السنغال ودلالات نُصرة فلسطين في الخطاب والممارسة

استحضار السنغال للقضية الفلسطينية تجاوز جغرافيا البلاد، وامتد إلى عموم القارة الأفريقية، اذ كانت السنغال منبراً للقضية الفلسطينية، واستضافت الملتقى الرابع للغرب الأفريقي لدعم القضية.

  • نصرة السنغال لفلسطين تُعَدّ رافعة للصمود وداعمة للمواجهة.
    نصرة السنغال لفلسطين تُعَدّ رافعة للصمود وداعمة للمواجهة.

بينما الخذلان يتفشى وعتمة الصمت تُخيم على المنطقة، والعجز سيد المشهد، والمنطقة شاهدة على جرائم الإبادة اليومية التي يرتكبها كيان الاحتلال، منذ أكثر من 10 شهور في قطاع غزة، تأخذنا بلاد "التيرينغا" إلى فسحة الأمل، تخرج عن الصمت وتذهب إلى حيث الانحياز الحر إلى قضية فلسطين.

مرة أخرى، تأسرنا السنغال. تأخذنا من نموذج التحول الديمقراطي وصناعة الحرية والإرادة السياسية الشعبية، إلى منطقة الشعوب الحية، إذ أن الفارق بين الانحياز إلى القضية الفلسطينية وتجاهلها مثل الفارق بين الحي والميت، فالشعوب الحية وحدها هي التي تستحضر فلسطين وتنحاز إليها وترفض جرائم الإبادة التي يقوم بها النازيون الجدد في كيان الاحتلال.

بينما انزوت دول المنطقة العربية واكتفت بالشجب والادانة، وعلى استحياء مررت بضع مظاهرات ووقفات، تقدمت السنغال الرسمية والشعبية صوب فلسطين، معلنة عدة مرات انحيازها إلى شعب فلسطين ومظلوميته الممتدة منذ نكبة عام 1948.

وفي جرأة افتقدها العالم، اتهم رئيس وزراء السنغال، عثمان سونكو، في الـ1 من أيلول/ سبتمبر الجاري، رئيسَ وزراء كيان الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بمواصلة الحرب في قطاع غزة من أجل بقائه السياسي.

وبينما غرق بعض أكاديميي العرب في مستنقع الحيادية الزائفة، رافضين مجرد التلويح بعلم فلسطين، وقف رئيس وزراء السنغال، عثمان سونكو، واضعاً علم فلسطين على رقبته، خلال تجمع حاشد ضم المئات دعماً للفلسطينيين في المسجد الكبير في دكار، وقال: "لدينا رئيس وزراء إسرائيلي تعتمد سلطته على هذه الحرب، ويعتمد بقاؤه السياسي على هذه الحرب، وهو مستعد للسير فوق آلاف الجثث ليبقى رئيساً للوزراء، ومن أجل ألا يواجه عدالة بلاده".

وأضاف: يجب أن نجمع كل من يندد بهذا الظلم، وأن نعمل من أجل حل سياسي يتمثل بعزل إسرائيل. ووصف ما يحدث في فلسطين بأنه إبادة، متحدثاً عن الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون منذ عام 1948.

لم يكن موقف السنغال ورئيس وزرائها مجرد وقفة عابرة. ففي الـ10 من حزيران/يونيو الماضي، دعا رئيس الوزراء السنغالي، عثمان سونكو، إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني، مستنكراً "الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين في غزة". وفي كلمته أمام تجمع سياسي شبابي في العاصمة دكار، اتهم سونكو القوى الكبرى في العالم بالتواطؤ في مأساة الموت والدمار المستمرَّين في غزة. وقال: "سأبدأ كلمتي بطلب دقيقة صلاة من أجل شعب فلسطين الشهيد؛ الشعب الذي يتعرض اليوم للإبادة الجماعية بتواطؤ كل قوى هذا العالم".

وفي نداء مباشر إلى الرئيس السنغالي، باسيرو ديوماي فاي، دعا سونكو إلى دعم السنغال قضية جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية ومقرها لاهاي، والتي تتهم "إسرائيل" بانتهاك التزاماتها في حرب غزة، بموجب ميثاق اتفاقية الإبادة الجماعية.

