الجلاء الفرنسي من السنغال: تحوّل سيادي في غرب أفريقيا أم بداية نظام إقليمي جديد؟
إخراج القوات الفرنسية من السنغال ليس حدثاً معزولاً، بل هو نتاج تراكمي لتحولات داخلية وإقليمية عميقة، وصعود وعي سيادي جديد في غرب أفريقيا.
-
تحوّل سيادي في غرب أفريقيا؟
في الثاني من نيسان/أبريل 2024، انتقلت السنغال إلى مرحلة جديدة من تاريخها السياسي بتولي بشير جوماي منصب رئيس الجمهورية، في أعقاب انتخابات رئاسية لم تكن مجرد استحقاق ديمقراطي تقليدي، بل شكلت نقطة تحول حاسمة في مسار الدولة. فقد صوّت السنغاليون لبرنامج لا لشخص، ولرؤية تؤسس لمرحلة من التحرر الوطني واستعادة القرار السيادي. وقد اختار الناخبون مشروع حزب "الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة"، كونه يعيد الاعتبار للاستقلال الحقيقي، ويعيد رسم العلاقة بين الدولة ومحيطها الإقليمي والدولي على أسس من الاستقلال والندية والكرامة.
وفي ظل هذا التحول السياسي اللافت، جاء القرار السنغالي بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي وجلاء القوات الفرنسية المتمركزة في قواعد عسكرية داخل السنغال، في خطوة تندرج ضمن سلسلة انسحابات من غرب أفريقيا تعكس تراجع الحضور العسكري الفرنسي في القارة، إثر رفض نظم الحكم الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر أي وجود عسكري فرنسي على أراضيها، فتم إجلاء القوات الفرنسية من مالي في عام 2022، ومن بوركينا فاسو في عام 2023، ومن النيجر في عامي 2023 و2024، وتحقق ذلك الآن في السنغال، وربما تسير دولٌ أخرى، كتشاد وساحل العاج، على النهج ذاته.
ولئن شكل خروج القوات الفرنسية من هذه الدول نهاية فعلية لمرحلة "فرانسافريك"، فقد شكّل مؤشراً على نهاية النفوذ السياسي والعسكري الفرنسي المباشر في مستعمراته السابقة. وصنع فرصةً لإعادة النظر في طبيعة العلاقة بين داكار وباريس، وبين تلك الدول وفرنسا، في ضوء توازنات جديدة إقليمية ومحلية، وفي ظل صعود أصوات أفريقية تطالب بتجاوز إرث ما بعد الاستعمار، وبناء شراكات تقوم على المصالح المتبادلة لا الهيمنة القديمة.
خلفية الحضور الفرنسي في السنغال
احتلت فرنسا السنغال في القرن السابع عشر، واتخذ المحتل لمشروعه الكولونيالي أبعاداً سياسية وثقافية واقتصادية وعسكرية. وقد حافظت فرنسا على وجودها العسكري في هذا البلد عقب استقلاله عام 1960. وشكّلت القواعد الفرنسية جزءاً من شبكة انتشار أوسع ضمن "مستعمرات" فرنسا السابقة، وكان لها دور استراتيجي متعدّد الأبعاد ضمن عقيدة "فرانسافريك"، التي سعت إلى تأمين المصالح الفرنسية في أفريقيا باستخدام أدوات سياسية وعسكرية وثقافية، خاصة في منطقة الساحل. بما عرف بالاستعمار الجديد.
الجلاء الفرنسي من السنغال... تجسيد عملي لخيارات بشير جوماي
لم يكن قرار جلاء القوات الفرنسية من السنغال خطوة أحادية من باريس، بل جاء استجابة مباشرة لطلب رسمي من السلطات السنغالية الجديدة، في أول ترجمة عملية لتوجهات الرئيس بشير جوماي الذي جاء به الشعب إلى السلطة بسبب خطابه الاستقلالي السيادي التحرري. بعد أن شكّل هذا الطلب تعبيراً واضحاً عن الرغبة في استعادة القرار الوطني، وتكريس الاستقلال الفعلي، لا الرمزي.
كما ارتبط القرار مباشرة بمحور رئيس في البرنامج الانتخابي للرئيس جوماي، الذي وعد بإعادة تعريف علاقات السنغال الخارجية على أسس وطنية مستقلة، وهو ما بدأ تنفيذه منذ اليوم الأول لتوليه الحكم.
الجلاء الفرنسي في سياقه الإقليمي… نهاية النفوذ أم بداية الاستقلال الحقيقي؟
يأتي الجلاء العسكري الفرنسي من السنغال كحلقة جديدة في سلسلة الانسحابات المتسارعة من منطقة غرب أفريقيا، غير أن السياق السنغالي يختلف جوهرياً عن تجارب الجوار. ففي حين جاء بعض الانسحابات السابقة تحت ضغط أزمات سياسية أو قطيعة حادة مع باريس، فإن سحب القوات الفرنسية من داكار جرى بهدوء وبقرار من القيادة السنغالية المنتخبة، ما أكسبه طابعاً سيادياً أكثر عمقاً، ورسالة سياسية شديدة الوضوح.
