التدويل الذي حاربه نتنياهو، ثم استجلبه بنفسه، كيف يتخلّص منه؟
تبنى مجلس الأمن خطة ترامب المكونة من عشرين نقطة، والتي تتضمن قوة دولية في غزة و"مساراً نحو دولة فلسطينية"، لكن نتنياهو اختار التركيز فقط على الجوانب التي تناسبه!
-
يبدو جلياً لنتنياهو أن الرئيس ترامب مصمم على التقدم في تنفيذ خطته في قطاع غزة.
مع صدور قرار مجلس الأمن الرقم 2803 انشغل النُقّاد بالتداعيات والآثار السلبية التي قد يجلبها القرار على الضفة وغزة والقضية الفلسطينية برمتها، خاصة مع رفض المقاومة الفلسطينية له، وأغفل غالبيتنا، أو هكذا أراد نتنياهو بعد أن رحب بالقرار، فحص التداعيات السلبية التي يحملها القرار على الجانب الإسرائيلي.
بعد صدور القرار وُجِّهت انتقادات لاذعة في الساحة السياسية الإسرائيلية، وتحديداً من شركاء نتنياهو فيما يخص الإشارة إلى الدولة الفلسطينينة في نص القرار، وقضية القوة الدولية التي اعتُبرت تنازلاً في غير مصلحة "إسرائيل" يهدف إلى زيادة تقييد يدها في القطاع.
عملياً، تبنى مجلس الأمن خطة ترامب المكونة من عشرين نقطة، والتي تتضمن قوة دولية في غزة و"مساراً نحو دولة فلسطينية"، لكن نتنياهو اختار التركيز فقط على الجوانب التي تناسبه؛ نزع سلاح حماس وتفكيك حكمها، والقضاء على التطرف، وتوسيع اتفاقيات أبراهام...!
صحيح أن القرار أخذ بملاحظات "إسرائيل" ومطالبها، وصحيح، بقدر كبير، أنه لا يمكن لقرار مجلس الأمن وحده أن يُغير الواقع على الأرض، ولنكن صريحين وواضحين كذلك، هذا ليس قراراً لإقامة دولة فلسطينية اليوم أو غداً، فصياغته غامضة للغاية واحتمالية مشاركة السلطة الفلسطينية محدودة جداً، ومع ذلك، فإن هذا القرار، الذي يُعرب عن دعمه لخطة ترامب وإنشاء "مجلس سلام" لإدارة قطاع غزة، ويُخول الدول إنشاء قوة استقرار دولية تابعة لمجلس السلام يشير أولاً، إلى أن "إسرائيل" لن تتمكن من العودة إلى الحرب في القطاع بصورتها التدميرية الواسعة من دون الإضرار بشكل كبير بعلاقاتها مع إدارة ترامب، التي تُمثل الدعم الدولي الوحيد المتبقي لحكومة نتنياهو، وثانياً، أن العالم لم يتخلَ بعد عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وفق ما ترغب "إسرائيل".
قد تُعتبر فكرة الدولة الفلسطينية "سراباً أو بدعة" في "إسرائيل" اليوم، لأسبابٍ مُتعددة، أقلها ما تفعله وتكرسه يومياً واقعاً على الأرض لوأد الفكرة، لكنها تُعتبر أمراً قابلاً للتحقق في العالم. وحتى لو غضّ نتنياهو الطرف عن التطورات الإقليمية والدولية لفترة طويلة، فإنه يُدرك الآن أن اللعبة قد تغيرت وأنه حتى لو تجاهل بشكل صارخ قضية الدولة الفلسطينية، التي تُذكر الآن رسمياً في قرار الأمم المتحدة، تحت ضغط دولي ملحوظ، ورغم ما يُعرف عنه من براعته في المماطلة، فإنه سيجد صعوبة في التوفيق بين التأييد المطلق لترامب والرفض المطلق للدولة الفلسطينية.
والأهم من ذلك، أن "إسرائيل"، التي لطالما وقفت خلف خطط التهجير والاستيطان، تجد نفسها أسيرة الديناميكيات ذاتها التي أسهمت في تغذيتها: فمن التهجير القسري والسيطرة تحت عنوان "النقل الطوعي" والإصرار على رفض الدولة الفلسطينية، إلى القبول بخطة ترامب ومن ثم مباركة قرار مجلس الأمن الذي بقيت الدول الفلسطينينة حاضرة في نصه الرسمي، ولو أن صياغته أتت غامضة وركيكة ومؤجلة ومشروطة.
لم ينشأ هذا التراجع من فراغ بل أتى نتاج سلسلة من الحسابات الإسرائيلية الخاطئة، بدءاً بضرب الدوحة (9 سبتمبر/أيلول 2025) وما تلاها من إدانةً لاذعة من عواصم خليجية ومن الأمم المتحدة، مروراً بالتصعيد الإسرائيلي الإقليمي في سوريا ولبنان، رغم التحذيرات الأميركية من تقويض جهود ترامب لتعزيز هدوء إقليمي هش، وانتهاءً بإشارة نتنياهو في آب/ أغسطس إلى "إسرائيل الكبرى الممتدة إلى ما وراء حدود إسرائيل الحالية"، بما في ذلك أجزاء من مصر والأردن ولبنان وسوريا، لتثير غضباً شديداً، مؤكدة مخاوف حتى الحلفاء، ومُعززةً الاعتقاد بأن "إسرائيل" أصبحت حليفاً يصعب السيطرة عليه. صحيح أنه لا غنى عنه استراتيجياً بالنسبة للولايات المتحدة، ولكنه متهور دبلوماسياً، وبالنسبة لترامب، الذي تعتمد بنيته الإقليمية على التعاون العربي، أصبح الاحتواء هو السبيل الوحيد القابل للتطبيق.
