الجزائر وفرنسا مصالحة أم تصالح؟
التصالح الحاصل بين فرنسا والجزائر يبدو ممكناً في القمة بين الرئيسين، لكن بين السطور المشهد مفخخ، والسؤال هو: هل جهود الرئيس الفرنسي لإنهاء القطيعة مع الجزائر حقيقية أم مجرد مناورة؟
-
هل تسعى الجزائر للاستقواء بالموقف الفرنسي في خلافاتها الإقليمية؟
أنهت مكالمة هاتفية جرت في 31 آذار/ مارس 2025، بين الرئيسين الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون؛ القطيعة بين فرنسا والجزائر، ليُسدل الستار على أزمة قطيعة استمرت ثمانية شهور بين البلدين. وعلى خلاف كثير من التوقعات والتقديرات التي كانت ترى بأن الأزمة قد تطول وتتدحرج وتتعمق أكثر، انتهى التراشق وانطفأت نار التصعيد الذي بلغ ذروته عندما استدعت الجزائر سفيرها في باريس.
ما الذي حدث بين فرنسا والجزائر ونقل العلاقة من القطيعة إلى التصالح؟ ما أسباب الأزمة؟ وما أسباب الانفراجة السريعة ودوافعها في أزمة التوتر؟ هل نحن أمام مصالحة حقيقة بين فرنسا والجزائر أم تصالح موقت قد يعود إلى التوتر والقطيعة مرة أخرى؟
منذ استقلال الجزائر عن فرنسا مرّت العلاقات بين البلدين بأزمات عديدة، وإن كانت الأزمة الأخيرة أعقدها، إذ وضعت محدّدات العلاقة وأهدافها ومساراتها على المحك، ولكنّ الانفراجة السريعة التي حدثت أعادت القراءة إلى تموضع واقع العلاقة بين فرنسا والجزائر، موضحة أن وجود أسباب التوتر لا يعني امتناع التصالح أو استحالته.
التصالح المفاجئ بين فرنسا والجزائر لم يمنع إظهار غضب الجزائر الذي بدا في برودة الاستقبال من خلال إرسال مدير دائرة أوروبا في وزارة الخارجية الجزائرية لاستقبال وزير الخارجية الفرنسي، وهو إجراء لا يخلو من دلالات، الأمر الذي يعني أن تداعيات الأزمة لا تزال عالقة بين البلدين، وأن المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الفرنسي والجزائري لم تكن كافية لتتعافى العلاقات بين البلدين تماماً.
وأن التصالح المُعلن اضطراري مُعلق على التنازلات التي يُمكن أن تقدمها فرنسا في مقابل استعادة دفء العلاقات مع الجزائر.
حيثيات الأزمة ولاستشراف مستقبل العلاقة بين فرنسا والجزائر، يقتضي فهم محددين: الأول، قضايا الخلاف؛ والثاني أطراف الخلاف التي تُحرك الأزمة باتجاه التوتر.
والملاحظ أن ظاهر القضايا التي أفضت إلى التوتر والقطيعة كانت مشكلة المهاجرين غير النظاميين الذين صدرت بحقّهم أوامر إدارية بالإبعاد من التراب الفرنسي، وكانت الجزائر قد رفضت دخولهم، خلال الأزمة؛ تعبيراً عن احتجاج شديد على مهلة الشهر إلى ستة أسابيع، وتوعّد رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو، في نهاية شباط/ فبراير 2025، اتخاذ إجراءات تدريجية ضد الجزائر إن لم تلتزم بها عن طريق تقديم مقترحات لتسلّم رعاياها غير المرغوب بهم من طرف فرنسا.
ورفضت الجزائر قائمة تضم 60 منهم، من قوائم أخرى وضعها وزير الداخلية ريتايو الذي تصدَّر أسلوب التشدد المتبَع ضد الجزائر، والذي جرى إبعاده من المشهد منذ المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الفرنسي والجزائري، فاختفت حِدة اللهجة تاركة المكان للتسوية الدبلوماسية.
تذهب بعض التوصيفات إلى أن ما يحدث ليس أزمة بين الجزائر وفرنسا، ولكن بين الإعلام الجزائري واليمين المتعصب الفرنسي مدعوماً بقطاع من الإعلام الفرنسي الذي يدور في فلك اليمين. وأن في فرنسا يدرك العقلاء أن الجزائر قدر لا فكاك منه، وفي الجزائر يدرك العقلاء أن فرنسا قدر لا فكاك منه.
وهذا توصيف سطحي لا يُلامس حقيقة العلاقة التاريخية بين فرنسا والجزائر، والملاحظ أن فرنسا تفتقر إلى الفهم العميق للتحوّلات التي شهدتها الجزائر مؤخراً، ولا سيما عقب عزل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة 2019، وأن دوائر صنع القرار في فرنسا تتعامل مع الجزائر كما لو أنها مستعمرة فرنسية تملي عليها شروطها كيفما تشاء.
إن استمرار التجاهل الفرنسي لواقع الجزائر الجديد يعني عودة التوتر مرة أخرى وتكراره سيناريو ممكن، بل قد يُصبح التوتر والقطيعة هما المحدد الضابط للعلاقة بين الجزائر التي تهدف إلى الحفاظ على استقلالها وسيادتها وبين فرنسا التي تريد الحفاظ على هيمنتها ونفوذها وتدخلها من دون مراعاة أن الجزائر استقلت عنها منذ أكثر من نصف قرن.
