البحر الميت: صراع البقاء

أصبح البحر الميت بقرة حلوباً لـ"إسرائيل"، بسبب غناه بالأملاح المعدنية، إذ يصل تركيزها فيه إلى 32%، في حين تصل إلى 3% فقط في البحار الأخرى.

  • البحر الميت: صراع البقاء
    البحر الميت: صراع البقاء

البحر الميت أعجوبة مائية فريدة لن يجد له المرء مثيلاً على وجه البسيطة، لكونه أكثر مكان منخفض عن سطح البحر في العالم، وهو أكثر البحار ملوحة. يتشاطر كلّ من الأردن وفلسطين المحتلة شطآن البحر الميت، لكن هذه الظاهرة النادرة أصبحت على شفير الموت، والسبب الرئيسي هو "إسرائيل".

"أمن إسرائيل" المائي احتلّ موقعاً رئيسياً في تفكيرها الاستعماري الإحلالي الإستراتيجي. جذور أطماع الحركة الصهيونية تعود إلى عام 1899، إذ قدم حينها مهندس سويسري -اعتنق اليهودية- مشروعاً لثيودور هرتزل، تضمن شق قناتين: الأولى للري، والأخرى للأغراض الملاحية والصناعية. وعام 1920، قامت الحكومة البريطانية بإيفاد مستشارين لدراسة كمية المياه في فلسطين، كمخطط استباقي لهجرة اليهود إلى فلسطين.

وعام 1944، قدم خبير أميركي مقترحين؛ ينطلق الأول من قاعدة إنشاء قناة تربط البحر المتوسط بالبحر الميت، وهذا بالفعل ما كان وتم البدء به، لكنه اصطدم برفض إسرائيلي، لكونه ليس مجدياً اقتصادياً، إضافةً إلى حشد الأردن المواقف العالمية رفضاً للمشروع لأنه من طرف واحد، وهو ما يخالف الأعراف الدولية، فتوقف مشروع القناة عام 1985.

شاهد أيضاً: ميداني | البحر الميت - صراع البقاء

المقترح الأميركي الآخر قضى بتحويل مجرى نهر الأردن الذي شرعت "إسرائيل" في تنفيذه بعيد احتلالها الضفة الغربية، فنهرُ الأردن شريان الحياة للبحر الميت. وقد تراجعت كميات مياهه التي كانت تغذي البحر -مقدارها 1.2 مليار متر مكعب سنوياً- إلى 1% فقط، ما أدى إلى انخفاض منسوب مياه البحر.

لم تكتفِ "إسرائيل" بالاستيلاء على مياه نهر الأردن بغية إقامة مستوطنات سكنية وزراعية، إنما تعددت أساليب تلويثها مياه النهر بمخلفات الأسمدة ومزارع الأسماك، ما أدى إلى قتل الحياة النباتية والسمكية في النهر.

شره "إسرائيل" لم يتوقّف على سرقة المياه وتلويثها فحسب، إنما تعداها إلى إقامة السدود المائية على الأودية واحتجاز مياه الأمطار وسحبها إلى صحراء النقب، وهي تستولي على مياه الينابيع في منطقتي صحراء الخليل ووادي عربة، إضافة إلى حفر الآبار وسرقة مياهها الجوفية.

أصبح البحر الميت بقرة حلوباً لـ"إسرائيل"، بسبب غناه بالأملاح المعدنية، إذ يصل تركيزها فيه إلى 32%، في حين تصل إلى 3% فقط في البحار الأخرى. الأردن و"إسرائيل" يستخرجان المعادن من البحر، وتحرم الأخيرة فلسطين من حقها به.

أما عملية تجفيف الجزء الجنوبي منه، فهي جارية على قدم وساق منذ سنوات، فقد تم إنشاء برك لتبخير المياه وإنتاج البوتاس والمواد الكيماوية من أجل الصناعات الكيميائية والتكنولوجية والطبية والتجميلية.

نعمة المعادن إذاً انقلبت إلى نقمة، والصناعات المقامة على شواطئ البحر تستنزف ما يقارب 400 مليون متر مكعب سنوياً من مياهه الغنية بعناصر كيميائية، منها: عنصر البروم الذي يستخدم في الصناعات التكنولوجية، والمغنيزيوم الذي يستخدم في صناعة الطائرات والمركبات، والبوتاسيوم الذي يستخدم لإنتاج الأسمدة الكيماوية. أما طينة البحر الميت، فتستخدم لأغراض علاجية.

وتستغل "إسرائيل" مياه البحر إلى أبعد حدود، وعلى نحو سافر، إذ إنها توفّر 9% من البوتاسيوم في العالم، وهي تقبع في المرتبة السادسة عالمياً من حيث تصديره.

