الحرب لم تنتهِ بعد.. وما بعد الطوفان ليس كما قبله!

المرحلة المقبلة من مستقبل المنطقة على عكس ما يراه البعض، لن تكون في صالح المحتلين والقتلة ومجرمي الحرب، ولن تميل الكفة إلى جانبهم كما يعتقدون.

0:00
  • في الساحة الفلسطينية تبدو تداعيات هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر واضحة وجليّة.
    في الساحة الفلسطينية تبدو تداعيات هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر واضحة وجليّة.

يمكن لمن يقرأ التاريخ أن يكتشف أنّ الحروب الكبيرة لا تنتهي بسرعة، ولا تُطوَى صفحاتها بمجرّد صمت أصوات المدافع وإطلاق الرصاص، فهذه الحروب وإن كانت تغادر مربّعاً أساسياً من مربّعاتها الخشنة والقاسية والدموية، إلا أنها تستمر بعد ذلك لفترات طويلة من خلال أدوات أخرى قد تبدو بالنسبة للمكتوين بنارها والمحترقين بشررها أقل ضرراً وأخفّ وطأة.

ومع أنّ الحرب العدوانية والإجرامية التي شنّها "جيش" الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة لا تُعتبر من الحروب الكبيرة في التاريخ القديم والحديث، إذ إنّ البقعة الجغرافية التي خِيضت عليها تعتبر صغيرة ومحدودة للغاية، ولم تتواجه فيها جيوش تُعدّ بالملايين كما في حروب أخرى، إلا أنّ التداعيات الناشئة عنها، سواء على المستوى الفلسطيني، أو فيما يتعلّق بساحات أخرى في الإقليم يمكن أن يُنظر إليها بأنها فارقة وحاسمة، بل إنّ بعضها يمكن أن ينتج عنه تغيّرات وتحوّلات جيوسياسية تشمل كلّ المنطقة وليس الأراضي الفلسطينية فحسب.  

وعلى الرغم من أنه من المبكر الوصول إلى استنتاجات قطعيّة حول مآلات الأمور، ولا سيّما أنّ الحرب على غزة لم تضع أوزارها بعد، خصوصاً في ظل تعثّر الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، ورغبة الائتلاف اليميني المتطرّف في "إسرائيل" في العودة إلى القتال من جديد، إلا أنه يمكن لنا وبناء على الكثير من التطورات أن نرسم صورة تقريبية لجملة التداعيات المحتملة، والتي كما يبدو ستؤدي في بعض نتائجها إلى بروز تحوّلات أقلّ ما يمكن أن يُقال عنها بأنها دراماتيكية وغير مُتوقّعة، بل يمكن أن تصل إلى الحد الذي تكون فيه حاسمة وفاصلة.

حتى هذه المرحلة يمكن لنا أن نلحظ العديد من التداعيات المباشرة وغير المباشرة الناتجة عن معركة طوفان الأقصى، حيث توزّعت ما بين الأراضي الفلسطينية المحتلة في قطاع غزة والضفة المحتلة، وامتدّت إلى ساحات قريبة وأخرى بعيدة في الإقليم والعالم، ويمكن أن تصل في حال نضوج بعض الحلول المقترحة من الجانب الأميركي على وجه الخصوص إلى ساحات أخرى كان يُعتقد بأنها لن تتأثّر من تداعيات الطوفان.

في الساحة الفلسطينية تبدو تداعيات هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر واضحة وجليّة، إذ إنه وللمرة الأولى في التاريخ الحديث على أقل تقدير يتعرّض جزء من الشعب الفلسطيني، يسكن على جغرافيا ضيّقة لا تتجاوز365 كلم لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة، ينتج عنها أكثر من 50 ألف شهيد، وعشرات آلاف الجرحى والمصابين، ودمار هائل في البنى التحتية بأنواعها كافة.

