربي"، والتي أفضت إلى شنّ حرب مدمّرة على البلاد، كان البعث أوّل المستهدفين فيها. 

كان شعار "إلغاء المادة الثامنة" من الدستور، والتي تُعدّ حزب البعث "قائداً في الدولة والمجتمع"، على رأس مطالب المحتجّين. وقد أقدمت القيادة البعثية بالفعل، على التخلّي عن هذه المادة في دستور العام 2012، لتحلّ مكانها مادة تؤكّد "تنظيم العمل الحزبي والسياسي وفق أسس ديمقراطية". لكنّ الأمر لم ينتهِ هنا، فزادت حدّة الهجوم على سوريا، لتدخل البلاد في حالة حرب استخدمت فيها قوى الهيمنة العالمية أدوات سورية داخلية وعربية وإسلامية تكفيرية، وبقي البعث في موقع الاستهداف طوال السنوات اللاحقة.

انشغل البعثيون، كغيرهم من أبناء سوريا، بالقتال دفاعاً عن بلادهم. وشكّل الحزب "كتائب البعث" التي باتت إحدى القوى العسكرية الرديفة للجيش السوريّ، وقدّمت تلك الكتائب آلاف الشهداء على مختلف الجبهات. وكما في كل المجالات، عطّلت الحرب الكثير من أدوار البعث بسبب ضراوة المواجهات والحصار والعقوبات، إلى أن استطاع الجيش العربي السوري وحلفاؤه في محور المقاومة، تحقيق الانتصارات المتتالية وتحرير الجزء الأكبر من الأراضي السورية التي سيطرت عليها القوى المعادية للدولة.

لم يتأخّر الأمين العام للحزب، الرئيس بشار الأسد، بعد جلاء غبار المعارك عن معظم الجبهات، في المبادرة إلى إعادة ترتيب البيت الداخليّ وتفعيل دور الحزب في الدولة والمجتمع، فأجرى تغييرات تنظيمية في العام 2018، واستُحدثت "اللجنة المركزية للحزب" لتحلّ مكان "القيادة القطرية"، ودُفع بعناصر شابة جديدة إلى واجهة العمل الحزبي، وبدت الفترة ما بين العام 2018، والعام 2024، كمرحلة تحضيرية ينبغي لها أنْ تُعيد رصّ الصفوف وتدارك التقصير أو القصور الذي أفرزه واقع الحرب، استعداداً للدخول في مرحلة جديدة في تاريخ الحزب.

أعلن الرئيس الأسد بوضوح، في الاجتماع التحضيري الأول للانتخابات الحزبية، أنّ موقع حزب البعث الاشتراكيّ، وموقفه من قضية تحرير فلسطين ودعم المقاومة الفلسطينية والعربية، والمشاركة في هذه المعركة المُكلفة والمُشرّفة، ثابت وراسخ أكثر من أي وقت مضى، وأنّ البعث لن يتخلّى عن مبادئه وأهدافه تلك، مهما جاءت التحديات والتكاليف كبيرة وغالية.

وعلى المستوى الداخليّ، رأى أنّ ثمّة حاجة مُلحّة إلى التطوير والتحديث والعمل المختلف الذي يهدف إلى وضع الحزب على السكّة المناسبة لمواجهة التحديات القائمة. وكان حازماً لجهة تجاوز الأشخاص والأسماء لصالح بناء المنظومة وتفعيلها بالشكل الأنسب. واعتبر الأمين العام، أنّ هذه الانتخابات "مفصلية وتاريخية" وتأتي بمثابة "إعادة تموضع" للحزب، ما يكشف عن عزم على التغيير، ووضع أهداف عمليّة من المفترض أنْ تؤدّي إلى انعكاس هذا التغيير في الواقع السوري. 

واللافت في الانتخابات الأخيرة، هو تقدّم وجوه جديدة إلى واجهة العمل الحزبي، وفي مقدّمهم الدكتور إبراهيم الحديد، الأمين العام المساعد الجديد في الحزب، وهو شخصية مشهود لها بالنزاهة ونظافة الكفّ والنشاط الإيجابي على مستوى الحزب كما على مستوى القطاعين الصحي والتعليمي، من خلال دوره السابق في جامعة حلب، ومستشفيات المحافظة والبلاد. والأمر ذاته ينطبق على حالة الدكتور، هيثم سطايحي، أمين السر الجديد في اللجنة المركزية، والذي عُرف عنه سعيه نحو الإصلاح الحزبي والتطوير وتقديم أفكار جديدة ناجعة. 

ولعلّ في مثال المهندس، سمير بهجت خضر، العضو الجديد في "اللجنة المركزية" عن محافظة طرطوس، ما يُنبئ عن الخلفية التي جرى من خلالها اختيار الأشخاص الذين سيدخل بهم الحزب مرحلته الجديدة، فخضر من الفعّاليات الحزبية التي نشطت بقوة في السنوات الأخيرة في المحافظة، ويحظى باحترام كبير بين أبنائها، نظراً لنظافة كفّه وتفانيه في عمله وبُعده عن كل أشكال الفساد. وهذا الأمر ينطبق على العديد من الوجوه الجديدة التي كان لها نشاط بارز بين أوساط المجتمع السوري في السنوات السابقة.

بَيَّن الرئيس الأسد، من خلال كلماته أثناء الاجتماعات الحزبية الأخيرة، حقيقة إدراك القيادة الحزبية للواقع الصعب الذي تعانيه البلاد، ولواقع الحزب المُعقّد وسط هذه الظروف أيضاً، خصوصاً في ظلّ اضمحلال دور الأحزاب العربية التقليدية التي تكاد تختفي عن الساحة العربية، وبالتالي دقّة وصعوبة المرحلة التي ينبغي فيها على حزب مثل "البعث"، يحكم أحد أهم البلدان العربية في المنطقة منذ العام 1963، وواجه ويواجه كلّ أشكال وأنواع المعارك والتحديات، أنْ يُعيد وهجه العمليّ على الساحتين الداخلية والإقليمية. لذلك سيكون البعث أمام استحقاقات كبيرة ومفصلية في هذه المرحلة، ولن يكون العمل التقليدي مفيداً أو ناجعاً أو مؤثّراً، والمنتظر شعبيّاً من القيادة الجديدة، أنْ تخوض معركة حقيقية، على كلّ المستويات، لإثبات قدرة البعث على الاستمرار والتطوّر والإنجاز.