لم يقتصر حضور فلسطين فقط على الخطاب الرسمي للسنغال. شعبياً، عندما كانت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أسبوعها الثاني، تداعت في الـ14 من تشرين الأول/أكتوبر 50 منظمة في السنغال لنصرة القضية الفلسطينية ورفض تهجير أهالي غزة. وأقام التحالف الوطني لدعم فلسطين يوماً لدعم القضية، افتُتح بصلاة جمعة موحدة في مساجد السنغال، واختُتم بمؤتمر صحافي أعلن فيه التحالف مباركته عملية طوفان الأقصى.

استحضار السنغال للقضية الفلسطينية تجاوز جغرافيا السنغال، وامتد إلى عموم القارة الأفريقية، اذ كانت السنغال في الـ13 والـ14 من تموز/يوليو 2024، منبراً للقضية الفلسطينية، واستضافت الملتقى الرابع للغرب الأفريقي لدعم القضية الفلسطينية والقدس، تحت شعار "فلسطين أمانة أمة لن نتركها وحدها". وشاركت في الملتقى، الذي انعقد في العاصمة دكار، كلٌّ من السودان ومصر والنيجر ومالي وغامبيا وساحل العاج وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري وتونس وموريتانيا والمغرب والجزائر وليبيا.

انتهى الملتقى بجملة مطالبات جاءت في البيان الختامي للملتقى. ومما جاء فيه: نعلن، نحن المشاركين في ملتقى دكار الرابع لدعم فلسطين والقدس، الآتي:

- نطالب الحكومات والدول الغربية بأن تكف عن المشاركة في هذه الجريمة النكراء ضد الإنسانية، والتي تُرتكب في فلسطين بصورة عامة، وفي غزة بصورة خاصة.

- نطالب الدول الأفريقية، التي أبرزت هذه المواقف البطولية، بتقديم مزيد من الدعم، وأن توحد موقفها وأن تُعلي صوتها في المحافل الدولية، لتمكين الشعب الفلسطيني من استرداد كامل حقوقه في كل أراضيه.

- نطالب، نحن الموقعين على هذا البيان، بإيقاف هذه الحرب المدمرة فوراً، من دون أي تأخير، لأن استمرارها يعني، بكل بساطة، مزيداً من القتل والتشريد وهدم كيان الشعب الفلسطيني العزيز.

- نطالب الحكومات الأفريقية، التي لها علاقات بالكيان الصهيوني الغاشم، بقطع العلاقات الدبلوماسية، وأن توقف كل تواصل مع هذا الكيان المتمرد على القانون الدولي.

- نذكّر هنا بأن لا مكان لهؤلاء الهمجيين الصهاينة في دول ديمقراطية ووسط شعوب ذاقت ويلات الاستعمار. وعليه، يجب إغلاق كل السفارات والبعثات الدبلوماسية والاقتصادية وكل أوكار التجسس على تراب قارتنا العزيزة الأبية.

- نؤكد تأييدنا الكامل لكل حركات المقاومة وفصائل في غزة والضفة، وفي غيرهما، ونشد على أيديها، ونساندها إلى أن تتحقق أهدافها في دحر عدوها وتحرير كل فلسطين.

- نَدين كل أنواع التطبيع مع الكيان الصهيوني، ونؤكد أن التطبيع خيانة كبرى في المعيار الشرعي والمعيارين القانوني والأخلاقي. كما يعني التطبيع المشاركة، بصورة مباشرة، في حملة الإبادة الجماعية التي تستهدف استئصال كل الشعب الفلسطيني.