علاوةً على ذلك، تنتج من هذه الصناعات مخلفات ضارة. خير دليل على ذلك ما أعلنه الإعلام الإسرائيلي عام 2021، وعدّه اكتشافاً عظيماً، وهو النهر السرّي الوهمي الذي يعدّ في الحقيقة قناة مائية لتصريف المياه الفائضة عن استخراج المعادن. وقد تكتمت "إسرائيل" على وجود النهر، وأحالت منطقته إلى إحدى المناطق المعروفة بـ"المناطق الحرام المحرّم الوصول إليها"، وهي منطقة حدودية عسكرية مغلقة ملأى بالألغام.

إضافةً إلى ما تقدّم، تؤدي الطبيعة -إلى حد ما- دوراً في انحسار البحر الميت من حيث انخفاض معدل تساقط الأمطار الذي يقدر بـ39 مليون متر مكعب سنوياً، في مقابل 754 مليون متر مكعب يتم تبخيرها سنوياً جراء ارتفاع درجات الحرارة وصناعات التعدين، ما يؤدي إلى فقدان ما يقارب مليون متر مكعب سنوياً، إذ أصبحت جزر الملح تغزو البحر الميت.

تتربع "إسرائيل" على عرش العوامل المدمرة للبحر الميت الذي فقد ثلث مساحته التي كانت تقدر بألف متر مربع تقريباً، ناهيك بوصول مياه البحر إلى مستوى غير مسبوق، إذ إنَّه يفقد متراً من ارتفاعه سنوياً، فيما يؤكد الخبراء أن الحد الأعلى من فقدان المياه في البحار الأخرى هو ميليمتر واحد لكل 10 أعوام، لتصل النسبة في البحر الميت إلى 10 آلاف ضعف. 

ووفقاً للخبراء، فإن ما تحدثه "إسرائيل" من تخريب في البحر الميت وبيئته خلال 10 سنوات يعادل ما يمكن أن تحدثه الطبيعة خلال ألف سنة، ولا سيما مع ظهور ظواهر غير طبيعية، كالحفر الانهدامية بأقطار وأعماق متفاوتة قد تصل إلى 40 متراً، وهي قنابل موقوتة لا يعرف لتشكّلها أي زمان أو مكان، بحيث تنهار الأرض فجأة من دون سابق إنذار وتبتلع ما يعتليها.

البحر الميت يحتضر. هناك حلول طفت على السطح لإنقاذه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، لكنها تبدّدت مع إلغاء مشروع قناة البحرين الذي جمع كلاً من الأردن والسلطة الفلسطينية و"إسرائيل"، وكان يقضي بتحلية مياه البحر الأحمر وتقاسمها بين الأطراف الثلاثة، فيما يتم نقل المياه المالحة إلى البحر الميت، لكن المشروع واجه معارضة من خبراء البيئة الذين رأوا أن جلب مياه البحر الأحمر إليه لن يحل المشكلة، بل سيخلق مشكلات لكلا البحرين من حيث التأثير السلبي في التوازن البيئي في بيئتيهما البحرية.

المشروع وُئِد في مهده قبلَ أن يبصر النور، ليس بسبب خطره البيئي، إنما نتيجة انسحاب البنك الدولي من المشروع بإيعاز من "إسرائيل"، وفق المختصين، فالمشروع سيزود الأردن وفلسطين بالمياه والطاقة، و"إسرائيل" لا تريد أن تصل دول الجوار إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، وهذا يقع ضمن مخططاتها وأولوياتها للسيطرة على المنطقة، وهو ينسحب أيضاً على وجود النفط الذي تقوم باستخراجه، لكنها تعمل من خلف ستار مع الشركات العملاقة العابرة للقارات لإيهام الأردنيين والفلسطينيين بعدم وجوده أصلاً، رغم أن جميع الأدلة التاريخية تؤكد وجوده منذ زمن الأنباط الذين قاموا بتصديره إلى مصر واليونان.

"إسرائيل" تستبيح البحر الميت بالطول والعرض، رغم عدم أحقيتها بالسيطرة على منابع المياه، لأنها استولت عليها بالقوة العسكرية، وبصفتها "دولة" احتلال، ومن دون ذريعة قانونية، والقانون الدولي يمنع أيّ تغييرات أو تحويلات جذرية من دون موافقة الدول الأخرى المجاورة لها.

البحر الميت كان، ولا يزال، ضحية "إسرائيل"، ووجعه طال وامتد واستبد، وإنقاذه ليس مستحيلاً، وهو في يد "إسرائيل" التي تتباكى على ما آل إليه وضعه، فإعادة مياه نهر الأردن إلى مجاريها الطبيعية هي مربط الفرس لعودة الحياة إليه من جديد، لا أن يترك وحيداً يصارع من أجل البقاء.