الحرب النووية على الأبواب. من يتذكّر التاريخ!

تتمتع الغواصة النووية "كازان" بقدرات كبيرة تثير قلق أميركا والغرب خاصة في هذه المرحلة الحسّاسة في العلاقات الروسية ـــــ الأميركية والروسية ـــــ الأطلسية بسبب الأزمة الأوكرانية.

  • موسكو تؤكد أن قطع الأسطول الروسي تدخل ضمن تدريبات عسكرية تقليدية.
    موسكو تؤكد أن قطع الأسطول الروسي تدخل ضمن تدريبات عسكرية تقليدية.

وصلت يوم الأربعاء الماضي العاصمة الكوبية هافانا على بعد 150 كم من سواحل فلوريدا الأميركية الفرقاطة "الأدميرال غورشكوف"، والغوّاصة النووية "قازان"، والناقلة البحرية "باشين" وسفينة الإنقاذ "نيقولاي تشيكر" في زيارة رسمية إلى كوبا للقيام ببعض التدريبات المشتركة مع قواتها البحرية.

وتعدّ الفرقاطة "غورشكوف" واحدة من أحدث السفن في العالم، وهي من أكثر سفن أسطول البحرية الروسية تفوّقاً حيث تمتلك القدرة على حمل صواريخ كروز بعيدة المدى، بما في ذلك صاروخ "الزركون" الذي تفوق سرعته سرعة الصوت.

وتتمتع الغواصة النووية "كازان" بقدرات كبيرة تثير قلق أميركا والغرب خاصة في هذه المرحلة الحسّاسة في العلاقات الروسية ـــــ الأميركية والروسية ـــــ الأطلسية بسبب الأزمة الأوكرانية.

وتكتسب هذه الزيارة أهمية إضافية لتوقيتها الزمني حيث جاءت بعد تهديدات مباشرة من الرئيس بوتين والرئيس السابق ميدفيديف باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية كردّ على قرار واشنطن وحليفاتها الدول الأوروبية السماح لكييف باستخدام الأسلحة الغربية ضد الأهداف الاستراتيجية في العمق الروسي، بما فيها نحو عشرة مواقع نووية روسية قريبة من الحدود مع أوكرانيا.

ومع أن موسكو قالت إن حركة قطع الأسطول الروسي في المحيط الأطلسي تدخل ضمن تدريبات عسكرية تقليدية وتتمّ وفق القواعد الدولية، وأنه ليست المرة الأولى التي تقترب فيها سفن روسية من السواحل الكوبية وترسو في موانئها كما فعلت ذلك في العامين 2013 و2019. فقد استمرّ الجانب الأميركي في التشكيك بالنوايا الروسية خاصة بعد أن وصل موسكو وزير الدفاع الكوبي بعد يوم من وصول السفن الروسية إلى هافانا.  

هذا إضافة إلى المعلومات التي تتحدّث عن احتمالات أن تتوجّه هذه السفن إلى فنزويلا وربما موانئ أخرى في دول أميركا اللاتينية التي يحكمها اليسار، وعددها أكثر من عشر دول وأهمّها البرازيل وتشيلي ونيكاراغوا والبيرو.

ودفعت كلّ هذه المعلومات البنتاغون لإرسال غوّاصة نووية إلى السواحل الكوبية بعد يوم من وصول السفن الروسية، فيما أعلن وزير دفاع فنلندا العضو الجديد في الحلف الأطلسي أنتي هاكانان يوم الجمعة أنهم سمحوا لواشنطن بإنشاء قاعدة عسكرية على أراضي بلاده وعلى بعد 140 كم من الحدود الروسية. فيما لم تتأخّر كندا في إرسال السفينة الحربية "مارغريت بروك" إلى ميناء هافانا في زيارة "ودية " ستستمرّ حتى الـ 17 من الشهر الجاري، وهي الزيارة الثانية بعد زيارة 2016.

وأعادت هذه التطوّرات السريعة إلى الأذهان أزمة الصواريخ الكوبية بين موسكو وواشنطن عام 1962، وهي أوّل مواجهة مباشرة بين الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، والرئيس الأميركي جون كينيدي.

