السياسة تجاه الشرق الأوسط والانتخابات الفرنسية.. ماذا يريد ماكرون؟

بين ليبيا ولبنان والعراق وأفغانستان ودول الخليج وسواها، تنوّعت مبادرات الرئيس الفرنسي، ومعها أهدافه، بين سياسيةٍ واقتصاديةٍ، وإن كان معظمها في المحصلة لغاياتٍ انتخابيةٍ.

  • الخرق الأكبر الذي حقّقه ماكرون، فكان في جدار التّعنت السعودي
    الخرق الأكبر الذي حقّقه ماكرون، فكان في جدار التّعنت السعودي

كما فعل سَلَفَاه الجنرال شارل ديغول في الستينيّات وفرانسوا ميتران في الثمانينيّات، يحاول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون خلال العقدين الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين، ومنذ دخوله قصر الإليزيه، أو حتى خلال حملته الانتخابية التي سبقت ذلك، الإيحاء بعودة المبادرات الدبلوماسية والخارجية لبلاده، ولا سيما إلى حيث توجد أزماتٌ خصبةٌ توفّر الأرضية المناسبة لمعارك النفوذ، وهكذا تبدو له منطقة الشرق الأوسط مع تراجع الدور الأميركي فيها.

اليوم، وعلى بُعد 4 أشهرٍ تقريباً من موعد الاستحقاق الرئاسي، يكاد ماكرون لا يفوّت مسرحاً، إلّا ويكون له على خشبته عرض كامل، آملاً أن تصل أصداؤه إلى الداخل الفرنسي، فتتحوّل أصوات التصفيق إلى أصواتٍ انتخابيةٍ في صناديق الاقتراع.

محاولاتُ فتوحاتٍ ماكرونية من بوابة بيروت

بين ليبيا ولبنان والعراق وأفغانستان ودول الخليج وسواها، تنوّعت مبادرات الرئيس الفرنسي، ومعها أهدافه، بين سياسيةٍ واقتصاديةٍ، وإن كان معظمها في المحصلة لغاياتٍ انتخابيةٍ. ما إن سمع العالم صوت انفجار مرفأ بيروت، حتّى حطّت طائرة ماكرون في مطار رفيق الحريري الدولي، وبدأت صولاته وجولاته في المرفأ وقصر الصنوبر ومار مخايل ومنزل السيدة فيروز وغيرها. 

مبادرته أو بالأحرى مبادراته تجاه لبنان، لم تنحصر في الشأن اللبناني المتعلّق بالإصلاحات وتشكيل الحكومة، بل امتدّت أيضاً لتطال أزمات لبنان الخارجية، وآخرها تلك التي افتعلتها السعودية والدول الخليجية التي تبعتها.

إلى دول الخليج الثلاث التي زارها، أي الإمارات وقطر والسعودية، حمل ماكرون الشأن اللبناني ضمن جملة الملفات التي بحثها مع مضيفيه، ولا سيما أن استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي التي جاءت عشية جولته سهّلت مهمته في جدّة تحديداً. 

من الدوحة، قال ماكرون عقب لقائه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني: "استقالة قرداحي تعيد فتح الباب أمام إمكانية استئناف المبادلات والحديث بين لبنان والدول العربية عامةً، والسعودية بشكلٍ خاص".

 أما الخرق الأكبر الذي حقّقه ماكرون، فكان في جدار التّعنت السعودي، حين مرّر الهاتف لولي العهد محمد بن سلمان، ليحدّث رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، في إطار ما قُدّم على أنّه مبادرةٌ فرنسيةٌ - سعوديةٌ لإعادة تفعيل التواصل بين الرّياض وبيروت، علماً أنَّ البيان المشترك الذي صدر عن الثنائي لم يتطرّق إلى أي خطواتٍ فعليةٍ قد تساعد لبنان، ولم يلتزم حدود الأزمة الدبلوماسية، بل طاول بنوداً أخرى تصب مباشرةً في الشأن الداخلي اللبناني، ما يطرح أسئلةً عدّة حول جدوى مبادرات الرئيس الفرنسي تجاه بيروت، ومدى مقاربتها لنواة الأزمة السياسية الاقتصادية التي تخنق لبنان، في مقارنةٍ مع أضغاث ذكريات الانتداب وأوهام إنجازاتٍ خارجيةٍ يروّج لها في السوق الأوروبي عامةً، والفرنسي خاصّةً، وأطماع نفوذٍ فرنسيٍّ في المنطقة مع تراجع الدور الأميركي وبحث حلفائه عن بدائل.