وعلى الرغم من أنّ اتفاق وقف إطلاق النار قد تجاوز مرحلته الأولى ببضعة أيام، إلا أنّ قوات العدو ما زالت موجودة داخل أراضي القطاع، وتسيطر بشكل فعلي أو بالنيران على مساحات شاسعة منه، بل وتمنع دخول أي نوع من أنواع المساعدات الطبية والإغاثية إليه.

في الضفة الغربية المحتلة لا يبدو المشهد مختلفاً عن نظيره في غزة، إذ تشنّ قوات الاحتلال حرباً همجية ضد مخيمات جنين وطولكرم، وتقوم بحرق البيوت وتدميرها، وتجريف الشوارع والساحات في تكرار لما فعلته في غزة، بل وتهجّر سكّان تلك المخيمات الفقيرة والصغيرة في ظل صمت عربي وإسلامي وعالمي مخزٍ، بل وفي ظل لا مبالاة غريبة من أجهزة السلطة الفلسطينية التي كان من المفترض أن تدافع عن شعبها بكل ما أوتيت من قوة، بدلاً من ملاحقة المقاومين واعتقالهم والإساءة إليهم.

على الصعيد الإقليمي القريب، يمكن أن نرى بوضوح تداعيات المشاركة في "الطوفان" من خلال تدشين الجبهات المساندة له، حيث يمكننا أن نلمس من دون الحاجة لكثير من البحث والتحليل حجم ارتداداته على الساحة اللبنانية على وجه الخصوص، وما تعرّضت له جبهة المقاومة في لبنان، وعلى رأسها حزب الله من خسائر جسيمة، كان في مقدّمتها فقدانه لقادته من الصف الأول، وعلى رأسهم سماحة أمينه العام الشهيد حسن نصر الله، وإخوانه من قادة الرضوان وهيئة الأركان والوحدات القتالية المختلفة.

ليس هذا فحسب، بل إن التداعيات وصلت إلى قبول الحزب "مكرهاً" بانتخاب رئيس للجمهورية والوزراء على عكس ما كان يتمنّى، وهو في ذلك لديه أسبابه التي يختلف البعض حول صوابيّتها من عدمه، ولا سيّما في هذه المرحلة الحرجة والحسّاسة من تاريخ لبنان والمنطقة.     

غير بعيد عن لبنان جاء التغيّر المفاجئ لنظام الحكم في سوريا، إذ سقط نظام الرئيس السابق بشار الأسد على حين غرّة، وجاء بدلاً منه نظام يمكن أن يُوصف بأنه "هجين"، سواء من حيث أجنداته وولاءاته المختلفة والمتعدّدة، أو من ناحية انتماءات وجنسيات قادته الجدد.

هذا التغيّر الدراماتيكي يمكن أن نضعه في خانة التأثيرات والنتائج غير المباشرة لمعركة طوفان الأقصى، سواء بسبب استغلال عديد الأطراف لما كان يجري في قطاع غزة للتجهيز والتحضير لإسقاط النظام، أو بسبب موقف النظام السابق من "الدولة" العبرية، والذي كان على الرغم من سلبيته في الرد على اعتداءاتها المتكررة يعتبرها دولة عدوّة، ويرفض بشكل مُطلق أي علاقات سياسية معها، بل وكان يوفّر الملجأ للكثير من قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، إضافة إلى تسهيل وصول الدعم العسكري والمالي إليها من دون أيّ عوائق.

إلى جانب ما حدث في سوريا ولبنان يمكن لنا أن نعتقد أيضاً بأن تداعيات الطوفان وصلت إلى نتائج الانتخابات الرئاسية في كلٍّ من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والولايات المتحدة الأميركية، حيث يمكن الاعتقاد بأن إيران الرسمية والشعبية لجأت إلى تفضيل الرئيس الإصلاحي "المعتدل" مسعود بزشكيان على كلّ منافسيه الآخرين، لأنها أدركت مبكّراً أن المرحلة الحالية التي تتسم بكثير من التعقيدات يمكن أن تسبّب لها مشكلات هي في غنى عنها، وأن انتخاب رئيس "معتدل" قد يكون هو الخيار الأفضل لمواجهتها والتعامل معها.  