من الخطاب السياسي السنغالي تجاه القضية الفلسطينية، في شقيه الرسمي والشعبي، إلى حيث الفكر، إذ يذهب المفكر السنغالي، الدكتور محمد سعيد باه، في توصيفه معركة طوفان الأٌقصى وتداعياتها، في تصريحات صحافية في الـ28 من آب/أغسطس 2024، قائلاً إن "معركة الطوفان - مهما كانت نتيجتها المباشرة - هي بداية النهاية لأخطر حلم غربي في شطر قلب العالم الإسلامي، عبر زرع جسم مسرطن فيه. وإنها بداية تحطيم وعد بلفور"، موضحا أن "ما يحدث في غزة ليس استهدافا للفلسطينيين فقط، بل هو أيضاً استهداف للإنسان في بشريته وتاريخه وقيمه"، وأن "ما يحدث في فلسطين، في جانب آخر، هو افتقاد الأمل في البقاء أو الصلاحية لمنظومة القيم التي تواضع عليها البشر عبر التاريخ".

وفي موقف متقدم ومتفرد، عربياً وإسلامياً وأفريقياً، أضاف المفكر السنغالي سعيد باه أنه "ليس من بين ساكنة الأرض من يليق أكثر بالإحساس بما يكابده الشعب الفلسطيني من صنوف الظلم وأنواع القهر، ولا أحق بمؤازرة صموده، من الأفارقة، لأنهم تجرعوا طوال 3 قرون عجاف كؤوس الاحتلال البغيض مترعةً".

إن انتصار السنغال لفلسطين ونصرة قضيتها يعني، من بين جملة دلالات، أن موقف السنغال ليس موقفاً طارئاً، وأنه ليس موقفاً سياسياً دبلوماسياً رسمياً فقط، بل شعبي أيضاً، وله قاعدة في فكر شعب السنغال وممارسته. ومن الدلالات أيضا أنه بينما انزوت بعض الدول العربية في مواقفها بشأن القضية الفلسطينية، تقدمت السنغال وذهبت بعيداً، مراراً وتكراراً، في موقفها المنحاز والداعم لفلسطين، والرافض لجرائم الإبادة التي يقوم بها كيان الاحتلال.

مواقف السنغال تلك تجاه قضية فلسطين عموماً، وبشأن الإبادة في قطاع غزة، تعني أن كيان الاحتلال خسر واحدة من أهم الدول الأفريقية التي كان يتطلع إلى انحيازها إلى روايته، أو على الأقل وقوفها على الحياد بشأن الجرائم التي يرتكبها، فإذ بها تنحاز لفلسطين وشعبها، وترفض الحياد أو غض الطرف عن جرائم الإبادة التي يرتكبها كيان الاحتلال.

إن مواقف السنغال تلك ستمتد وستؤثر وتنعكس على سائر مواقف الدول الأفريقية، رسمياً وشعبياً. فالسنغال دولة قائدة في القارة الأفريقية ونموذج يُنظر إليه بإعجاب كبير في عموم أفريقيا، ودولة مركزية في منظمة المؤتمر الإٍسلامي، ومواقفها تجاه القضية الفلسطينية تؤثر في قرارات المنظمة تجاه فلسطين والقدس. وبالتالي، فإن مواقف السنغال تجاه القضية الفلسطينية ستُحرج عدة دول عربية وإسلامية، وستدفعها إلى تغيير مواقفها بشأن الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.

إن مواقف السنغال تجاه القضية الفلسطينية ليست طارئة أو مرتبطة فقط بحرب الإبادة التي يشنها كيان الاحتلال على الشعب الفلسطيني، منذ أكثر من 10 شهور.

السنغال نجحت في الـ23 من كانون الأول/ديسمبر 2016، بالتعاون مع فنزويلا وماليزيا ونيوزيلندا، في انتزاع قرار من مجلس الأمن الدولي، رقمة 2334، لإدانة البناء الإسرائيلي في المستوطنات الإسرائيليّة داخل الأراضي الفلسطينيّة. وعُدّ هذا القرار قراراً تاريخيّاً، لأنّ أغلبية مشاريع القرارات ضدّ "إسرائيل" تُرفَض عبر استخدام حقّ الفيتو.

إن نصرة السنغال لفلسطين ضد حرب الإبادة، التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تُعَدّ، في أحد أهم معانيها ودلالاتها، رافعة للصمود وداعمة للمواجهة، وأن فلسطين ليس وحدها. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.