مصالح اقتصادية ضخمةٌ لشركاتٍ فرنسية في دولٍ عربيةٍ

وفدٌ كبيرٌ من رجال أعمالٍ ومسؤولي شركاتٍ فرنسيةٍ رافق ماكرون في زيارته الثلاثية الأخيرة، واستطاع أن يحقق إنجازاتٍ اقتصاديةً تمثّلت بتوقيع صفقاتٍ تجاريةٍ ضخمةٍ لمصلحة الشركات الفرنسية.

في الإمارات، وُقّعت اتفاقيةٌ بقيمة 17 مليار دولار، يتم بموجبها بيع 80 طائرةً مقاتلةً فرنسيةً من طراز "رافال" لأبو ظبي، إضافةً إلى 12 طائرةً مروحيةً من طراز "كاراكال" (Caracal)، ضمن أكبر طلبيةٍ خارجيةٍ من الطائرات الفرنسية المقاتلة خلال 17 عاماً، أي منذ دخولها الخدمة وحتّى اليوم.

وفي جدّة أيضاً، استطاعت شركة "إيرباص" توقيع عقد بيع 26 طائرةً من طرازَي "H145" و"H160" لشركة الطائرات المروحية السعودية. كما وقعت شركة "Veolia Environment" عقداً بقيمة نحو 83 مليون يورو لإدارة خدمات مياه الشرب والصرف الصحي في 23 مدينة سعودية، واتفاق شراكة استراتيجية مع وزارة الاستثمار السعودية.

وفي الدوحة، للشركات الفرنسية اتفاقياتٌ عديدةٌ مستمرة، ولا سيما تلك المتعلقة بمشاريع الطاقة والموارد المائية ومنشآت بطولة كأس العالم "FIFA" قطر 2022. كما أن قطر وقّعت عقود شراء 36 طائرةً مقاتلةً فرنسيةً من طراز "رافال" من شركة "داسو أفياسيون" الفرنسية ((Dassault Aviation في العامين 2015 و2018.

في الفترة التي سبقت زيارة ماكرون الأخيرة، وتحديداً عقب مشاركته في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في آب/أغسطس 2021، وقّع العراق مع شركة "توتال" الفرنسية عقوداً في قطاع النفط والغاز والطاقة، تعدّ أكبر استثماراتٍ أجنبيةٍ في العراق.

من خلال تسويقه الدائم للشركات الفرنسية في سفراته الخارجية، يطمح ماكرون إلى التغطية، ولو جزئياً، على ما يعتبر تحدياتٍ مصيريةً تحاول حكومته مواجهتها في الربع ساعة الأخير الذي يسبق الاستحقاق الرئاسي، ولا سيما مع ارتفاع أسعار الوقود وانخفاض القدرة الشرائية للأسر الفرنسية.

يُذكر أنّ صفعاتٍ متتاليةً ذات طابعِ اقتصاديّ تلقّاها ماكرون (الذي كان وزيراً للاقتصاد في عهد الرئيس فرانسوا هولاند) خلال فترة ولايته، لا تبدأ باحتجاجات السترات الصفر التي خرجت مندّدةً بارتفاع أسعار الوقود والتكاليف المعيشية، ولا تنتهي بإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية. 

الرئيس الفرنسيّ يمكنه أن يرعى صفقاتٍ تجاريةً لمصلحة شركات بلاده، ويمكنه أيضاً أن يقدّم نفسه كعرّابٍ للمبادرات الإقليمية، لكن ذلك، وإن نجح أحياناً، لا يكفي ليقدّم فرنسا كقوةٍ عظمى في الشرق الأوسط أو كحليفٍ بديلٍ من الولايات المتحدة الأميركية، فالتحديات والصراعات والتطورات المتسارعة التي تتحكّم في المشهد الشرق أوسطي، أكثر عمقاً وأشدّ تعقيداً من تكتيكات ماكرون المندرجة ضمن بنودٍ استراتيجيةٍ تجمع بين الحلم الديغولي والرغبة في البقاء في قصر الإليزيه لخمس سنواتٍ أخرى.