الانتخابات المحلية التركية: التعثر الاقتصادي أم قوة الأحزاب؟

ربما كانت هذه الانتخابات امتحاناً لشعبية الأحزاب السياسية التركية من دون تحالفات، فكل حزب عرف حجمه ووزنه، وهذا ما يشكل حجر الأساس للعمل والاستعداد للانتخابات القادمة.

  • التضخم في تركيا أهم عوامل ضعف
    التضخم في تركيا أهم عوامل ضعف "العدالة والتنمية".

لا يمكن الحديث عن نتائج الانتخابات المحلية التركية من دون لحظ الأثر الكبير للاقتصاد وأزمة التضخم في سلوك الناخب التركي. هل يمكن الحديث عن تحوّل سياسي أم عن انعطافة؟ وهل الانعطافة بدأت في 2019 ولم يلحظها الرئيس التركي إردوغان حتى غدت تحوّلاً؟ أم أنه حاول اعتماد سياسة طبقاً لما يراه الأصح من أجل الهروب من الأزمة وانعكاساتها على شعبيته؟

هل يمكن القول طبقاً للنتائج إنها قوة الأحزاب وتطور أدائها في البلديات التي تولتها، وفي نهجها السياسي والاجتماعي ما تحكّم في خيارات الناخب التركي، أو أن المعارضة قد انتظمت وبنت على الأخطاء التي ارتكبها "العدالة والتنمية" وستتمكّن من المنافسة في الانتخابات عام 2028؟ أم أن التصدي للأزمة الاقتصادية يمكنه أن يعيد الألق إلى حزب "العدالة والتنمية"؟ 

التضخم في تركيا أهم عوامل ضعف "العدالة والتنمية" 

يعلم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن الاقتصاد كان عماد التصويت لحزب "العدالة والتنمية" مند بداياته عام 2002، إذ كان التصويت ضد سياسة الإفقار التي كانت سائدة في زمن حكومة أجاويد ويلماز وباهشلي حين شهدت تركيا في عهد تلك الحكومة أسوأ أزمة اقتصادية.

وبعد إعادة انتخابه في أيار/ مايو 2023، عيّن وزير الخزانة والمالية السابق محمد شيمشك في حكومته من أجل خفض التضخم الذي شكل أولوية بالنسبة إليه. تمتع شيمشك بمصداقية في الداخل والخارج فكلّفه إردوغان بالانتعاش الاقتصادي في تركيا، وقام بتغيير إدارة البنك المركزي.

 عمد الوزير إلى رفع نسبة الفائدة، لكن قدرته على فرض إجراءات لكبح جماح التضخم كانت محدودة. قام البنك برفع أسعار الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس مرة ثانية في 21 آذار/مارس، ما رفعها إلى 50٪.

قام شيمشك بتخفيف الإجراءات لحماية الليرة التركية المحاصرة، وفي الربع الأول من عام 2024، ظلت قيمة الليرة مقابل الدولار في طريقها لتلبية متوسط ​​36.8 مقابل الدولار المتوقع لهذا العام.

أدت هذه التغييرات في السياسة المالية، إلى جانب زيادة إيرادات العملة الصعبة التي تجاوزت 54 مليار دولار من السياحة في نهاية موسم الصيف، إلى تحسن نسبي في رصيد الحساب الجاري لتركيا العام الماضي. لكن، على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، امتنعت الحكومة عن اتخاذ تدابير أكثر صرامة لمعالجة الديناميكيات التي تغذي التضخم.

وكما فعل في أعقاب الانتخابات العامة، اتخذ إردوغان نهجاً سخياً نسبياً في رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 49%، وكذلك رواتب القطاع العام بنسبة 49.25% في الفترة التي سبقت الانتخابات المحلية، ما حفز الطلب المحلي. ونتيجة لذلك، ارتفعت الأسعار. وتم تأجيل بعض الخطط التي تعدّ تقشفية قاسية إلى ما بعد انتخابات 31 آذار/ مارس.

لقد أظهر إردوغان منذ فترة طويلة أنه يضع الأهداف السياسية فوق كل شيء آخر. وكانت سياساته الاقتصادية أيضاً مدفوعة بأهداف سياسية، حتى عندما يكون لها ثمن، وهكذا تريث الفريق الاقتصادي قبل أخد إجراءات التقشف، ولا سيما أن إردوغان كان يتوق لاسترجاع العاصمة الاقتصادية إسطنبول وكذلك أنقرة.

ما هي الأسباب التي ساهمت في فوز المعارضة 

لا شك أن مؤشرات المناخ السياسي كانت قد تغيّرت في تركيا منذ العام 2019، وكانت بمنزلة إنذار لحزب "العدالة والتنمية". يمكن إرجاع أسباب فوز المعارضة التركية إلى ثلاثة:

 التغيير السياسي الذي اعتمده حزب "الشعب الجمهوري" في ترشيح غير العلمانيين، والانفتاح على الشرائح الاجتماعية المحافظة، وعدم المغالاة في علمانيته والإقرار بحق المحجبات والمتدينين في أن يكونوا جزءاً من الوظيفة العامة، والاعتراف بحقوقهم الاجتماعية وتطوير النقاش في هذ الاتجاه، على الرغم من أن الموضوع أثار خلافات داخلية، بيد أن الأمر حسم نحو محاولة استقطاب الشريحة الأوسع.

أدى قرار تغيير قيادة حزب "الشعب الجمهوري" بعد الفشل في الانتخابات الرئاسية وانتخاب أوزغور أوزيل بدلاً من كمال كيليتشدار أوغلو إلى اعتماد أسلوب عمل جديد.