أما التقييم الذي رافق هذه الانسحابات الإقليمية، والذي وصفته فرنسا والغرب بأنه خلّف "فراغاً أمنياً"، فإنه يفتقر إلى الدقة في الحالة السنغالية، وربما حتى في بعض الدول المجاورة. فالأمر لا يتعلّق بفراغ، بل بتحول استراتيجي نحو بناء منظومات أمنية وطنية مستقلة، تستعيض عن الحماية الأجنبية بقدرات محلية وتحالفات أكثر توازناً.
وفي السنغال، فإن المؤسسة العسكرية ظلّت قوية ومنضبطة، ما يجعلها قادرة على القيام بأي دور أمني كانت تضطلع به القوات الفرنسية. كما أن الانفتاح على شراكات غير غربية – مثل روسيا والصين وتركيا – يُسهم في إعادة توزيع أدوار الحلفاء من دون الوقوع في التبعية. وفي المجمل، فإن مغادرة القوة الفرنسية يُنظر إليها في دوائر واسعة داخل السنغال والمنطقة، لا كخسارة أمنية، بل كخطوة باتجاه تحقيق السيادة الشاملة، وإعادة بناء العلاقة مع الخارج على قاعدة المصالح المتبادلة لا الهيمنة.
روسيا تملأ الفراغ
لم تتأخر روسيا في التقدم لملء الحيز الاستراتيجي الذي كانت تشغله فرنسا. وقد دخلت السنغال بهدوء ودقة، متبنية أسلوباً قائماً على التنسيق الوثيق مع الدولة المضيفة، ما أدى إلى تعاون فعّال في مجالات عديدة كالتدريب، وصفقات السلاح، والتنسيق الاستخباري.
وإذا ما تطورت هذه العلاقة، فإنها قد تُسهم في تغيير التوازنات الأمنية في غرب أفريقيا، وتفتح الباب أمام نموذج جديد من الشراكات في المنطقة بعد أن طوت صفحة من الشراكات المجحفة.
السنغال بين محورين… انضمام ضمني أم توازن دقيق؟
رغم أن السنغال لم تعلن رسمياً انضمامها إلى تحالف دول الساحل الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو، فإن خطابها السياسي الجديد، يضعها ضمن الدائرة السياسية لذلك المحور السيادي. ويظهر ذلك من خلال:
- تقاطع خطابها مع خطاب النيجر ومالي في قضايا السيادة والاستقلال وإنهاء النفوذ الفرنسي.
- تقارب المواقف بشأن إعادة صياغة العلاقات الدولية بعيداً من المحاور الغربية.
- الانفتاح على شركاء جدد، خاصة روسيا التي سارعت إلى تقديم نفسها كشريك استراتيجي للسنغال بعد الانسحاب الفرنسي.
تقف السنغال اليوم في موقع استراتيجي بين محورين: محور الإيكواس الذي تقوده نيجيريا، ومحور السيادة الآخذ في التوسع داخل الإقليم. ومن غير المستبعد أن تصبح داكار، بصيغ مباشرة أو غير مباشرة، جزءاً من شبكة إقليمية تعيد تشكيل التوازنات في غرب أفريقيا بما يُمكن أن يقدم نموذجاً استقلالياً مُلهماً لدول القارة خاصة، ودول العالم الثالث عامة.
ما بعد فرنسا… أفريقيا تصوغ استقلالها من جديد
إن جلاء القوات الفرنسية من السنغال لا يمثل نهاية فصل فحسب، بل بداية مرحلة جديدة يُعيد فيها بعض الدول الأفريقية صياغة مفهوم الاستقلال. فالمسألة لم تعد مقتصرة على رحيل الجنود، بل على تحرير القرار، وبناء شراكات منتجة ومنصفة، وتعزيز السيادة الوطنية في وجه تدخلات الخارج.
ومن هنا، فإنّ العلاقة بين باريس وداكار تدخل طوراً جديداً، وتشهد تحوّلاً واضحاً من علاقة وصاية، إلى علاقة مراجعة وتفاوض من منطلق تكافؤ سيادي. فالقيادة السنغالية الجديدة تعبّر عن توجه أكثر استقلالية، ينسجم مع الموجة الأفريقية الصاعدة في مالي وبوركينا فاسو، والتي تدعو إلى القطع مع سيطرة فرنسا التاريخية.
وغرب أفريقيا اليوم، بتحالفاته الجديدة وخطاباته الجريئة، لا يكتفي بالاحتجاج على الإرث الاستعماري، بل يمضي عملياً في تفكيكه، وبناء نظام إقليمي جديد قد يُغيّر وجه القارة لعقود مقبلة.
إنّ إخراج القوات الفرنسية من السنغال ليس حدثاً معزولاً، بل هو نتاج تراكمي لتحولات داخلية وإقليمية عميقة، وصعود وعي سيادي جديد في غرب أفريقيا.
والسنغال، بقيادتها الجديدة، تقف اليوم على أعتاب مرحلة مختلفة من تاريخها، تسعى فيها إلى تثبيت استقلالها الكامل، وتحرير قرارها الوطني، وإعادة تعريف علاقاتها الدولية بما يتسق مع تطلعات شعبها وتاريخها النضالي.