الشرق الأوسط على حافة الاحتمالات

في الأفق الدولي، تمرّ الولايات المتحدة بمرحلة بالغة الحساسية من عمر هيمنتها. إنها تواجه أكبر تحدٍ منذ انتهاء الحرب الباردة. خصومها، من طهران إلى موسكو، وصولاً إلى مركز المنافسة الأهم في بكين.

0:00
  • إذا كان التاريخ يعلّم شيئاً، فهو أنّ هذا السقوط يأتي حين لا يتوقّعه أحد.
    إذا كان التاريخ يعلّم شيئاً، فهو أنّ هذا السقوط يأتي حين لا يتوقّعه أحد.

أيّ مشهد هذا الذي يخيّم على الإقليم؟ وأيّ مصيرٍ تُرسم ملامحه؟ وهل بات تجّدد الحروب احتمالاً مرجّحاً؟

في سوريا، لبنان، فلسطين، وسائر بقاع المشرق، تتكشّف صورة قاتمة لأنظمة سياسية غير مكتملة، لحروبٍ لم تُحسم، لمشاريع هيمنةٍ مبتورة، ولسدود دفاعية لم تُشيّد بعد على أسسٍ صلبة. الجميع يترنّح فوق أرجوحة جيوسياسية لا ضمان لاستقرارها، ولا ركيزة تقطع الشكّ باليقين.

تعلم كلٌّ من "إسرائيل" والولايات المتحدة أنّ ميزان القوى الراهن، وإن أظهر تفوّقاً لهما، إنما يقوم على أرض رخوة؛ هشاشة هذا التفوّق تكمن في تسارع التقدّم التكنولوجي في الصناعات العسكرية، والتنامي المتسارع للذكاء الاصطناعي، ما يقلّص تدريجياً الفجوة بين من يمتلك اليوم أدوات السيطرة، وبين من يسعى بجدّية إلى امتلاكها.

فالهيمنة التي تستند اليوم إلى التفوّق في الطيران القتالي، ونظم الاتصال الفائقة، والأسلحة القادرة على اختراق التحصينات، ستواجه خلال سنوات قليلة واقعاً جديداً، حيث تتحوّل الطائرات المسيّرة إلى أدوات قتال مستقلة، لا تحتاج سوى إلى عقل اصطناعي يُبرمجها على القتل والتكتيك. وفي هذا الواقع، من يمتلك المعرفة، والقدرة على التصنيع، يجد نفسه في مصافّ الكبار، ولو كان حتى الأمس القريب في صفوف المتأخّرين.

ولذلك، فإنّ "إسرائيل" وواشنطن تدركان أنّ الخصوم، ولا سيما أولئك القريبين من جبهات الصراع، يمتلكون فرصة غير مسبوقة لسدّ الفجوة، ما يدفع بهما إلى استعجال فرض تسويات نهائية، تحت عنوان "حصرية السلاح"، خاصة في لبنان، لإجهاض أيّ إمكانية مستقبلية لتكافؤ الردع.

في المقابل، ثمّة توجّه إقليمي متصاعد يربط بين تحقيق استقرار سياسي واقتصادي شامل، وبين طيّ صفحة الماضي بما حمله من حروب وصراعات. غير أنّ هذا الانتقال محفوف بالمخاطر؛ فهو لا يتمحور حول مجرّد الاختيار بين نموذجين اقتصاديين أو اجتماعيين، بل يتمثّل في القبول بمنظومة ترتّبها واشنطن قبل الانخراط في معركتها الكونية ضد الصين. الخطورة هنا تكمن في أنّ العروض الأميركية لا تتجاوز حدود الوعود المجرّدة، فهي تفتقر إلى الضمانات، وتُرفق عادة بتهديدات: من عصا العقوبات إلى سوط الغطرسة الإسرائيلية.

في الأفق الدولي، تمرّ الولايات المتحدة بمرحلة بالغة الحساسية من عمر هيمنتها. إنها تواجه أكبر تحدٍ منذ انتهاء الحرب الباردة. خصومها، من طهران إلى موسكو، وصولاً إلى مركز المنافسة الأهم في بكين، يدركون أنّ الصدام المباشر مكلفٌ في هذه المرحلة، لذا يعتمدون سياسة النفس الطويل: ضربة واحدة، ثم انسحابٌ تكتيكي، ثم هجومٌ خاطف آخر. الغاية: إنهاك واشنطن، ودفعها إلى صرف اهتمامها عن الصراعات الجانبية، تمهيداً للمواجهة الكبرى مع التنين الصيني.

على ضوء ذلك، تتكرّر في سوريا، العراق، ولبنان، طروحات ذات طبيعة متشابكة: توحيد السلاح، لامركزية موسّعة، ربط التنمية بالسياسة الخارجية. هذه العناوين، رغم أنها تتفاوت في خلفّياتها وسياقاتها المحلية، فإنها تشي بقلق إقليمي عامّ، وتساؤلات حادّة حول شكل السلطة المقبلة، وشرعية السيادة، ووحدة القرار.