وبدأت الأزمة في 8 تشرين الأول/أكتوبر 1962 ووصلت ذروتها في 14 تشرين الثاني/أكتوبر عندما أظهرت صور التُقطت من طائرة التجسّس الأميركية "لوكهيد U-2" وجود قواعد صواريخ سوفياتية نووية قيد الإنشاء في كوبا. وسبق ذلك نشر الولايات المتحدة صواريخ "ثور" في بريطانيا ضمن مشروع "إميلي" عام 1958، بالإضافة إلى نشر صواريخ "جوبيتر" في كلّ من إيطاليا وتركيا عام 1961، وذلك بهدف تطويق الاتحاد السوفياتي بأكثر من 100 صاروخ ذات رؤوس نووية. 

ودفع ذلك الروس لاتخاذ خطوات مشابهة في كوبا، تزامناً مع طلب كاسترو المساعدة بعد العملية العسكرية التي نفّذتها أميركا ضد كوبا في نيسان/أبريل 1961 والتي عُرفت باسم "خليج الخنازير" وانتهت بانتصار كاسترو ورفاقه.

وفي ظلّ التخوّف الكوبي من تنفيذ أميركا عمليات عسكرية أخرى، وافق خروتشوف على تزويد كوبا بصواريخ أرض ـــــ جو، وأرض ـــــ أرض في نيسان/أبريل 1962، ولحق بذلك قراره لإرسال صواريخ نووية إلى كوبا في أيار/مايو 1962. وحتى شهر تموز/يوليو وصلت أكثر من 60 سفينة سوفياتية كوبا محمّلة بالتجهيزات العسكرية، ومعها ثلاث غوّاصات نووية وتمّ تسليم كوبا 24 منصة إطلاق صواريخ ونحو 40 صاروخاً باليستياً و45 رأساً نووياً، إضافة إلى نحو ألف عسكري وخبير لتدريب الجيش الكوبي على استعمال هذه الأسلحة. 

وأطلق السوفيات وقتها على عملية نقل الصواريخ النووية ومنصّات إطلاقها إلى جانب فوج من المشاة الميكانيكية اسم "عملية أنادير"، نسبةً إلى نهر "أنادير" الواقع بأقصى الشرق من سيبيريا. واتسمت العملية بسرية فائقة، كما احتوت على العديد من الحيل العسكرية لتضليل الاستخبارات الأميركية والأوروبية، حيث أوهمت بإرسالها معدات قطبية للتدريب على الطقس البارد والمتجمّد، فضلاً عن إرسال الصواريخ على متن أكثر من 60 سفينة تجارية. 

وفي أعقاب اكتشاف الصواريخ السوفياتية في 14 تشرين الأول/ أكتوبر، فكّرت أميركا في إطلاق حملة عسكرية واسعة على كوبا، وقصف مواقع الصواريخ وتدميرها وقتل الخبراء السوفيات. إلا أنّ الرئيس كينيدي كان متخوّفاً من الرد السوفياتي العنيف على الجبهة الألمانية واحتلال السوفيات العاصمة برلين. وطالب الرئيس كنيدي الاتحاد السوفياتي بتفكيك الصواريخ وإعادتها إلى روسيا بعد أن فرضت البحرية الأميركية حصاراً بحرياً مشدّداً على الجزيرة الكوبية منعاً لدخول أسلحة إضافية وجنود سوفيات إلى الجزيرة في حال اندلاع عملية عسكرية. 

وعلى الرغم من الرفض العلني للمطالب الأميركية أعاد السوفيات وبشكل مفاجئ سفناً كانت في طريقها إلى كوبا، وسعوا إلى فتح قنوات اتصال سرية مع الأميركيين من أجل تقديم اقتراحات لحل الأزمة. وفي 28 تشرين الأول/أكتوبر 1962 انتهت أزمة الصواريخ الكوبية بعدما توصّل الطرفان إلى اتفاق يقضي بإزالة الصواريخ السوفياتية ومنصات إطلاق من الأراضي الكوبية شريطة أن تتعهّد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأن تتخلّص بشكل سري من صواريخ "ثور" و"جوبيتر" المنصوبة في بريطانيا وكلّ من إيطاليا وتركيا.

وتنفيذاً لشروط الاتفاق، أُزيلت الصواريخ السوفياتية ووُضعت على السفن من أجل إرسالها إلى الاتحاد السوفياتي في الفترة ما بين الـ 5 والـ 9 من تشرين الثاني/نوفمبر 1962، لينتهي بعد ذلك الحظر البحري على كوبا بشكل رسمي يوم 20 تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه. وبعد قرابة 11 شهراً من الاتفاق، وتحديداً في أيلول/سبتمبر 1963 سُحبت صواريخ ثور وجوبيتر من بريطانيا وإيطاليا ولاحقاً من تركيا. 