وتمكن مع فريق من الشباب من النجاح والعمل، وقد ساهم إمام أوغلو في إسطنبول ويافاش في أنقرة في استقطاب أصوات الناخبين الأساسيين لحزب "الشعب الجمهوري"، على الرغم من بعض الخلافات التي سادت الحزب بين المؤسسين وبعض التغييريين. 

شكل انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات من 84.6% إلى 78%، أحد العوامل المهمة التي أثرت في نتائج الانتخابات. وتبيّن أن أكبر عدد من الناخبين الذين لم يذهبوا إلى الصناديق الانتخابية هم من ناخبي "العدالة والتنمية"، فاستفادت منه المعارضة، إضافة إلى عدم رضى المتقاعدين عن الزيادة في معاشاتهم، إضافة إلى الاتهامات بالفساد وسوء الإدارة البيروقراطية، والمشكلات في هياكل حزب "العدالة والتنمية" التي تراكمت على مر السنين، ما أدى إلى قلب الموازين فحصل حزب "الشعب الجمهوري" على 37 في المئة من الأصوات، يليه حزب "العدالة والتنمية" بنسبة 35 في المئة. وأي مقارنة في الأرقام بين عام 2019 وعام 2024 توضح حجم الخسارة التي مُني بها التحالف الحاكم، الذي يضم "العدالة والتنمية" وحليفه "الحركة القومية".

فقد حزب "العدالة والتنمية" 15 من 39 محافظة كان يسيطر عليها في عام 2019، بينما زاد عدد بلديات حزب "الشعب الجمهوري" من 21 إلى 35.

وتضم هذه المحافظات أكبر المدن مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وأضنة. وانخفضت نسبة الأصوات المحلية لحزب "العدالة والتنمية" من 44% إلى 35%، بينما زادت نسبة الأصوات لحزب "الشعب الجمهوري" من 30% إلى 37%، ولأول مرة منذ 47 عاماً أصبح حزب "الشعب الجمهوري" الأول في تركيا.

لعب حزب "الرفاه" الجديد بقيادة محمد علي فاتح اربكان، وهو ابن أب الإسلام السياسي نجم الدين اربكان الذي تحالف مع حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات الرئاسية في أيار/ مايو 2023 دوراً في نجاح المعارضة؛ عندما اتخذ قراراً استراتيجياً بعدم دخول الانتخابات تحت مظلة حزب "العدالة والتنمية" أو التحالف معه، وانتقد سياسة إردوغان تجاه "إسرائيل" والتجارة معها في ظل الحرب على غزة.

الأمر الذي كان له بالغ الأثر في فقدان حزب "العدالة والتنمية" أصواتاً قريبة منه أيديولوجياً، لا سيما أن اربكان استقطب شريحة محافظة ومتدينة. أدت النتائج إلى حصوله على 60 مقعداً بلدياً، بما في ذلك شانلي أورفا ويوزغات، وحصة تصويت تزيد على 6% في مجالس المحافظات، وبرز الحزب كثالث أكبر حزب في تركيا.

لم يفلح حزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب"، في الفوز في شرناق وقارص، اللتين شهدتا نسبة تصويت عالية من قبل جنود الجيش والشرطة. ونجح في الفوز ببلديات 3 مدن حضرية و7 مقاطعات و63 منطقة. وحصل على 5.9 في المئة من الأصوات، وهو ما يزيد من أصواته مقارنة بالانتخابات البلدية السابقة.. أما المدن التي تقطنها أعداد كبيرة من الناخبين الكرد في المدن الكبرى فصوّتت لحزب "الشعب الجمهوري".

 الخاسرون إلى جانب حزب "العدالة والتنمية" 

الحزبان القوميان المتنافسان: حزب "الجيد" بقيادة ميرال اكشينر كان من أكثر الخاسرين، إذ اتخذت زعيمته مواقف أثارت تساؤلات عدة، فقد اختارت أن تنتقد حلفاءها في طاولة الستة، كما طاولت انتقاداتها حزب "الشعب الجمهوري" وقفت ضد ترشح كمال كليتشيدار أوغلو للرئاسة، فضلاً عن عدائها المستحكم لإردوغان وحليفه باهشلي رئيس "الحركة القومية".

وقد أدى استهدافها المستمر لحزب "الشعب الجمهوري" المعارض إلى نتائج عكسية. وانخفضت حصة حزبها من الأصوات إلى ما يقرب من نصف ما كانت عليه في عام 2023. وبدأت الدعوات إلى استقالتها من داخل حزبها في الساعات الأولى من الانتخابات.

أما رئيس "الحركة القومية" دولت بهجلي فانخفضت الأصوات التي نالها إلى نحو 5 في المائة، وفقد البلديات التي كان يسيطر عليها. وكانت الخسارة الأكبر هي بلدية مانيسا الكبرى، التي كان قد ربحها بدعم من حزب "العدالة والتنمية"، وذهبت إلى حزب "الشعب الجمهوري"، كذلك خسر بلدية كوتاهيا، التي كان يسيطر عليها منذ عام 1950، وذهبت إلى حزب "الشعب الجمهوري" للمرة الأولى.

يمكن القول إن نتائج الانتخابات المحلية كانت رسالة صادمة إلى "العدالة والتنمية" من ناخبيه وأنصاره بضرورة عدم الاستهتار بنبض الشارع، أو اعتماد سياسة الغطرسة، وهو ما أكده إردوغان بشكل أو بآخر. 

هل سيتمكّن إردوغان وحزبه من استعادة ثقة الناخبين وإصلاح الاقتصاد والإعداد لانتخابات 2028؟ ربما كانت هذه الانتخابات امتحاناً لشعبية الأحزاب السياسية التركية من دون تحالفات، فكل حزب عرف حجمه ووزنه، وهذا ما يشكل حجر الأساس للعمل والاستعداد للانتخابات القادمة.