في سوريا، المشهد أكثر قتامة.

تضافر الأحداث الأخيرة، من تصعيد في الساحل إلى الاحتكاك مع الكرد في الشمال الشرقي، مروراً بضغطٍ إسرائيلي متواصل على النظام، ووصولاً إلى الانفتاح السافر على احتمالات تطبيعٍ مجاني مع "تل أبيب"، كلّها مؤشرات تُنذر بتفكّك سريع في الجغرافيا السورية، إن لم تطرأ مفاجأة تنقذ ما تبقّى من المركز.

هذا التفكّك المحتمل لن يظلّ محصوراً في الجغرافيا السورية؛ ارتداداته ستطال لبنان والعراق، ولن تكون فلسطين بمنأى عنه. أما قدرة الحكم السوري الجديد على إدارة هذه الفوضى، فهي رهنٌ بمدى التزام حلفائه، الذين، عندما تحين لحظة الحقيقة، سيكونون على الأرجح منشغلين بجبهاتهم الداخلية، خاصة تركيا التي تبدو اليوم أكثر تهيّؤاً لإعادة تموضع استراتيجي كبير.

أما العراق، فمقبل على مفترق طرق سياسي.

الانتخابات المقبلة تحمل في طيّاتها صراعاً بين بقاء النموذج المركزي القائم على توازنات ما بعد الاحتلال، وبين نزعات لامركزية ذات طابع مناطقي تتغذّى على شعور بالإقصاء من دائرة القرار الوطني. هذه النزعة، رغم طابعها التنموي في الظاهر، تُخفي وراءها مشروعاً لتفكيك السيادة وتحويلها إلى سيادات محلية، ما يعني تفكيك القرار السياسي وتأكّل قدرة العراق على الصمود ككتلة استراتيجية في وجه الضغوط الخارجية.

في لبنان، حيث الخطر أوضح، والفرص أوفر.

يتأرجح البلد بين شبح حربٍ شاملة وأملٍ بنهضة متأخّرة. التحرّكات الأميركية الكثيفة، عبر موفدها توم براك، تحمل رسائل مركّبة: من جهة، ضغطٌ لتصفية مسألة السلاح، ومن جهة أخرى، محاولة لفتح كوّة في جدار الأزمة، بشرط أن تأتي المقاومة بخطوة تجاه الدولة، وهو ما بدأ فعلياً في الأسابيع الأخيرة، مقابل خطوة مقابلة من واشنطن تأخذ بعين الاعتبار الوقائع اللبنانية، وتعترف بأنّ موضوع السلاح مزدوج الهوية: محلي الطابع، دولي التداعيات.

هذا يضع على الطاولة جملة ضرورات لا يمكن تجاهلها:

• أن تربط واشنطن مطالبها بمبادرات ملموسة: انسحاب إسرائيلي، إطلاق الأسرى، ضمانات أمنية وقانونية تمنع تكرار العدوان.

• أن تعترف بأنّ الوقت ليس لصالح "إسرائيل"، حتى وإن ذهبت إلى أقصى درجات التوحّش العسكري، لأنها لا تواجه فقط بندقية، بل فكرة، وهذه الفكرة مرتبطة بالحقّ الطبيعي للإنسان في مقاومة الاحتلال.

الحرب إذن، ممكنة، لكنها لن تكون حاسمة.

إن حصلت، فستعطي نتائج مرحلية وتكتيكية، لكنها تُفاقم المأزق الاستراتيجي، خاصة في ظلّ استمرار العدوان على غزة، الذي، ورغم قسوته، لم ينجح في تحقيق النتيجة المطلوبة بالقضاء على حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه، وإرادته بالمقاومة وتعطيل الأهداف السياسية للإبادة، وهي تتمحور حول إبادة الحقّ السياسي للفلسطينيين في تأكيد وجودهم في أرضهم وحقيقة قضيتهم، بل كشف هشاشة "إسرائيل" الأخلاقية، وزاد من تقويض صورة داعميها الغربيين.

ولأنّ الحرب، متى تجاوزت حدّاً معيّناً من العنف، تنقلب على مشعليها، فإنّ استمرارها يصبح عبئاً لا على الخصوم، بل على من اختارها وسيلة لبسط الهيمنة. لكنّ هذا الدرس، رغم بداهته، يبقى غائباً عن صنّاع القرار في واشنطن و"تل أبيب"، لأنه مرتبط ليس بعمر الأشخاص، بل بعمر الدول والإمبراطوريات، وهو ما يفسّر لماذا يتأخّر سقوط القوة المتغطرسة، حتى بعد انكسار سرديّتها الأخلاقية والحضارية.

وإذا كان التاريخ يعلّم شيئاً، فهو أنّ هذا السقوط يأتي حين لا يتوقّعه أحد… لكنه حين يأتي، لا يرحم.