وأُعلن لاحقاً عن إنشاء خط ساخن بين موسكو وواشنطن من أجل ضمان سهولة التواصل في حال اندلاع صراع نووي. وهو الاحتمال الذي يبدو أنه بات وارداً للمرة الأولى وبشكل جدّي منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي وتمزّقه. وشهد توتره الأول والخطير مع المعسكر الإمبريالي عندما أسقط السوفيات في الأول من أيار/مايو 1960 طائرة التجسس الأميركية من طراز U2، والتي أقلعت من قاعدة إنجيرليك جنوب تركيا ومن دون علم الحكومة التركية آنذاك.

وقيل آنداك إن هذا الموضوع كان من أحد الأسباب التي دفعت الجيش للقيام بانقلابه العسكري في 27 أيار/مايو والإطاحة بحكومة الثنائي جلال بايار ـــــ عدنان مندرس التي أدّت دوراً أساسياً منذ استلامها للسلطة في 14 أيار/مايو 1950، في ضمّ تركيا إلى المعسكر الأميركي خاصة بعد انضمامها إلى الحلف الأطلسي في 18 شباط/ فبراير 1952 بعد أن أرسلت جيشها إلى كوريا للقتال مع الجيش الأميركي. 

وساهمت هذه الحكومة في تشكيل حلف بغداد في 24 شباط/ فبراير 1950 جنباً إلى جنب مع بريطانيا والعراق وإيران وباكستان. ووصل عدد القواعد الأميركية والأطلسية في تركيا أواخر الخمسينيات إلى 150 قاعدة، بقي منها الآن نحو عشرين قاعدة ومحطة ومركزاً أميركياً/أطلسياً، وفيها خمسون قنبلة نووية، وتقوم جميعها بمراقبة التحرّكات العسكرية في روسيا ودول المنطقة وبشكل خاص سوريا والعراق وإيران وبالتنسيق مع القواعد الأميركية في المنطقة، وتدار جميعاً من قاعدتي العديد والسيلية في قطر. 

وقال السفير الأميركي في أنقرة جيف فليك الأسبوع الماضي "إن هذه القواعد تخدم المصالح المشتركة لتركيا وأميركا والحلف الأطلسي"، معبّراً عن "ارتياحه من سياسات أنقرة تجاه الأزمة الأوكرانية" وقال: "إن القمة الأطلسية في واشنطن في تموز/يوليو المقبل قد تساهم في وضعها في مسار جديد لردع العدوان الروسي عليها"، على حد قوله.

وهو التصريح الذي قد يحمل في طياته العديد من المعاني، هذا بالطبع إذا تذكّرنا تصريحات الرئيس بوتين الذي هدّد بإرسال أسلحة متطورة إلى الدول الحليفة التي تقف في المعسكر المعادي لأميركا والحلف الأطلسي، وتركيا من أهم أعضائه لأنها قريبة من الوجود الروسي في سوريا وقريبة من روسيا وتطلّ على البحر الأسود، وتسيطر على مضائقه المهمة لروسيا وكلّ حساباتها الإقليمية والدولية التي يبدو واضحاً أن واشنطن مصمّمة على محاربتها وأياً كان، ومهما كلّفها ذلك وكلّف حليفاتها دولياً وإقليمياً وفي مقدّمتها تركيا!

ويعكس ذلك احتمالات المواجهة النووية التي تخوّف منها الرئيس الصربي فوتجيج الأحد 16 حزيران/يونيو حيث قال: "لقد غادر القطار المحطة ولا أحد يستطيع إيقافه، علينا أن نشهد اندلاع صراع الحضارات في الأشهر الثلاثة أو الأربعة المقبلة، ولا أحد يحاول وقف الحرب نحن نقترب من كارثة حقيقية، وأنا لست مستعداً لخسارة مليون أو مليونين أو خمسة أو عشرة بل خمسة عشر مليون شخص".

وجاءت كل هذه المخاوف تأكيداً للتقرير الذي نشره الأحد مركز "الحملة العالمية للتخلّص من الأسلحة النووية تماماً"، حيث أشار إلى أنّ تكاليف التسلّح النووي في الدول النووية التسع، وصلت في العام 2023 إلى 91،4 مليار دولار بزيادة 10،8% عن عام 2022.