مثّل القرار 2803 تحولاً تكتيكياً أكثر منه أيديولوجياً من طرف الولايات المتحدة، في محاولة لإعادة إرساء النظام والانضباط في المنطقة بعد إخفاقاتٍ إسرائيلية أحادية متعددة، عَبرَ تدويل قضية غزة والحد من سيطرة "إسرائيل" الحصرية على الوضع، مع الحفاظ على التنسيق معها، أو ما يمكن تسميته "تفضيل الاحتواء على الفوضى" في محاولةً للسيطرة على الأضرار بعد أشهرٍ من المحاولات والأخطاء الإسرائيلية المتكررة.
إن تحدي نتنياهو شخصياً وتجاهله لخطوط ترامب الحمر وسعيه وراء الهيمنة الرمزية، هو ما ضيّق خيارات "إسرائيل" إلى هذه النقطة.
فما اعتبرته حكومته قوةً في الخارج تُرجم إلى عُزلة استراتيجية في الخارج والداخل. والمفارقة الحادة أن "إسرائيل" بسعيها للسيطرة المطلقة عبر الاستخدام المفرط للقوة الغاشمة، استجلبت الإشراف الدولي الخارجي، وبرفضها التنازلات المحدودة، واجهت قيوداً شاملة، وبدمجها بين الهيمنة قصيرة المدى والأمن طويل المدى، وضعت نفسها في موقف رأت فيه، حتى القوى الصديقة، التدويل كمخرج وحيد.
ومع صدور القرار وتفعيل تفويض مجلس السلام وقوة الاستقرار الدولية، من المرجح أن يعاد تشكيل مستقبل غزة في المحافل متعددة الأطراف أكثر منه في حكومة نتنياهو. لقد انتقل مركز صنع القرار إلى الخارج، وتواجه "إسرائيل" الآن تحدي التكيف مع مشهد إقليمي لم تعد تسيطر عليه بالكامل.
صحيح أن واشنطن لم تتخلَّ عن "إسرائيل"؛ لكنها اضطرت إلى التدخل لمنعها من إلحاق المزيد من الضرر بمصالحها الاستراتيجية طويلة المدى، وقد يكون تعلم العمل ضمن القيود الجديدة أصعب اختبار تمر به "إسرائيل" حتى الآن. والسؤال هو: ما هي مقدرة المناورة الحالية لنتنياهو أمام ترامب؟
في الظاهر يمتدح ترامب رئيس حكومة الاحتلال بشكل دائم، وقد تدخّل بشكل فظ لمصلحته مُطالباً رئيس الدولة بمنحه العفو، لكن ترامب يبقى صاحب الكلمة الأخيرة.
وهذا ينطبق كذلك على قرار الأمم المتحدة بشأن تشكيل قوة الاستقرار الدولية في غزة، وهي بالضبط القضايا التي حارب نتنياهو وحرّض ضدها خلال ثلاثة عقود.
ربما تبدو "إسرائيل" راضية، فصيغة القرار تتضمن أن تقوم القوة الدولية بنزع سلاح حماس وتفكيك حكمها، ولكن هناك توجهات لا تتساوق مع الرسائل التي سوقها نتنياهو، وربما أيضاً ليس مع المصلحة الإسرائيلية. هذه خطوة رئيسية قبيل تدويل النزاع، وإذا نجحت مهمة القوة، فمن المرجح طرح المطالبة بمحاولة تطبيق نموذج مشابه أيضاً في الضفة الغربية. صيغة القرار تضع صلاحيات واسعة في يد ترامب، وسيكون من الصعب على "إسرائيل" عكس هذه السابقة السياسية، وقد تقلصت قدرتها على التصرف بشكل مستقل بشأن مستقبل القطاع.
المؤكد أن نتنياهو لم يرغب في صدور قرار مجلس الأمن الخاص بالقطاع، ولطالما سببت له قرارت الأمم المتحدة إشكالات، وهو الذي حاول بكل الطرق الممكنة صد التدخل الدولي المباشر في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فكيف له أن يتصرف إزاء هذا التدخل هذه المرة...!
بالنسبة للنهج الإسرائيلي تجاه القرار يُبدي نتنياهو تشكيكًا كبيراً في إمكانية تنفيذه، وفي إنشاء القوة الدولية نفسها، وفي مقدرتها على نزع سلاح حماس وإنهاء حكمها لغزة، لكنه لا ينتظر احتمال فشل الخطوة الأميركية ليجدد الحرب على القطاع، بل يراهن على ضبابية المشهد الأمني ليقوض الهدف الأساسي من التدويل الذي يُمثل خطراً سياسياً ماثلاً على ائتلافه الحاكم.
وليس من قبيل الصدفة تشكيل اللجنة الوزارية الإسرائيلية التي سيُناط بها تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة، وتركيبتها التي تشمل غُلاة الوزراء! وليس من قبيل الصدفة كذلك هذا التصعيد العسكري والاستهدافات المتلاحقة في المناطق الواقعة خارج المنطقة الصفراء في القطاع، واختلاق الذرائع لتنفيذها...!
يبدو جلياً لنتنياهو أن الرئيس ترامب مصمم على التقدم في تنفيذ خطته في قطاع غزة، كما لا يخفى عليه أنه مثلما حدث في قضية القرار الأميركي ببيع طائرات أف 35 للسعودية، فإن ترامب يهتم بالمصالح الأميركية بالأساس، وليس بالضرورة أن تتشابه النتيجة النهائية لأفعاله مع وعود النصر الكثيرة التي يطلقها نتنياهو بخصوص الساحات المختلفة، وهذا ما يسعى نتنياهو واللجنة الوزارية المتطرفة التي شكلها إلى ايجاد السبل الكفيلة للتملص منه.