وبالتالي تمكين التصالح والانتقال إلى المصالحة يقتضي من فرنسا التخلي عن التعامل مع الجزائر كساحة خلفية لها ولنفوذها ومصالحها، وأن تراعي فرنسا حجم التحوّلات السياسية والاجتماعية التي تمر بها الجزائر لجهة الاستقلالية والخروج من عباءة الوصاية الفرنسية.
إن محددات التصالح الطارئ بين فرنسا والجزائر محكومة بالمصالح أكبر مما هي محكومة بالفهم المتبادل، وهو تصالح اضطراري يقف بين منطقتين تحكمهما محددات صناع القرار في كلا البلدين، فإما أن يتطور ويصبح مصالحة كاملة أو أن ينتكس ويعود إلى التوتر والقطيعة.
أما أسباب التصالح الحاصل فهي محكومة بملفات وقضايا لا تقبل التأجيل، وأهمها ملف التنسيق الأمني بين الجزائر وفرنسا، لا سيما في منطقة الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء وليبيا وعموم القارة الأفريقية، يليه ملف الهجرة عبر البحر المتوسط، ومن بين أهم المحددات الفرنسية في إنهاء القطيعة مع الجزائر ترميم التآكل الفرنسي الحاصل في القارة الأفريقية، وبالتالي لا تريد فرنسا أن تخسر ساحة نفوذ تاريخية أخرى بالنسبة إليها. ولا يريد ماكرون انقلاب الأزمة الداخلية الفرنسية وتمدد اليمين على العلاقات الخارجية لبلاده، وتحديداً مع الجزائر. ومؤخراً، مع مصر أيضاً، وهو جزء من ترميم الحضور الفرنسي في أفريقيا.
في المقابل، تسعى الجزائر للاستقواء بالموقف الفرنسي في خلافاتها الإقليمية، لا سيما مع المغرب في ما يتعلق بقضية الصحراء الغربية، وبالتالي ترى الجزائر في زيارة وزير خارجية فرنسا جان نويل بارو بأنها انتصار للخط الدبلوماسي الذي يمثله الوزير، ومِن ورائه الرئيس إيمانويل ماكرون، مقابل التصعيد الذي يمثله وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، لا سيما منذ الأزمة الخطيرة التي مرت بها العلاقات الثنائية منذ اعتراف باريس بمغربية الصحراء، في نهاية تموز/ يوليو 2024.
ملف الغاز واحد من أهم محددات التصالح بين فرنسا والجزائر، ولا يمكن فهم محددات العلاقة بين فرنسا والجزائر من دون استحضار ملف الطاقة بين البلدين لا سيما في غمرة شح الموارد الروسية عن أوروبا. وهو ما سرّع التصالح الفرنسي-الجزائري. بالإضافة إلى ملف الشركات الفرنسية في السوق الجزائرية والتي تعرضت لاستنزاف اقتصادي كبير خلال الأزمة تجاوزت نسبة انخفاضه 30%.
من المبكر الحُكم على نتائج زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى الجزائر، وقدرة الزيارة على نقل المشهد من القطيعة إلى المصالحة، إذ إن الزيارة يُحيطها الغموض والتكتم، ولم يُفصح عن الأجندة التي بحثت مثلاً بين الرئيس الجزائري ووزير الخارجية الفرنسي في لقاء استمر لأكثر من ساعتين ونصف.
فلماذا التكتم إذاً عن مفردات اللقاء ومخرجاته؟ وتجنب وزير الخارجية الفرنسي الحديث عن تفاصيل اللقاء ونتائجه؛ يبدو أن الزيارة عقب المكالمة الهاتفية لم تكن كافية لإذابة الجليد في العلاقة بين البلدين، وأن التصالح لا يخلو من عقبات وصعوبات؛ ما يعني أن الأزمة أكبر مما تبدو عليه، لكنّ الطرفين لا يمانعان وقف التصعيد كبداية للتصالح وليس المصالحة الكاملة، فالتصالح الحاصل لم يبحث منشأ الأزمة المتعلق بغضب الجزائر من موقف فرنسا في قضية الصحراء الغربية، وانحياز باريس إلى الموقف المغربي.
ومن بين الملفات الخلافية بين باريس والجزائر والتي لا تزال عالقة ملف الذاكرة المرتبط بحقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر. وقد اتفقت الجزائر وفرنسا على تشكيل لجنة جديدة تعمل على معالجة قضايا الأرشيف والذاكرة، بعد فشل لجنة سابقة، لكنّ أعضاءها لم يجتمعوا حتى الآن.
ختاماً، التصالح الحاصل بين فرنسا والجزائر يبدو ممكناً في القمة بين الرئيسين، لكن بين السطور المشهد مفخخ، والسؤال هو: هل جهود الرئيس الفرنسي لإنهاء القطيعة مع الجزائر حقيقية أم مجرد مناورة؟
وهل يستطيع الرئيس الفرنسي تحييد اليمين الفرنسي المتطرف ويمنعه من تأزيم العلاقات، لا يبدو ذلك ممكناً ففيما بدت فرنسا والجزائر أقرب إلى التهدئة منها إلى التصعيد، استقبلت السيناتورة الفرنسية فاليري بوير، من حزب الجمهوريين، الأسبوع الماضي في مجلس الشيوخ الفرنسي رئيس حركة "الماك" وهي حركة استقلال منطقة القبائل المصنفة كتنظيم إرهابي من قبل الجزائر فرحات مهني ونائبه أكلي بلعباس. وبالتالي، ما حدث بين فرنسا والجزائر أقرب إلى التصالح الطارئ منه إلى المصالحة الدائمة.