أميركياً فقد أدى تعاطي الإدارة السابقة برئاسة بايدن مع العدوان على غزة إلى تراجع حظوظ مرشحته كاميلا هاريس، وإلى سقوطها هي وحزبها بالضربة القاضية أمام اندفاعة ترامب، والذي استغل بدوره الحرب وتداعياتها للترويج إلى سرديته الداعية إلى وقف الحروب ونشر السلام، وغير ذلك من تصريحات شعبوية اعتمد عليها للوصول إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض.    

كل ما تمّت الإشارة إليه أعلاه من تداعيات مباشرة وغير مباشرة نتجت عن معركة طوفان الأقصى يمكن لها أن تشكّل انعطافة خلال مقبل الأيام في مستقبل المنطقة ككل، ولا سيّما أنّ هذه التداعيات ما زالت تتفاعل ولم تتوقّف عند حدّها النهائي، ويمكن لها كما يبدو أن تصل إلى ساحات أخرى مثل مصر والأردن والسعودية، خصوصاً في ظل دعوة ترامب لجعل هذه البلدان وغيرها موطناً بديلاً للفلسطينيين من أهالي قطاع غزة، وهو ما يمكن أن يشكّل ضغطاً إضافياً على قادة هذه البلدان لتقديم تنازلات في ملفات أخرى مثل التطبيع وغيره.

على كلّ حال يمكن لنا بعد هذا العرض أن نصل إلى نتيجة مفادها بأن تداعيات "الطوفان" ستشكّل علامة فارقة في تاريخ المنطقة، وقد تؤدي في بعض نتائجها إلى حدوث تغيّرات جيوسياسية لافتة سواء على صعيد الجغرافيا، أو فيما يتعلّق بالتحوّلات السياسية والديمغرافية المحتملة. 

هذه التحوّلات والتغيّرات قد يبدو للبعض أنها ستصبّ في صالح قوى الشرّ والعدوان وفي المقدمة منهم أميركا و"إسرائيل"، خصوصاً بعد الإنجازات التكتيكية التي حصلوا عليها خلال الفترة الماضية، إلا أن عجلة التاريخ التي لا يمكن لها أن تدور إلى الخلف تقول غير ذلك، إذ إنّ قوى الأمة الحيّة، التي وإن تعرّضت لخسائر لا يمكن التقليل من حجمها، ما زالت تمتلك كلّ الإمكانيات والأدوات التي تمكّنها من مواصلة التصدّى لمشاريع ومؤامرات الأعداء، وهي تعتمد في ذلك على حاضنة شعبية عريضة وواسعة باتت متيقّنة تماماً من صحة وسلامة خيارات محور المقاومة في المنطقة، والذي واجه في مرحلة سابقة الكثير من التشكيك بنجاعة خياراته وصوابيّتها.

المرحلة المقبلة من مستقبل المنطقة على عكس ما يراه البعض، لن تكون في صالح المحتلين والقتلة ومجرمي الحرب، ولن تميل الكفة إلى جانبهم كما يعتقدون ويعتقد الكثيرون، إذ إن الانكفاءة المؤقتة التي عانت منها قوى المقاومة نتيجة ما تعرّضت لها من ضربات شارفت على الانتهاء، وهي ستنهض من جديد أشد بأساً وأكثر عزماً لتواصل طريقها بكل قوة وعنفوان، هذا الطريق الذي عمّدته بدماء وأشلاء خيرة رجالها ومقاتليها ورموزها، وهي ما زالت مصرّة على مواصلة السير فيه مهما كلّفها ذلك من تضحيات، ومهما دفعت من أثمان.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.